مشكلة خفاء الله

مشكلة خفاء الله | مرابط

الكاتب: سامي عامري

1903 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الشبهة

يعترض الملاحدة على دعوى وجود إله بالقول: إذا كان الإله موجودًا حقيقة، فيجب أن يكون وجوده شديد الظهور؛ فلا يرتاب فيه بشر يدرك يمينه من شماله.. ولكن واقعنا اليوم يُخبر أن طوائف من الناس (ملحدة) لا تجد حجة تلزمها بهذا الاعتقاد.
 
الجواب: تُعرف هذه الشبهة المنتشرة بين الملاحدة بمشكلة "الخفاء الإلهي" "divine hiddenness" وهي تقوم على زعمين، أولهما: أنه إذا كان الله موجودًا، فلا بد أن يكون وجوده واضحًا للجميع بلا أدنى ريبة، وثانيهما: أن وجود الله غير بيّن لجُل الناس..

 

والجواب من أوجه:

 

العلم بوجود الله

أولًا: العلم بوجود الله حقيقة أطبقت عليها الأمم السابقة، حتى قال عامة الفلاسفة قبل قرون: إن أعظم حجة على وجود الله تواطؤ الناس على ذلك، وهو ما يعرف بحجة "Consensus gentium" وذاك برهان عملي أنه وجود غير خفي؛ بل ظاهر للبليد والذكي على مر القرون وتتابع الحضارات، وقد أصابه ساكن غابات الأمازون، والعاكف على النظر في مكتبات بغداد القديمة.
 
والإلحاد شذوذ طارئ لم يبدأ رصده كظاهرة جماعية إلا في آخر القرن التاسع عشر، وبداية العشرين، وكفى بذلك برهانا على وضوح وجود الله ودنوه من عقل الإنسان، وقد كانت دعوة الأنبياء دائمًا متجهة إلى إفراد الرب بالطاعة لا إثبات وجود الخالق؛ فلم يكن أمر الخالق مصدرًا لنزاع لالتزام السابقين فهم الكون أنه أثر عن عظيم أو عظماء من غير جنس البشر.
 

أدلة وجود الله في كل شيء

ثانيًا: الناظر بعدل وعمق في أدلة وجود الله يرى أنها تتخذ الوجود كله حجة لمطلبها؛ النفس والعقل والقلب.. والزمان والمكان والمادة والحياة.. أصل الوجود وطبيعته ومآله.. ظواهر السماء ومحافل الأرض.. حال الأمس، وواقع اليوم، ورجاء الغد.. بسط الرخاء والنعمة، وغصة الضيق والشدة.. فلم تذر لرأي المخالف مجالا للمناجزة.. بل اتخذت من حجج المخالف للإلحاد (مثل مشكلة الشر) حجة للإيمان بطريق سديدة.
 

ارتباط الإنسان بعبادة الله والتوجه إليه

ثالثًا: خلق الله الإنسان ليتجه إليه بالإيمان والعبادة، وزوده لذلك بثلاثة دوافع تضمن له بلوغ الإيمان بالله وتوحيده إذا سلمت من فاسد الموانع، وهي:
 
أ- ختم الميثاث الأول: قال تعالى "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ" وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول لأهون أهل النار عذابًا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم! قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك". فالختم الأول في النفس الإنسانية الميثاق الذي أخذ على المرء قبل أن يخرج من ضيق الرحم إلى فسيح الأرض، وهو أن يعبد الله لا يشرك به شيئًا.
 
ب- الفطرة: الفطرة هي الحال الأولي للنفس، وهي تظهر -بالفعل، بعد كمونها بالقوة- عند نضوج العقل؛ بالتمييز بين الحق والباطل، حيث تكون مستعدة للميل إلى الإيمان؛ بل منجذبة إليه. قال تعالى "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"
 
ت- العقل: العقل آلة النظر في الكون، ومعرفة الأسباب بآثارها. والنظر في الكون والنفس كفيل بهداية الإنسان إلى الحق في أمر الخالق ووحدانيته، قال تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"

 

التأصيل الفلسفي للإلحاد

رابعًا: التأصيل الفلسفي للإلحاد -كما هو عند عامة رؤوس الملاحدة- لا ينتهي عند إنكار وجود إله، وإنما يجمع مع ذلك -وإن دون تصريح أو التزام من عامة الملاحدة- الشك في العقل والحس -كما سبق، وسيأتي معنا في هذا الكتاب-؛ والشك في الحس عمى، والقدح في العقل جنون..
 

دلائل وجود الله والإرادة الإنسانية

خامسًا: ظهور دلائل الوجود الإلهي في كون خلق فيه الناس للاختبار في باب التصديق والفعل، ليس هو الظهور القهري الذي يشُلّ إرادة الإنسان عن النكران، ويمنعه موقف الرفض والامتناع؛ ولذلك فمحض وجود منكرين لوجود إله ليس مما يحتج به منصف لإنكار التجلي الإلهي في باب الآثار، إذ قد أريد لهذا الوجود أن يقسم الناس إلى فسطاطين: فسطاط المنيبين، وفسطاط الجاحدين.

 

"كل دين لا يقول إن الإله خفي، ليس دينًا حقًا". الفيلسوف (بليز باسكال)

 

إن "البرهان المقنع" المتوهم في العقل الإلحادي هو ذاك الذي يقمع الإرادة الحرة ويمنعها من الاختيار بين الإيمان والكفران، وهو خصيم طبيعة الإيمان الديني الذي يمدح الإيمان بالغيب لأنه طريق السالكين في الدُّلجة إلى الحقيق. قال تعالى "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ" وقال سبحانه "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"
 
وهذا الخفاء الإلهي -غير الكلي، وغير الملغز- هو الذي يحفز الدهري إلى أن يبحث عن معنى الحياة، ويجد في طلب ذلك، وهو أيضًا الذي يدفع المؤمن إلى أن يجتهد في العلو في مراقي المعرفة حتى يبلغ مرتبة القائل "لو كشف الغطاء؛ ما ازددت يقينًا" فهو واقع إيجابي يدفع النفس الخاملة إلى أن تثور على كسلها وتفك غمامة الجهل لتعرف الرب عن قصد وحب.

 

"محاولتك بيان الحق لمن لا يحبه، لا تعدو أن تكون بذلا لمزيد من الأفكار ليسيء تفسيره" (جورج ماك دونالد)

 


 

المصدر:

سامي عامري، براهين وجود الله، ص145

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#سامي-عامري #أدلة-وجود-الله
اقرأ أيضا
مخالفة المرجئة لمنهج السلف: إخراج العمل عن الإيمان | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين تفريغات مناقشات

مخالفة المرجئة لمنهج السلف: إخراج العمل عن الإيمان


ومنهج أهل السنة والجماعة في قضايا الإيمان والتوحيد أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وهذا خلافا للمرجئة فالإيمان بإجماع أهل السنة والجماعة: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان والإيمان قول وعمل القول باللسان فإذن قول القلب وعمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح الإيمان حقيقة مركبة من هذه الأشياء الأربعة وفي هذا المقال بيان لحقيقة الإيمان وخلاف المرجئة فيه

بقلم: محمد صالح المنجد
1277
ضوابط الخلاف الفقهي | مرابط
تفريغات

ضوابط الخلاف الفقهي


تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ الألباني يرد فيها على سؤال وصله من أحد الطلاب وهو: ما رأيكم في هذه العبارة التي قررها كاتب إسلامي كبير قال هذا الكاتب: والبدعة الإضافية والتركية والالتزام بها في العبادات المطلقة خلاف فقهي لكل فيه رأيه ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل

بقلم: الشيخ الألباني
1073
التفريق بين الأطفال في المضاجع | مرابط
مقالات

التفريق بين الأطفال في المضاجع


قال النبي ﷺ:مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع 1 فقوله: وفرقوا بينهم في المضاجع أي: في المراقد وذلك لأنهم إذا بلغوا إلى عشر سنين يقربون من أدنى حد البلوغ وينتشر عليهم آلاتهم فيخاف عليهم من الفساد 2

بقلم: قاسم اكحيلات
911
حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد ج2 | مرابط
تفريغات

حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد ج2


بين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للدكتور راغب السرجاني يدور حول الاجتياح المغولي للعراق والذي يعتبر من أبرز الأحداث في تاريخنا الإسلامي حيث يحمل الكثير من المآسي والعبر والدروس التي يجب أن نتعلمها فيما يخص تعامل المسلمين مع الأعداء

بقلم: راغب السرجاني
751
الفائدة في خلق ما يؤذي | مرابط
اقتباسات وقطوف

الفائدة في خلق ما يؤذي


إن قال قائل: أي فائدة في خلق ما يؤذي؟! فالجواب: أنه قد ثبتت حكمة الخالق فإذا خفيت في بعض الأمور وجب التسليم ثم إن المستحسنات في الجملة أنموذج ما أعد من الثواب والمؤذيات أنموذج ما أعد من العقاب وما خلق شيء يضر إلا وفيه منفعة.

بقلم: ابن الجوزي
288
دليل مباشر على وجود الخالق سبحانه | مرابط
تعزيز اليقين الإلحاد

دليل مباشر على وجود الخالق سبحانه


أيها الملحد! إذا أعطيتك كتالوج كتاب- به كل مواصفاتك وبرمجة كاملة لمنظوماتك الوظيفية طولك ولون عينيك ووظائف أعضائك ونوع شعرك وكمية البروتين التي تحتاجها عضلاتك والقوانين التي تحكم أجهزة جسدك وسرعة النبضة الكهربية في أعصابك ومعدلات ضخ الدم في قلبك ومعدلات إفراز الهرمونات في غددك إلى جانب كل ذلك تفصيل دقيق لكل وظائفك الحيوية وطريقة تصنيع كرات دمك وأنظمة الهضم والإخراج والأيض وكل ما يختص بالوظائف البيولوجية لجسدك.. هل ما زلت تجادل في خالقك؟

بقلم: د. هيثم طلعت
402