لماذا يختلف العلماء

لماذا يختلف العلماء | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2258 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

إذا كان الدين واضحًا فلماذا يختلف العلماء؟
وما موقفنا نحن من هذا الاختلاف؟

 

هذان سؤالان يُطرحان بشكل متكرر عبر شبكات التواصل وفي الندوات الفكرية والأمسيات الشبابية. وقبل عرض الأسباب الداعية لاختلاف العلماء أود أوضح الموقف الخاطئ الذي يقوم به كثير من الناس، وهو الانتقاء من بين الأقوال الفقهية -لا على أساس القُرب من الدليل-، بل على قَدر توافُق القول الفقهي مع ما يحبه ويرغبه ويشتهيه المختار، فينتقي لنفسه القول المحبوب مِن بين أقوال عالِمٍ ما، ثم يرد كثيرا من أقوال نفس هذا العالِم في مسائل أخرى، والمعيار في قبوله ورده هو مقدار قرب القول من مزاجه ورغبته!
 
وإن نوزِع في هذا الاختيار يحتج بأن في المسألة خلافا، ويظن أن مجرد وجود الخلاف إيذانٌ بأن ينتقي من الأقوال ما يشاء!
 
ولاشك أن هذا العمل إنما هو عبارة عن عملية تلفيقية تجميعية، تُركِّب في النهاية صورةً غير شرعية لم يَقُل بها أحد من العلماء بهذا التجميع!

 

وهذا العمل التجميعي الانتقائي، قد تحدث عنه الإمام ابن عبد البر، وهو من علماء المالكية، فقال:

 

«الاختلاف ليس بحجة عند أحدٍ علمتُه من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له، ولا معرفةَ عنده، ولا حجة في قوله».

 

بمعنى أنه ليس للمرء حجة أن يعمل بالشيء لأنه –فقط– فيه اختلاف بين العلماء!
 
إذن، ما الموقف الصحيح من هذا الاختلاف الحاصل بين العلماء؟

 

الجواب، هو:
 
أن نبحث عن الأصوب والأرجح من بين الأقوال على ميزان الكتاب والسنة، وليس على ميزان اعتبار عالم من علماء المسلمين حَكَما -وحده- في كل اختلاف حاصل.

 

ما الدليل على هذا الكلام؟

الدليل أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:٥٩] والرد إلى الله: أي إلى القرآن، والرد للرسول صلى الله عليه وسلم: يكون لشخصه في حياته ولسنته بعد مماته.
 
فالموقف من الاختلاف هو النظر إلى دليل كل قول، وصحة الدليل، ووجه الاستدلال به من حيث اللغة والمعاني الشرعية، ومن ثم الحُكم بالصواب لما كان أقرب موافقة لدلالة الكتاب والسنة.
 
وهذا كله في حال كان الناظر في الاختلاف يمتلك أدوات علمية يستطيع بها الموازنة بين الأقوال وأدلتها ووجوه الاستدلال بها؛ فإذا لم يكن كذلك فإن له أن يقلد مَن يظن أنه بتقليده يقترب مِن النتيجة السابقة، التي هي: الوصولُ إلى مُراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣].

ولِقائل أن يقول: إن كان جميع أطراف الخلاف من أهل العلم مُقِرّينَ بهذه الخطوات، فلماذا يختلفون إذن؟!
سؤال في محلّه، والجواب عنه في هذا العنوان وتفاصيله:

 

أسباب الاختلاف بين العلماء

 

أولًا: عدم بلوغ النصّ الشرعي للعالِم:

من المعلوم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جدًا، وقد وقع لبعض الصحابة رضوان الله عليهم ولطوائف من العلماء بعدهم الفتوى في بعض المسائل خلافًا للدليل بسبب أن الدليل لم يبلغهم اصلًا، وهم معذورون في ذلك. لكن الأمر مختلف بالنسبة لمن بلغه الخلاف في المسألة؛ إذ لا عذر له في الأخذ بقول العالِم الذي لم يبلغه الدليل مع سماعه بقول العالِم الآخر الذي معه الدليل.

مثال ذلك: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أنكر على أبي موسى الأشعري انصرافه من بابه بعد أن استأذن ثلاثًا فلم يؤذن له، فإن أبا موسى كان معه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ من استأذن ثلاثًا فلم يُؤذَن له أنه ينصرف، وكان هذا خافيًا على عمر، مع أن عمر أفقه من أبي موسى بلا نزاع!

ومثل هذا يحصل للفقهاء والعلماء قديمًا وحديثا، أن يخفى على أحدهم دليلٌ صريح في المسألة، فيخالف هذا الدليل لأنه لم يعلمه أصلا، ويكون معذورًا في مخالفته.
لكن، أنت يا من بلغك الخلاف: حين سمعت كلام الطرف الآخر، وعرفت أن معه الدليل، فليس لك عذر في أن تأخذ قول العالم الأول الذي لم يبلغه الدليل.

 

ثانيًا: الاختلاف في فهم الدليل:

بعد غزوة الأحزاب أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤدب بني قريظة على غدرهم فقال للصحابة رضوان الله عليهم مُعجِّلًا إياهم: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِّنكُمُ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»؛ فخرج الصحابة رضوان الله عليهم، وأدركهم وقت صلاة العصر في الطريق، فقالت طائفة منهم: لا نصلي إلاّ في بني قريظة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة أخرى: لم يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا نصلي إلا في بني قريظة لكنه قصد أن يعجّلنا، فصلّوا في الطّريق؛ فلما وصلوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعنّف أي واحد من الفريقين لأنّ الذين صلوا أخذوا بالأمر الإلهي السابق بالصلاة في وقتها، والذين أخروها أخذوا بظاهر الأمر المتأخر بعدم الصلاة إلا في بني قريظة.
إذن فمن أسباب اختلاف العلماء: اختلافهم في فهم الدليل الشرعي.

 

ثالثًا: توهم وجود معارض للدليل:

وذلك أن يكون العالم قد بلغه الحديث، وتكون دلالته واضحة، ولكنه توهم وجود دليل آخر أقوى منه مُعارِض له من آية أو حديث، فيَحْمِل الحديث الذي معه على أنه منسوخ أو أنه في صورة خاصة، أو يُرجح الدليل الآخر عليه إن لم يستطع الجمع بين الدليلين.
 
فما الموقف من الاختلاف الحاصل بهذا السبب؟
 
الجواب هو أن ننظر في موقف العالِم المخالف له والذي جَمَع بين الدليلين، فإذا كان جمعه على برهان واستطاع دفع التعارض المتوهَّم فنسير على قاعدة: (إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما) فيكون القول الذي يؤدي إلى إعمال الدليلين بانسجامٍ أولى من القول بردّ أحدهما.

 

هل الاختلاف رحمة؟

 

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (اختلاف أمتي رحمة) وهذا الأثر لا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة إسناده. وحَكَم المحدثون عليه بالضعف).

هذا من جهة الإسناد، لكن هل هو صحيح المعنى؟ وهل الخلاف رحمة أم لا؟
 
إذا تأملنا أنواع الخلاف الواقع بين العلماء نجد أن بعضه رحمة وسَعَة وتيسير، وهو الذي يكون مع طرفي الخلاف فيه أدلة قريبة من التكافؤ، فيستدل كل طرف على قوله بدليل من القرآن أو من صحيح السنة، وفهمُه للدليل محتمَلٌ ومقبول، ويخلو دليل كُلّ منهما من دليل آخر معارض له راجح، ويبقى الاجتهاد في ترجيح أحد القولين بمجموعة من القرائن؛ فهنا يكون الاختلاف رحمة ويكون الأمر فيه سعة كبيرة، وليس فيه تضييق على الناس، وهذا يُمثّله عدد غير قليل من المسائل الفقهية المختلف فيها بين العلماء، ولا يمنع هذا أن يُعرَف الأصوب من الطرفين.

وأما إذا كان في حالة الاختلاف قولُ مخالفٌ مخالفة صريحة لنص شرعي صحيح ثابت، وليس له معارض صحيح، فليس هناك مساغ لمخالفة النص حينئذٍ، ولا يكون هناك توسعة لمن فقه النص أن يتعلل بالخلاف وسعته.
 
ومن أراد مزيدًا من الاطلاع على أسباب اختلاف أهل العلم فليراجع كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية بعنوان: رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
ومن الحسن التذكير بأن هناك كثيرًا من القضايا الشرعية المتفق عليها بين علماء الإسلام ليس فيها اختلاف بينهم، ومن المهم التركيز على هذه القضايا المتفق عليها لأنها في الغالب تعود إلى العمل المطلوب منا أداؤه شرعًا، ونحن أمة عمل وأمة إنتاج.

 


 

المصدر:

  1. أحمد بن يوسف السيد، كامل الصورة، ص117
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#اختلاف-العلماء
اقرأ أيضا
غربة الدين | مرابط
اقتباسات وقطوف

غربة الدين


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ففي الحديث يكشف لنا الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن واقعنا الذي نعيش فيه الآن فكما كان أهل مكة والعرب بصفة عامة والعالم أجمع يستغرب الرسالة الإسلامية عند نزولها ويستنكر تعاليمها ويحشد كل الجنود لحرب هذه الدعوة عادت الأيام كما كانت الآن وأصبح عموم الناس الآن يستغرب التعاليم الإسلامية

بقلم: د راغب السرجاني
779
الانغماس في حياة الغرب | مرابط
فكر

الانغماس في حياة الغرب


فبقدر ما تنغمس فيهم بقدر ما تصيبك لعنتهم دون أن تشعر فإما تتنازل عن قيمك وتتخلى عنها فتغوص في الرذائل.. أو تداهن وتوارب في قيمهم فتتورط في كوارث.. أو تنبهر بالتعليم واحترام الخصوصيات و و.. فتصير حاكمية الذوق الغربي أهم من حاكمية الدين ويصير فهم الدين بمعايير الإنسانية أهم من فهمه بمعايير أهل العلم!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
499
سأستعمر مصر | مرابط
اقتباسات وقطوف

سأستعمر مصر


سأستعمر مصر كانت هذه هي العبارة التي نزلت كالصاعقة على الجميع عندما تحدث بها نابليون بونابرت وكأنها تكشف نواياه الحقيقية وأطماعه الداخلية في مصر ولكنه يحاول أن يزينها ويحيطها ببعض الحرص على التطوير والتنمية وهذا مقتطف رائع للشيخ محمد جلال كشك من كتاب ودخلت الخيل الأزهر

بقلم: محمد جلال كشك
2394
الاختلاط هم ووهم | مرابط
فكر مقالات المرأة

الاختلاط هم ووهم


من الأقوال المألوفة التي قد اعتدنا على تداولها وتناقلها حتى غدت من الأشياء الملقاة على قارعة الطريق-كما يقول أديب العربية الرافعي- وبلغ التكثيف بها لحد أن يتوهم بعض الناس أنها من المسلمات الفقهية القول بأن المحرم في الشريعة هو الخلوة لا الاختلاط وأن المجتمع المسلم في نشأته الأولى كان مجتمعا مختلطا يجتمع فيه الرجال والنساء ويسوقون في سبيل ذلك النصوص والأدلة الشرعية المؤيدة له وفي هذا المقال يقف المؤلف على إشكالية الاختلاط وما يسوقه المؤيدون له من أدلة مزعومة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1178
لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات الإلحاد

لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر الجزء الأول


يتصور البعض أن وجود الشرور في العالم وانتشار بعض صور الخراب والدمار تعني بصورة ما أنه ليس هناك إلها خالقا مدبرا حكيما لهذا الكون وإلا لما كان يوجد هذا الشر المستطير وعلى النقيض يؤمنون أن وجود الخالق مرهون بانتفاء الشر من العالم وهذه شبهة قديمة يرد عليها الدكتور سامي عامري في هذا المقال ويوضح الخطأ فيها

بقلم: د سامي عامري
2065
سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الرابع ج3 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الرابع ج3


ما البديل لفشل الأمة الإسلامية في العلوم الحياتية هل البديل أن نعتمد على غيرنا فنستورد كل شيء وهل تقوم أمة على أكتاف غيرها بل هل تقوم أمة على أكتاف أعدائها فمعظم الاستيراد يأتينا من بلاد محتلة لنا هل هذا يعقل هل هذا أمر مقبول شرعا هل هذا أمر شرعي أن أكون متخلفا في التصنيع لدرجة أنني أعتمد على عدوي في التصنيع وأستورد منه هذه الأمور

بقلم: د راغب السرجاني
722