محاورة دينية اجتماعية الجزء الثالث

محاورة دينية اجتماعية الجزء الثالث | مرابط

الكاتب: عبد الرحمن بن ناصر السعدي

1575 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

طريق يجمع بين السعادة الدنيوية الأخروية

قال المنصوح: أريد أن تدلني على طريق يجمع بين السعادة الدنيوية والسعادة الأخروية، لأن نفوس من تربَّى وتخلَّق بأخلاق هؤلاء لا ترجع عما ألفته إلا بأمر قوي؛ إما بترغيب وهوى يجذبها، وإما بترهيب وخوف يقمعها.

فقال له صاحبه الناصح: والله لقد أدركت في هذا الدين مطلوبك، وفيه والله كل مرادك ومرغوبك، فإنه الدين الذي جمع بين سعادة الدنيا والآخرة، وفيه اللذات القلبية والروحية والجسدية، ولا تفقد من مطالب النفوس الحقيقية شيئًا إلا أدركته؛ ولا من أنواع المسرات شيئًا إلا حصلته، ففيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وسأوضح لك ذلك؛ فاعلم أن أصول اللذات المطلوبة:
أولًا: راحة القلوب وسكونها وطمأنينتها وفرحها وبهجتها وزوال همومها وغمومها.
ثانيًا: القناعة والطمأنينة بما أُوتيه العبد من المطالب الجسدية.
ثالثًا: استعمال ذلك على وجه يحصل به السرور والاغتباط.

فهذه الأمور الثلاثة من رُزِقها واستعملها على وجهها فقد نال كل ما يتنافس فيه المتنافسون، وأدرك كلَّ ما تعلَّق به طمع الطامعين، فإن جميع اللذات ترجع إلى ما ذكرنا.
 

لذة القلوب

فأما لذات القلوب وحصول سرورها وزوال كدرها؛ فإنما أصل ذلك بالإيمان التام بما دعا الله عباده إلى الإيمان به من الإيمان بتوحده بجميع نعوت الكمال، وامتلاء القلب من تعظيمه وإجلاله، ومن التأله له وعبوديته والإنابة إليه، وإخلاص العمل الظاهر والباطن لوجهه الأعلى، وما يتبع ذلك من النصح لعباد الله ومحبة الخير لهم، وبذل المقدور من نفعهم والإحسان إليهم، والإكثار من ذكر الله والاستغفار والتوبة، فمن أوتي هذه الأمور فقد حصل لقلبه من الهداية والرحمة والنور والسرور وزوال الأكدار والهموم والغموم ما هو نموذج من نعيم الآخرة. وأهل هذا الشأن لا يغبطون أرباب الدنيا والملوك على لذاتهم ورئاساتهم، بل يرون ما أعطوه من هذه الأمور يفوق ما أعطيه هؤلاء بأضعاف مضاعفة. وهذا النعيم القلبي لا يعرفه حق المعرفة إلا من ذاقه وجرَّبه فإنه كما قيل:
من ذاق طعم نعيم القوم يدريه
ومن دراه غدا بالروح يشريه
فهذا إشارة لطريق هذا النعيم القلبي الذي هو أصل كل نعيم.

 

القوة والصحة

وأما الأمر الثاني؛ فإن الله أعطى العباد القوة والصحة، وما يتبع ذلك من مال وأهل وولد وخول وغيرها، والناس بالنسبة لهذه الأشياء نوعان؛ قسم صارت هذه النعم وتلقوها على وجه الشكر لله، والاغتباط بفضله، وتناولوها على وجه الاستعانة بها على طاعة المنعم، وعلموا أنها من أكبر الوسائل لهم إلى رضى ربهم وخيره وثوابه إذا استعملوها فيما هُيِّئت له وخُلِقت له، وقد رضوا بها عن الله كلَّ الرضى، فإنهم علموا أنها من عند الله الذي له الحكمة التامة في جميع أقضيته وأقداره، وله الرحمة الواسعة في جميع تدابيره، وله النعمة السابغة في كل عطاياه، وهو أرحم بهم من الخلق أجمعين، فحيث علموا العلم اليقيني صدورها ممن هذا شأنه قنعوا بما أعطوه منها؛ من قليل وكثير كلَّ القناعة، وسكنت قلوبهم عن التطلع والتطلب لما لم يقدر لهم.

ومتى حصلت الطمأنينة والقناعة والرضى عن الله بما أعطى فقد حصلت الحياة الطيبة، فإذا أدركت حق الإدراك نعتهم هذا عرفت أن نعيم الدنيا في الحقيقة هو نعيم القناعة برزق الله، وطمأنينة القلوب بذكر الله وطاعته. إن الواحد من هؤلاء لو لم يكن عنده من هذه الأمور؛ وهي القوة والصحة، والمال والأهل والولد، وتوابع ذلك، إلا الشيء القليل، لكان في راحة وسرور من جهتين: جهة القناعة، وعدم تطلع النفس وتشوفها للأمور التي لم تحصل، وجهة ما ترجوه من ثواب الله العاجل والآجل على هذه العبادة القلبية التي تزيد على كثير من العبادات البدنية. فإن التعبد لله بمعرفة نعمه، والاعتراف بها، والرضى بها، والرجاء لله أن يديمها ويتمها، وأن يجعلها وسيلة إلى نعم أخرى، وأن يجعلها طريقًا للسعادة الأبدية، لا ريب أن هذه الأحوال القلبية من أفضل الطاعات وأجلِّ القربات.

فكم بين سرور هذا الذي تعبَّد بروح الدين وحصلت له الحياة الطيبة، وبين من تلقَّى هذه النعم بالغفلة وعدم الاعتراف بنعمة المنعم، وشقى بهمومها وغمومها، وكان إذا حصل له شيء من مطالب النفوس لم يرض به، بل تشوَّف إلى غيره، وتطلَّع لسواه، فهذا يتنقل من كدر إلى كدر آخر؛ لأن قلبه قد تعلَّق تعلقًا شديدًا بمطالب الجسد، فحيث جاءت على خلاف ما يؤمِّله ويريده، قلق أشد القلق، وهو لا يزال في قلق مستمر؛ لأن المطالب النفسية متنوعة جدًّا، فلو وافقه واحد لم يوافقه الآخر، ولو أرضاه واحد كدَّره الآخر، وربما اجتمع في الشيء الواحد سرور من وجه، وحزن من وجه آخر، فصفوه ممزوج بكدره، وسروره مختلط بحزنه، فأين الحياة الطيبة لهذا؟!
وإنما الحياة الطيبة لأرباب البصائر والحجى الذين يتلقَّونها كلها بالقبول والقناعة والرضى.
 

جهة استعمال النعم

وأما الأمر الثالث، وهو جهة استعمال هذه النعم؛ فصاحب الدين الصحيح يتناولها على وجه الشكر لله على نعمه، والفرح بفضله، وينوي بها التقوي على ما خُلِق له من عبادة الله وطاعته، وينفقها محتسبًا بها رضى الله وفضله وخلفه العاجل والآجل. ويعلم أنه إذا أنفق على نفسه وأهله أو ولده أو من يتصل به، فإنما نفقته صادفت محلها، ووقعت موقعها، فلم يتثاقل كثرة النفقة في هذا الطريق؛ لأنه يقول معتقدًا: هذا أولى ما بذلت فيه مالي، وهذا ألزم ما قمت به من الواجبات والفروض، وهذا خير ما قمت به من المستحبات، وهذا أعظم ما أرجو له الخلف من الله، حيث يقول وهو الكريم الوفي: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] . ولا يزال نصب عينيه احتساب الأجر في سعيه بكسبه وفي مصرفه أجناس ذلك وأنواعه وأفراده، متفطنًا لقوله: (على أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْت عليها حتى ما تجعله في في امرأتك).

فمن كان هذا وصفه فإن لذاته الدنيوية هي اللذات الحقيقية السالمة من الأكدار مهما يرجو من الثواب العاجل والآجل من الله، ومن كانت هذه صفته سهل عليه الأخذ من حلها، ووضعها في محلها، ويسرت له أموره غاية التيسير.

وأما من استعمل هذه النعم على وجه الشره والغفلة ولم يفكر في الاعتراف بفضل الله في كل الأوقات وبنعم الله، ولم يفرح بالنعم؛ لأنها من فضل الله، بل فرح بها فقط لموافقة غرضه النفسي، ولا نوى بها الاستعانة على طاعة الله، ولا احتسب في نيلها وصرفها على المنفَق عليهم الأجر والثواب، فمن كان هذا وصفه، فإن الكدر والحزن له بالمرصاد؛ فإنه إذا فاتته بعض الشهوات النفسية حزن، وإن أدرك ما أدركه منها، ولم يكن على ما في خاطره من كل وجه حزن، وإن أراد منه ولده ومن يتصل به نفقة أو كسوة واجبة أو مستحبة حزن، ولم تخرج منه إلا بشق الأنفس، وإن خرجت منه خرج معها بضعة من سرور قلبه؛ لأنه يحب بقاء ماله ويحزن لنقصه على أي وجه كان، وليس عنده من الاحتساب ما يهون عليه الأمر، هذا إن كان غير بخيل، فإن كان شحيح النفس مطبوعًا على البخل، فإن حياته مع أولاده وأهله والمتصلين به حياة شقاء وعذاب وأكدار متواصلة وأحزان مستمرة، لا إيمان عنده يهون عليه النفقات، ولا نفس سخية لا تستعصي عن نيل المكرمات، فيا له من عذاب حاضر وعذاب مستمر! فأين هذا من ذاك الذي حصلت له الحياة الطيبة بأكملها؟!

هذا كله بالنظر إلى هذه الأمور الثلاثة التي هي أصل اللذات عند العقلاء، قد اتضح لنا أن صاحب الإيمان الصحيح هو الذي فاز باللذات الحقيقية، وسلم من المكدرات.

 


 

المصدر:

  1. مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة (1343هـ - 1383هـ)، جمع وترتيب: أحمد الجماز و عبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء – الرياض، ط1: 1431هـ. (1/251)
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مناظرات #الإلحاد
اقرأ أيضا
النفس جبل عظيم شاق | مرابط
اقتباسات وقطوف

النفس جبل عظيم شاق


النفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز وجل وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل فلابد أن ينتهي إليه ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه وإنه ليسير على من يسره الله عليه.

بقلم: ابن القيم
630
الأعياد من جملة الشرع | مرابط
اقتباسات وقطوف

الأعياد من جملة الشرع


إن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه : لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه الحج67 كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
603
ماذا يعلمك القرآن؟ | مرابط
تعزيز اليقين

ماذا يعلمك القرآن؟


يعلمك القرآن أن التميز يصنع الأعداء حتى من أقرب الناس إليك كما في قصة يوسف فإياك أن تدخل معارك مع حاسديك مهما كنت قادرا على الانتصار فالحاسد مشروعه إيقافك ونجاحه في أن تلتفت إليه ولذلك حدد هدفك بوضوح وكل معركة ليست على جبهة هذا الهدف لا تلتفت إليها.

بقلم: د. نايف بن نهار
416
من أسباب ضياع الوقت | مرابط
تفريغات اقتباسات وقطوف

من أسباب ضياع الوقت


الوقت المستغل هو الوقت الذي نقضيه في الوفاء بالتزاماتنا الوظيفية والإنتاجية وكذلك الوقت الذي نقضيه فيما يعد مهما للبقاء على قيد الحياة مثل: النوم والأكل والرياضة والعناية بالصحة أما وقت الفراغ فهو الوقت الذي يمضي دون أن نقوم بأي عمل مفيد أو مهم إنه وقت يمضي دون أن نعرف ماذا نصنع به هناك نوع من أوقات الفراغ يضيع أثناء تأديتنا لأعمالنا وذلك حين لا نؤدي أعمالنا بطريقة صحيحة وجادة كما هو شأن كثير من الموظفين

بقلم: د عبد الكريم بكار
730
أسباب الوضع المأساوي للمسلمين اليوم | مرابط
تفريغات

أسباب الوضع المأساوي للمسلمين اليوم


إن المشكلة ليست مشكلة دولة أو مجتمع أو فرد وإنما هي مشكلة أمة كاملة أمة عاشت سنوات تقود غيرها فإذا بها اليوم تقاد أمة رفعت رأسها قرونا فإذا هي اليوم تطأطئ رأسها للشرق وللغرب أمة ظلت دهرا تعلم الناس الخير وتضرب لهم الأمثال في الأخلاق وتأخذ بأيديهم إلى طريق الله عز وجل فإذا بها بعد أن عرفت طريق الهدى وعرفت به تتبع هذا وذاك وهذه مشكلة خطيرة

بقلم: د راغب السرجاني
825
حب العربية | مرابط
لسانيات اقتباسات وقطوف

حب العربية


من أحب الله -تعالى- أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ومن أحب الرسول العربي أحب العرب ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته إليها

بقلم: الثعالبي
444