مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج2

مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج2 | مرابط

الكاتب: الدكتور عبدالرحيم بن صمايل السلمي

1274 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

تابع: أولويات الخطاب المدني الديمقراطي:

والحرية التي يتحدث عنها هذا الخطاب هي الحرية السياسية ولهذا يقرنها مع ضدها وهو الاستبداد، وبعض الإخوة من المتأثرين بهذا الخطاب الذين لا تزال للعقيدة مكانة عندهم يزعمون أنهم يقصدون بالحرية التحرر من رق المخلوقين وهذا عين التوحيد، ومع أن السائد في كتابات هذا الخطاب المعنى الأول إلاّ أن هذا الزعم لبعضهم يدل على الاضطراب في خطابهم، ولهذا نقول لإخواننا هؤلاء إذا كنتم تقصدون بالحرية عين التوحيد فلماذا لا تسمون الأمور بأسمائها الشرعية وتتكلمون بما تكلم به الله ورسوله وهو التوحيد؟ ولماذا لم تفكروا في سبب ترك الشرع للفظ الحرية والاستغناء عنه بالتوحيد؟ ثم إن الإشكال ليس هنا فحسب بل يتجاوزه إلى أن الحرية مفهوم عام يشمل ما يكون حقًا وباطلًا، ولا يتميز الإّ بنية القلب، وهذه النية القلبية - إذا كانت مخلصة لله تعالى - هي التوحيد، ولهذا استعمل الشرع لفظ التوحيد ولم يستعمل لفظ الحرية لهذا الغرض التعبدي الإيماني الذي هو مقصود الشرع.

وهذا الخطاب المدني يستند في إطلاق أولوية الحرية السياسية إلى أهمية الحرية وفوائدها، ومخاطر الاستبداد، وقد تقدم أن الكلام في الأهمية متفق عليه، ولكن الخلاف في الأولوية على العقيدة، وهو مالم يأتوا بدليل شرعي صحيح عليها، ولا يمكن لهم ذلك، لأنها مخالفة للإجماع، فلم يقل أي عالم معتبر بأولوية الحرية في اختيار الحاكم على العقيدة والتوحيد، كما لم يوجد من يقول بأن الاستبداد أكبر عند الله تعالى من الشرك والبدع.
 
ومن أكبر الأخطاء المنهجية لدى هذا الخطاب بعد دعوى أولوية الحرية على العقيدة هو أنه جعل الحرية - التي لها كل هذه القيمة على العقيدة - وسيلة إجرائية معينة في اختيار الحاكم وهي الديمقراطية، فقد زعم هذا الخطاب أن الحرية لا يمكن أن تتحقق إلا بالديمقراطية، وهو يقصد الديمقراطية كآليات إدارية إجرائية تتيح الحريات ويتم اختيار الحاكم فيها من الشعب، ومع أنني أختلف معهم في الديمقراطية كآليات تحقق الحرية ولكن محور نقدي ليس في هذه القضية بل يتجاوزها إلى اعتبار كلامهم هذا من المجازفة والتهور الغريب؛ إذ كيف يجوز أن تجعل وسيلة إجرائية - مهما كانت مهمة - ذات أولوية على العقيدة والتوحيد، يا سبحان الله أين ذهبت عقول هؤلاء الإخوة فضلًا عن ديانتهم؟!.
 
 إن أكبر ما يستدل به من أباح الديمقراطية عند من شم رائحة العلم الشرعي هو أن الشريعة الإسلامية تركت الوسائل الإجرائية في اختيار الحاكم للأمة، فهي عندهم من الامور الدنيوية وليست من الأمور الدينية، فهل يليق بالمسلم أن يجعل اختراعًا إداريًا دنيويًا مثل الأمور التي أمر الله تعالى بها، ورتب النجاة في الدنيا والآخرة عليها؟
 
لو كانت وسائل اختيار الحاكم لها هذه المنزلة العظيمة في دين الإسلام لما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبين أولويتها على التوحيد الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام!!
 
إنني لا أقلل من أهمية الحرية ومخاطر الاستبداد ومشاكله الكبرى في الأمة لكن أن يجعل ذلك مبررًا لدعوى الأولوية على العقيدة، فهذا هو الانحراف الذي يجب نصح هؤلاء عنه.
 
إن هذه الحالة والمحنة التي يعيشها هذا الخطاب تشابه إلى درجة كبيرة حالة المتكلمين الذين عظموا العقل ( وأهمية العقل لا تخفى !! )كما عظم هؤلاء الحرية، ثم زعموا أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا بالنظر العقلي، ولا يتحقق النظر إلا بدليل حدوث الأجسام، تماما كما قال هذا الخطاب أن الحرية لا تتحقق إلا بالديمقراطية، فالمتكلمون جعلوا دليل حدوث الأجسام هو العقل الذي يعارضون به النصوص، والخطاب المدني جعل الديمقراطية هي الحرية يعارضون بها الشرع فيما يظنون انه يقيد الحرية، والطائفتان قدمت ما تعظمه على التوحيد، وجعلته أول واجب على المكلف.
 
إن الحرية وحدها لا تتضمن طاعة إلاّ إذا قصد الإنسان بها وجه الله تعالى، وهذا مفترق الطرق بين الخطاب المدني الدنيوي، والخطاب الديني التعبدي، وبدون هذا القصد فإنه لا يوجد فرق بين الشخصيات المسلمة وغير المسلمة، فشخصية ثائرة مثل غيفارا كان يشدوا الحرية، وكذلك ثوار الثورة الفرنسية ولكنها حرية مدنية ديمقراطية مشركة مهما حققت من المصالح الدنيوية، ولهذا ما لم يمحص هذا الخطاب منطلقه ويراجع مرجعيته وينفذها في الواقع ويستعمل المفاهيم والمصطلحات الشرعية فإنه سيظل سائرًا في طريق العلمنة مهما زعم أنه ذو مرجعية إسلامية، فالدعاوى لا بد لها من إثبات، وإثباتها يتبين من خلال الكلام التفصيلي، فبعض الحكومات العربية تدعي أنها ديمقراطية ولم يقبل هذا الخطاب دعواها.
 
لقد حوّل هذا الخطاب الحرية والمدنية من وسيلة لتحقيق المقاصد التعبدية إلى غاية في ذاتها، بل جعلوا لها الأولوية على العقيدة والتوحيد، ولهذا أصبح بعض الإخوة يهيم بالحرية أيًّا كان مقصدها وهدفها فتجد الإشادة والإعجاب والفرح بأحرار فرنسا وحركة التنوير فلا تفارقهم عبارات فولتير وغيره من ملاحدة الثورة الفرنسية، بل تجاوزوها إلى أقوال غيفارا والزعماء الشيوعيين، بل ربما يتمنى الموت في سبيل الحرية!!.
 
إن القارئ لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سوف يجد أن الغاية من الوجود الإنساني على الأرض هو التعبد لله بمعناه الشامل، وكل ما يتعلق بالبناء الدنيوي بكل أشكاله هو وسيلة لتحقيق هذه الغاية، ولهذا قارن الله تعالى بينهما في قوله: " يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"، وتعظيم المدنية على حساب الدين لم يكن هذا الخطاب هو السابق له، فقد سبقت المدرسة العصرانية له من فترة طويلة، وأذكر أني قرأت لكاتب إسلامي يقول كيف يجوز أن نعتقد أن أديسون المخترع للكهرباء ونفع الإنسانية سوف يدخل النار لأنه لم يسلم، وفلاح مصري أحمق يدخل الجنة لأنه مسلم، فهذا الكاتب الإسلامي !! لم يدرك عقله ذلك لأن ميزان الأولويات في ذهنه مختل، وعلى كتب هؤلاء يعتمد بعض كتاب الخطاب المدني الديمقراطي.
 
إنني ناصح لهؤلاء الإخوة أن يراجعوا أفكارهم، وأن لا تنسيهم السكرة خطورة الفكرة، وأن يتجاوزوا المراهقة والاستفزاز، وأن يعلموا أن المحافظة على حقائق الدين أهم من أي مكاسب مظنونة فهي المكسب الأعلى، وأن يبحثوا المسائل بطريقة شرعية سليمة، واذا كانوا لا يمتلكون أدوات البحث الشرعي فإن السكوت خير لهم من النطق الآثم.
 
إنني أتعجب من هؤلاء الإخوة الذين يتكلمون عن النهضة وسننها الكونية ثم يمارسون دورًا سلبيًا في الساحة لن يحقق إلا الاستفزاز والصخب الذي يزول دون أي أثر نهضوي.
 
فما يقومون به من  استفزاز ونقد سلبي لن يوصل إلى نهضة أو حرية أو ديمقراطية بل يكرس التفرق والفوضى والمخالفة للأحكام الشرعية، والكلام في الدين بغير علم، ونحو ذلك من السلبيات.
 
الغريب حقًا أنهم يسعون إلى التقارب مع التيارات الفكرية الأخرى بحجة الوحدة الوطنية في الوقت الذي يكرسون التفرق والاختلاف مع المنهج السلفي الأقوى علما،ً ودعوة، وصدقًا بالأفكار المخالفة للشرع، والأساليب البعيدة عن روح النصح.

 


 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الديمقراطية
اقرأ أيضا
الرسول والرسالة | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

الرسول والرسالة


حوار ماتع يدور بين متشكك ومتيقن الأول هو أبو الحكم والثاني هو الكاتب حسام الدين حامد وفي هذا المقال المقتطف من كتابه المفيد لا أعلم هويتي يدور الحديث حول إثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بطريق ميسورة وبسيطة حيث يخاطب الكاتب العقل مباشرة مع عرض الأدلة بشكل مباشر

بقلم: د حسام الدين حامد
2149
مقارنة الإسلام بالجاهلية | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

مقارنة الإسلام بالجاهلية


إن من أهم ما يبرز محاسن الإسلام ويرسخها في النفس: النظر إلى أحوال الجاهلية -سواء ما كان منها متقدما على الإسلام أو متأخرا عن بدايته- ورؤية الجانب الإصلاحي العظيم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في مقابل ما كان منتشرا ومتجذرا في نفوس العرب من الناحية الاعتقادية والسلوكية ومن ناحية العادات والأعراف والتقاليد

بقلم: أحمد يوسف السيد
829
مقصود العبادات عند الفلاسفة | مرابط
اقتباسات وقطوف

مقصود العبادات عند الفلاسفة


اهتم شيخ الإسلام بالرد على الفلاسفة من أهل الإسلام وغيرهم في تفسيرهم للدين ورؤيتهم له وفي هذا المقتطف من كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح يعرض لنا رؤية المتفلسفة للعبادات في الإسلام ومن اشترك معهم في رؤيتهم من الفلاسفة المنتمين للمسلمين

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1011
موقف الفكر الإسلامي من العلمانية ج2 | مرابط
تفريغات

موقف الفكر الإسلامي من العلمانية ج2


ولو نظرنا إلى العلمانية من هذه النظرة لوجدنا أن القضية قضية توحيد دعا إليه الرسل جميعا ونزلت به الكتب جميعا يقابله شرك وجهل وجاهلية وخرافات وردود فعل بشرية جاءت في فترات معينة في قوم معينين لا يصلح بأي حال أن يكون مبدأ أو منهجا يسير عليه البشر جميعا في كل مكان ولا سيما من كان الوحي النقي بين أيديهم وفي متناولهم ويقرءونه ويتلونه ليلا ونهارا فمن هذه القضية يبدأ الموضوع

بقلم: سفر الحوالي
822
ضرر الذنوب في القلب | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرر الذنوب في القلب


ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر ولا بد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب

بقلم: ابن القيم
357
من الأمور التي أحبها الله لنا | مرابط
تفريغات

من الأمور التي أحبها الله لنا


فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى الله لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تنصحوا لولاة أموركم ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال

بقلم: عمر الأشقر
1302