واستباح هولاكو مدينة الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل والإمام الشافعي، واستباح مدينة الرشيد الذي كان يحج عامًا ويجاهد عامًا، والمعتصم الذي سيّر جيشًا من بغداد إلى عمورية لنجدة امرأة مسلمة واحدة صفعها رجل رومي فقط ولم يقتلها.
قتل هولاكو عليه لعنة الله من أهل بغداد ألف ألف مسلم أو يزيدون، ما بين رجال ونساء وأطفال، حرب إبادة جماعية هائلة رهيبة، مأساة من أشد مآسي التاريخ ضراوة، ووجد جندي أربعين طفلًا حديثي الولادة في شارع جانبي من شوارع بغداد، قد قتلت أمهاتهم جميعًا فقتلهم في عنف وبشاعة وقلوب أشد قسوة من الحجارة.
واستمر القتل في المدينة أربعين يومًا، لا يرفع فيها مسلم سيفًا؛ لأنه يعتقد أن التتار لا يهزمون لا يجرحون، بل لا يموتون، فما الفائدة من بذل الجهد في المقاومة؟ نساء التتار يقتلن رجال المسلمين، إذا نادت تترية على مسلم قف! وقف وقد تيبست قدمه في الأرض، حتى يأتي التتري ويقتله ذلة وخزيًا وعارًا.
اتجه التتار إلى كنوز العباسيين واستخرجوا كنوز السنين، وقد يفهم هذا، ولكن الذي لا يفهم أنهم اتجهوا بعد ذلك إلى مكتبة بغداد، فأخرجوا الكتب منها وألقوا بها جميعًا في نهر دجلة، مئات الألوف من العلوم الثمينة التي لا تقدر بثمن، تخيل هذا الكم الضخم من تراث الحضارة والمدنية والإنسانية يلقى بها بهذه الصورة في نهر دجلة، حتى تلون لون النهر إلى اللون الأسود، تدمير لكل ما هو حضاري.
مثل ذلك فعل الصليبيون الأسبان بمكتبة قرطبة، حين أحرقوا كل كتبها لما سقطت قرطبة، حروب إبادة لكل ما هو حضاري أو مفيد للإنسانية، كل هذا وما زال هولاكو يقول: إنه ما جاء إلى هذا المكان إلا لإرساء قواعد الأمن والعدل والحرية.
وبعد أربعين يومًا وقف القتل في المدينة، وقد تناثرت الجثث المتعفنة في شوارع حضارة الإسلام، وأعلن هولاكو أمنًا حقيقيًا؛ ليخرج المختبئون من المسلمين؛ ليرفعوا الجثث بعد أن انتشرت الأوبئة، فخرج الذين كانوا مختبئين في الخنادق، والذين كانوا مختبئين في الديار المهجورة، والذين كانوا مختبئين في المقابر، خرجوا جميعًا للمدينة المدمرة بغداد يرفعون جثث أهلهم وذويهم.
وانسحب هولاكو بجيشه خارج المدينة لتجنب الأوبئة.
وقتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله ، ووضع على رأس الحكم في بغداد الوزير العلقمي الشيعي، وجعل معه مستشارين من التتار، أو قل: جعل معه مراقبين من التتار، وأغدق هولاكو بالهدايا على البطريرك ماكيكا وأعطاه قصرًا من قصور الخلافة، وسقطت بغداد بعد أن فتحت بالإسلام منذ أكثر من (640) سنة، على يد الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
ودب الرعب في أوصال العالم الإسلامي بأسره، وفقد معظم المسلمين الأمل في قيامه، وظهر اعتقاد عجيب في تلك الآونة، وهو أن هذا الأمر من علامات الساعة القريبة جدًا، وأن المهدي سينزل قريبًا جدًا، وشعر الناس أنهم لا طاقة لهم بـهولاكو وجنوده، فأرادوا النصر عن طريق معجزة، فإما أن يخسف بجيش التتار، وإما أن ينتظروا المهدي فينتصر على التتار، أما أن يتحرك المسلمون بدون المهدي فهذا أمر محال، هزيمة نفسية بشعة وغياب كامل للوعي الإسلامي الصحيح.
وكان سقوط بغداد متزامنًا مع سقوط قرطبة وإشبيلية في الأندلس، فإن قرطبة سقطت سنة (636هـ) قبل بغداد بعشرين سنة، وإشبيلية سقطت سنة (646هـ) قبل بغداد بعشر سنين، وها هي بغداد تسقط في صفر سنة (656هـ).
ولاء ملوك الشام وشمال العراق والأناضول لهولاكو بعد سقوط بغداد
أما ملوك الشام وشمال العراق والأناضول من المسلمين فماذا فعلوا؟ لقد أسرعوا إلى هولاكو يقدمون فروض الولاء والطاعة، الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل، والأمير فيكاوس الثاني، والأمير قلج أرسلان من منطقة الأناضول، والأمير الناصر يوسف أمير حلب ودمشق حفيد صلاح الدين الأيوبي، أرسل ابنه العزيز ليكون في صف هولاكو، والأمير الأشرف الأيوبي كل أمراء الشام فعلوا ذلك إلا القليل، كل أمراء الشام سلموا أنفسهم لـهولاكو ؛ ليظلوا في أماكنهم، أو على الأقل ليظلوا على قيد الحياة، فهل تركهم هولاكو ؟ أبدًا.
اجتياح هولاكو بجيشه بلاد الشام
جاء الدور بعد العراق على سوريا، انطلق هولاكو بجيشه إلى بلاد حلفائه المسلمين، وبدأ بحلب بلد الناصر يوسف الذي بعث ابنه؛ ليكون في جيش هولاكو ، وأباد هولاكو حلب وقتل أهلها، وذلك في صفر سنة (658هـ) بعد سنتين من سقوط بغداد، ثم انتقل إلى دمشق في سنة (658هـ) أيضًا في ربيع أول بعد أيام من سقوط حلب، وألقى القبض هناك في دمشق على الناصر يوسف الذي كان يعاونه من قبل، ودخل المدينة العظيمة دمشق عاصمة الخلافة الأموية السابقة، وثغر من أعظم ثغور المسلمين، وتقدم صفوف التتار قائد المقدمة التتري كتبغا وهو نصراني في جيش التتار، فتقدم وعن يمينه أمير أرمينيا النصراني وعن يساره أمير أنطاكية النصراني، وأول مرة يشاهد أهل دمشق ملوك النصارى يدخلون أرض دمشق يتبخترون على خيولهم، أول مرة يرون ذلك منذ أن فتحت هذه البلاد على يد أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد رضي الله عنهما أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ودمرت دمشق بكاملها، واستبيحت البلاد وقتل العباد، ودمرت الحضارة الإسلامية في دمشق، كما دمرت قبل ذلك بغداد.
ثم توغل التتار إلى الجنوب إلى فلسطين واحتلوا نابلس، ثم واصلوا تقدمهم إلى غزة واحتلوها، ولم يقتربوا في كل ذلك من الإمارات النصرانية الموجودة في عكا وحيفا وبيت المقدس وصيدا، وأصبح معلومًا لدى الجميع أن الخطوة القادمة هي مصر، كيف كان الوضع في مصر في ذلك الوقت؟