مشكلة خفاء الله

مشكلة خفاء الله | مرابط

الكاتب: سامي عامري

1779 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الشبهة

يعترض الملاحدة على دعوى وجود إله بالقول: إذا كان الإله موجودًا حقيقة، فيجب أن يكون وجوده شديد الظهور؛ فلا يرتاب فيه بشر يدرك يمينه من شماله.. ولكن واقعنا اليوم يُخبر أن طوائف من الناس (ملحدة) لا تجد حجة تلزمها بهذا الاعتقاد.
 
الجواب: تُعرف هذه الشبهة المنتشرة بين الملاحدة بمشكلة "الخفاء الإلهي" "divine hiddenness" وهي تقوم على زعمين، أولهما: أنه إذا كان الله موجودًا، فلا بد أن يكون وجوده واضحًا للجميع بلا أدنى ريبة، وثانيهما: أن وجود الله غير بيّن لجُل الناس..

 

والجواب من أوجه:

 

العلم بوجود الله

أولًا: العلم بوجود الله حقيقة أطبقت عليها الأمم السابقة، حتى قال عامة الفلاسفة قبل قرون: إن أعظم حجة على وجود الله تواطؤ الناس على ذلك، وهو ما يعرف بحجة "Consensus gentium" وذاك برهان عملي أنه وجود غير خفي؛ بل ظاهر للبليد والذكي على مر القرون وتتابع الحضارات، وقد أصابه ساكن غابات الأمازون، والعاكف على النظر في مكتبات بغداد القديمة.
 
والإلحاد شذوذ طارئ لم يبدأ رصده كظاهرة جماعية إلا في آخر القرن التاسع عشر، وبداية العشرين، وكفى بذلك برهانا على وضوح وجود الله ودنوه من عقل الإنسان، وقد كانت دعوة الأنبياء دائمًا متجهة إلى إفراد الرب بالطاعة لا إثبات وجود الخالق؛ فلم يكن أمر الخالق مصدرًا لنزاع لالتزام السابقين فهم الكون أنه أثر عن عظيم أو عظماء من غير جنس البشر.
 

أدلة وجود الله في كل شيء

ثانيًا: الناظر بعدل وعمق في أدلة وجود الله يرى أنها تتخذ الوجود كله حجة لمطلبها؛ النفس والعقل والقلب.. والزمان والمكان والمادة والحياة.. أصل الوجود وطبيعته ومآله.. ظواهر السماء ومحافل الأرض.. حال الأمس، وواقع اليوم، ورجاء الغد.. بسط الرخاء والنعمة، وغصة الضيق والشدة.. فلم تذر لرأي المخالف مجالا للمناجزة.. بل اتخذت من حجج المخالف للإلحاد (مثل مشكلة الشر) حجة للإيمان بطريق سديدة.
 

ارتباط الإنسان بعبادة الله والتوجه إليه

ثالثًا: خلق الله الإنسان ليتجه إليه بالإيمان والعبادة، وزوده لذلك بثلاثة دوافع تضمن له بلوغ الإيمان بالله وتوحيده إذا سلمت من فاسد الموانع، وهي:
 
أ- ختم الميثاث الأول: قال تعالى "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ" وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول لأهون أهل النار عذابًا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم! قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك". فالختم الأول في النفس الإنسانية الميثاق الذي أخذ على المرء قبل أن يخرج من ضيق الرحم إلى فسيح الأرض، وهو أن يعبد الله لا يشرك به شيئًا.
 
ب- الفطرة: الفطرة هي الحال الأولي للنفس، وهي تظهر -بالفعل، بعد كمونها بالقوة- عند نضوج العقل؛ بالتمييز بين الحق والباطل، حيث تكون مستعدة للميل إلى الإيمان؛ بل منجذبة إليه. قال تعالى "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"
 
ت- العقل: العقل آلة النظر في الكون، ومعرفة الأسباب بآثارها. والنظر في الكون والنفس كفيل بهداية الإنسان إلى الحق في أمر الخالق ووحدانيته، قال تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"

 

التأصيل الفلسفي للإلحاد

رابعًا: التأصيل الفلسفي للإلحاد -كما هو عند عامة رؤوس الملاحدة- لا ينتهي عند إنكار وجود إله، وإنما يجمع مع ذلك -وإن دون تصريح أو التزام من عامة الملاحدة- الشك في العقل والحس -كما سبق، وسيأتي معنا في هذا الكتاب-؛ والشك في الحس عمى، والقدح في العقل جنون..
 

دلائل وجود الله والإرادة الإنسانية

خامسًا: ظهور دلائل الوجود الإلهي في كون خلق فيه الناس للاختبار في باب التصديق والفعل، ليس هو الظهور القهري الذي يشُلّ إرادة الإنسان عن النكران، ويمنعه موقف الرفض والامتناع؛ ولذلك فمحض وجود منكرين لوجود إله ليس مما يحتج به منصف لإنكار التجلي الإلهي في باب الآثار، إذ قد أريد لهذا الوجود أن يقسم الناس إلى فسطاطين: فسطاط المنيبين، وفسطاط الجاحدين.

 

"كل دين لا يقول إن الإله خفي، ليس دينًا حقًا". الفيلسوف (بليز باسكال)

 

إن "البرهان المقنع" المتوهم في العقل الإلحادي هو ذاك الذي يقمع الإرادة الحرة ويمنعها من الاختيار بين الإيمان والكفران، وهو خصيم طبيعة الإيمان الديني الذي يمدح الإيمان بالغيب لأنه طريق السالكين في الدُّلجة إلى الحقيق. قال تعالى "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ" وقال سبحانه "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"
 
وهذا الخفاء الإلهي -غير الكلي، وغير الملغز- هو الذي يحفز الدهري إلى أن يبحث عن معنى الحياة، ويجد في طلب ذلك، وهو أيضًا الذي يدفع المؤمن إلى أن يجتهد في العلو في مراقي المعرفة حتى يبلغ مرتبة القائل "لو كشف الغطاء؛ ما ازددت يقينًا" فهو واقع إيجابي يدفع النفس الخاملة إلى أن تثور على كسلها وتفك غمامة الجهل لتعرف الرب عن قصد وحب.

 

"محاولتك بيان الحق لمن لا يحبه، لا تعدو أن تكون بذلا لمزيد من الأفكار ليسيء تفسيره" (جورج ماك دونالد)

 


 

المصدر:

سامي عامري، براهين وجود الله، ص145

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#سامي-عامري #أدلة-وجود-الله
اقرأ أيضا
النفس جبل عظيم شاق | مرابط
اقتباسات وقطوف

النفس جبل عظيم شاق


النفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز وجل وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل فلابد أن ينتهي إليه ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه وإنه ليسير على من يسره الله عليه.

بقلم: ابن القيم
441
كيف نثبت النبوة عقلا | مرابط
تعزيز اليقين

كيف نثبت النبوة عقلا


وقال في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله وتأمل دعوته وما جاء به: أفلم يدبروا القول الآيات فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمل حال القائل فإن كون القول للشيء كذبا وزورا يعلم من نفس القول تارة وتناقضه واضطرابه وظهور شواهد الكذب عليه فالكذب باد على صفحاته وباد على ظاهره وباطنه ويعرف من حال القائل تارة فإن المعروف بالكذب والفجور والمكر والخداع لا تكون أقواله إلا مناسبة لأفعاله ولا يتأتى منه من القول والفعل ما يتأتى من البار الصادق المبرأ من كل فاحشة وغدر وكذب وفجور بل قلب هذا وقصده وقوله....

بقلم: الإسلام سؤال وجواب
1513
السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج3 | مرابط
مناقشات

السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج3


حين بدأت بمطالعة كتاب ما بعد السلفية كنت حريصا على أن تتخلق في نفسي انطباعاتي الذاتية عن الكتاب بعيدا عن ضغط تأثير انطباعات الآخرين خصوصا وأنا أعلم أن الكتاب سيكون كتابا جدليا بامتياز وسيحدث جدلا في المشهد الفكري والشرعي بشكل عام وفي الداخل السلفي بخاصة والذي ستتشكل فيه بؤر ممانعة ذاتية طبعية من النقد والمراجعة فبعض النفوس قد لا تحتمل النقد وبعضها قد تحتمله ولكن لا تحتمل أن يكون معلنا وأجدني -بحمد الله- كما أجد غيري ميالا إلى استيعاب الممارسة النقدية واسع الصدر لها بل داعيا ومرحبا بها كونها...

بقلم: عبد الله العجيري
1167
إنهم يبرمجونك! | مرابط
اقتباسات وقطوف

إنهم يبرمجونك!


إنهم يبرمجونك يا رجل عن بعد إنه تتم برمجتك يا رجل! تشاهد هذا في الأخبار فتقول: لقد شاهدت هذا في الأخبار.. إنها حقيقة.. لا ليست كذلك إنها هراء! نعم إن هذه هي حقيقة هذا الجهاز المسمى بالتلفاز إنه يقوم ببرمجة عقولنا إنه يقوم بقصف العقل بمجموعة هائلة من الصور بدون تسلسل منطقي لها

بقلم: محمد علي فرح
341
بين الإمام أحمد والكرابيسي | مرابط
مناظرات فكر مقالات

بين الإمام أحمد والكرابيسي


من باب المباحثة مع إخوتي الكرام حول قصة الإمام أحمد مع حسين الكرابيسي المشهورة وشدة موقف الإمام أحمد منه كما جاء ذلك عنه بروايات كثيرة وهنا في هذه الخاطرة القصيرة محاولة لتسليط المجهر حول هذه القصة وتداعياتها والبحث عن ملابساتها وواقعها الزمني قبل الحكم عليها

بقلم: عبد اللطيف بن عبد الله التويجري
2105
خطر البدعة وأهلها | مرابط
تفريغات

خطر البدعة وأهلها


ثم أصحاب البدع يحملون أوزارهم وأوزار الذين أضلوهم كما قال تبارك وتعالى:ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمالنحل:25 إن المبتدعة ليس عندهم علم ولا برهان وإنما هو استحسان شيء ظنه قربة إلى الله عز وجل لذلك نخرج من هذا بالقاعدة المعروفة عند أهل السنة: إن الزيادة في الخير ليست خيرا إلا أن تكون مشروعة

بقلم: أبو إسحق الحويني
671