مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي

مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

1648 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

تقديم المصلحة على النص

تعتبر مقولة نجم الدين الطوفي الشهيرة: (تقديم المصلحة على النص) من أشهر المقالات الفقهية والفكرية فىِ هذا العصر؛ لأنه تم توظيفها بمهارة لتكون بساطًا يسير عليه أي تحريف معاصر يرغب في تخطي بعض النصوص الشرعية، ومع الجهود العلمية الحثيثة في توضيح هذه القضية وبيان الشذوذ والخلل فيها إلا أن المقالة الطوفية ما تزال حاضرة في أي مشهد ثقافي يرغب في حذف بعض أحكام الشريعة.

نريد أن نقف مع القضية فى سؤالين جوهريين:

ما قصة هذه المقالة؟
وما علاقة التحريف المعاصر للشريعة بنظرية الطوفي؟

 

بداية القصة

تبدأ القصة: من أن نجم الدين الطوفي -رحمه اللَّه- وهو من فقهاء وأصوليي الحنابلة المبرزين (ت 716 هـ) لما جاء في كتابه (شرح الأربعين النووية) إلى حديث "لا ضرر ولا ضرار" قرَّر فيه أن الضرر والفساد منفي عن الشريعة وأن النصوص الشرعية دالة على اعتبار المصالح، وجعل هذا الحديث يدلُّ بعمومه على نفي الفساد؛ فإن جاء في النصوص ما يوهم فسادًا فإن كان النص قطعيًا معارضًا للمصلحة من كل وجه فلا اعتبار للمصلحة، وإن كان النص ظنيًا ووجد دليل آخر يسنده فلا اعتبار للمصلحة أيضًا، وإن كان لم يسند بدليل فإن أمكن الجمع بين النص والمصلحة فحسن، وإن لم يكن فإن كان في العبادات والمقدرات فلا اعتبار للمصلحة، وإلا قدِّمت المصلحة على عموم النصِّ من باب البيان والتخصيص لعمومها لا من باب الافتيات عليها (1).

 

فخلاصة الأمر في نظرية الطوفي أنها تقوم على خمس قواعد جوهرية:

1 - المصالح لا تقدَّم على النصوص القطعية.

2 - المصالح لا تقدم على النصوص الشرعية المتعلقة بالعبادات والمقدرات.

3 - المصالح المقصودة هي المصالح الشرعية التي جاءت الدلائل الشرعية باعتبارها.

4 - أنه لا يُلجأ إلى تقديم المصالح إلا بعد تعذر الجمع بين المصلحة والنص.

5 - أن تقديم المصالح هو من باب تخصيص العموم وليس من الافتيات أو الردِّ الكلي للنص الشرعي.

 

تخصيص النص

فحقيقة الأمر أن تقرير الطوفي لم يكن بعيدًا عن تقرير عموم الأصوليين في الموضوع في المبحث الأصولي الشهير (تخصيص النص)؛ حيث يقرر الأصوليون أن عموم النص قد يكون ضعيفًا أو محتملًا لبعض الأفراد فيتم تخصيصه بناءً على نص آخر أو قياس أو مصلحة ضرورية أو حاجية ملائمة للشريعة، مع اختلاف بينهم في مدى إعمال هذه القاعدة وفي المسميات الأصولية التي يطلقونها على هذا الباب، فحقيقته في النهاية أنه من تخصيص النص بالنص، ومن إعمال النصوص جميعًا، ومن منهجية دفع التعارض عن النصوص (2).

فالطوفي لم يخرج عن قاعدة الأصوليين هذه، لكن تعبيره عن رأيه الفقهي بهذه الطريقة (تقديم المصلحة على النص) لم يكن موفَّقًا، ولا مهذَّبًا مع الدليل الشرعي، وقد كان سببًا لأن يتخذ مسمارًا تشق به كلُّ قطعيات الشريعة، وأصبح الطوفي بعدها منبرًا يعلو عليه كلُّ محرِّف تائه ليصرخ في وجه الشريعة باسم الطوفي، فرحمه اللَّه وعفا عنه.

كما أن الطوفي لم يمثل للمصلحة التي تقدَّم على النص، وهو ما يؤكد أنه لا يقصد المصلحة العقلية المحضة التي يقصدها أصحاب القراءات الجديدة للنص الشرعي، بل يقصد المصلحة الشرعية التي جاءت الشريعة باعتبارها، وفي الحقيقة أنه لا يُتَصوَّر وجود تعارُض بين المصلحة والنص؛ فالنص لا يمكن أن يأتي بما يعارض المصلحة، ولا تأتي النصوص إلا بأكمل المصالح وأنفعها، فمقصود الطوفي هو ما يظن أنه نص وليس كذلك؛ وإلا فالنص إذا ثبت لا يمكن أن يخالف المصلحة؛ وإنما تحصل المعارضة مع نص غير صحيح أو صريح أو مع مصلحة موهومة غير حقيقية.

 

وهذا يدعونا إلى السؤال الثاني:

هل طريقة بعض المعاصرين في تحريف الشريعة باسم المصلحة لها علاقة بنظرية الطوفي؟

الواقع أنه ثَمَّ فروق جوهرية بين مقولة الطوفي وبين من يستند إليه من المعاصرين:

1 - الاختلاف الجوهري في فهم المصالح: فنظرة الطوفي إلى المصالح تعتمد على الميزان الشرعي في تعريف وتحديد المصلحة؛ فالمصالح تعمُّ ما ينفع الناس في الدنيا والآخرة، وشاملة لا فيه حفظ الدين والدنيا، ويندرج فيها كلُّ ما جاءت الشريعة به من الأصول والأحكام. هذه صورة المصالح عند الطوفي وعند غيره من العلماء، لكن المشهد يتغير تمامًا عند المتذرعين بالطوفي؛ فالمصالح عندهم مصالح دنيوية بحتة فقط، لا ترى أي اعتبار يذكر للمصالح الأخروية، لا يكادون يفهمون شيئًا اسمه مصلحة الدين؛ لأن الدين شأن ذاتي فردي لا علاقة له بالنظام، ينفون كثيرًا من الأحكام الشرعية فلا يرون فيها أي مصلحة لأنها تنافي الثقافة العَلمانية السائدة.

إذن، فلفظ المصلحة متفَق بين الطرفين، لكن معناه يختلف جذريًا بين من ينطلق من مفهوم إسلامي للمصلحة وبين من ينطلق من مفهوم علماني لها؛ ولهذا تجد أن الطوفي وغيره يرون أن الجهاد وقتل المرتد ومنع المحرمات هو من أعظم المصالح لما فيه من حفظ مصلحة الدين، وهو الشيء المزعج لدى كثير من المعاصرين لأنهم يرونها أحكامًا تنافي المصلحة.

2 - الاختلاف الجوهري في فهم النصوص: فالطوفي وغيره لا يتحدثون عن نصوص قطعية ذات دلالة واضحة فيقدمون النصوص عليها، فهم أهل تعظيم للشريعة وحرماتها، فهم بعيدون جدًا عن هذا الطريق الذي يريد الحداثيون تعبيده باسم الطوفي، فالنص القطعي لا يجوز لأي مسلم تخطِّيه، لكن إشكالية كثير من الحداثيين أن النصوص كلَّها محل إشكال، فكلها لا تدل على قطع ولا يستمد منها يقين، وإذا سمعوا كلمة (قطعي) قالوا مباشرة: (من يمتلك الحقيقة؟)!

3 - الاختلاف الجوهري في تمييز الأبواب الشرعية: فأبواب العبادات والمقدرات خارجة تمامًا عن الموضوع؛ لأننا علمنا -قطعًا- أنَّها مراد اللَّه فلن يجرؤ مسلم على مناقضة اللَّه في حكمه ولا حكمته، فلا إمكانية لأي مصلحة حقيقة لأن تكون مخالفة لها، فلا يمكن تخطِّي بعض أحكام العبادات أو الحدود أو المواريث أو الديات أو تفاصيل الجنايات أو الكفارات أو العِدَد أو الطلاق أو شروط النكاح؛ لأنها جاءت مقدَّرة محددة فلا إمكانية لأي مصالح فيها، لأن المصلحة فيها قطعية في اتباع مراد اللَّه.

4 - الاختلاف الجوهري في منهجية النظر في النصوص: فالطوفي وغيره من أهل العلم يقصدون الجمع بين النصوص، وإعمال كافة الأدلة. قد يخطئ بعضهم في بعض أحكامه، لكن المنهج الكلي العام هو الجمع بين النصوص وإعمالها جميعًا، بينما تقوم الطريقة الحداثية ومن تأثر بها على إعمال المصالح الدنيوية المحضة، ومواكبة العصر، ومسايرة التطور، ثم وجدوا أثناء ذلك نصوصًا وأدلة لا تنتج ما يريدون، فاضطروا إلى تأويلها وتحريفها حتى لا تكون عائقًا عن الحداثة والتقدم، بل إن بعضهم لم يلتفت إليها أصلًا إلا لما رأى أن الناس منجذبون إلى هذه النصوص، فعُلِم أن مجرد الإعراض عن النصوص لا يكفي، فلا بد من عودة إليها لتخليص العقل المسلم من الانجذاب نحوها، فشتان بين من ينظر في النصوص ليهتدي بها ويسير وراءها ممن يفكِّر خارجها ولا يأتي إليها إلا لمهمة التخلُّص منها.

فنهاية الأمر في تقديم المصلحة على النص هو أن تكون النصوص عبئًا لا فائدة منها؛ فالإنسان يتبع مصالحه أينما كانت، فإن وافق المصلحة عمل بالنص اتباعًا للمصلحة، وإن خالفه عمل بالمصلحة، فكان وجود النص عبئًا وتلبيسًا وإشغالًا للناس لا غير، وهو نتيجة طبيعية لمن ينظر للمصلحة بمعيار يختلف عن معيار الشريعة، فالنصوص إنما جاءت بما فيه مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، فافتراض التعارض بينها وبين المصلحة افتراض مغلوط وسؤال خاطئ؛ لأنه يفترض أن النصَّ شيء يختلف عن المصلحة، بينما النصوص في الحقيقة لا تأتي إلا بأكمل المصالح وأشرفها؛ فالتعارض لا يكون بين المصلحة والنص، بل بين مصالح الشريعة التي جاءت بها النصوص والمصالح الكاذبة التي تأتي بها أهواء النفوس.

ومع كل هذا ستبقى مقولة (تقديم المصلحة على النص) حاضرة في مشهد التحريف والعبث المعاصر، وسيبقى الطوفي -رحمه اللَّه- حاضرًا على لسان وقلم كل عابث، وما كان يدور في خلدِ أحد أن عبارة قيلت قبل سبعة قرون ستكون ذريعة وسترًا شرعيًا لأرتال العبث الفكري المعاصر، وهذا نموذج لخطورة زلة العالم التي تجعلنا نستشعر عظمة فقه عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حين قال (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن والأئمة المضلون) (3).

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: التعيين شرح الأربعين، للطوفي، ص 236 - 241.
  2. حَمْل كلام الطوفي على جادة عموم الأصوليين في الموضوع هو ما توصل إليه بعض الباحثين المعاصرين كالباحث أيمن جبريل الأيوبي في رسالته القيمة (مقاصد الشريعة في تخصيص النص بالمصلحة) حيث جمع كلام الطوفي بعضه إلى بعض فحكم بناء عليه أن الطوفي غير خارج عن المنهجية الأصولية، غير أن في تقرير الطوفي من العبارات المشتبهة والمجملة والملبسة ما دفع بأكثرية المعاصرين إلى مخالفة هذا الرأي وحمل كلامه على تقديم المصلحة العقلية على النص أو تقديمها على النص القطعي أو نحو هذا مما يعد فيه الطوفي شاذًا عن الطريق الأصولي، ومن هؤلاء -على سبيل المثال- مصطفى زيد في المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي، محمد سعيد رمضان البوطي في ضوابط المصلحة في الشريعة الاسلامية، أحمد الريسوني في نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، وغيرهم كثير.
  3. أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: 2/ 162.

 

المصدر:

فهد بن صالح العجلان، معركة النص، ص123

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
حفظ اللسان | مرابط
فكر مقالات اقتباسات وقطوف

حفظ اللسان


إن ربنا سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قد جاء عنهما الأمر بحفظ اللسان هذا العضو السريع الحركة أسرع الأعضاء حركة وأنشطها لا يكل ولا يمل من كثرة الاستعمال قال الله عز وجل في كتابه العزيز: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد سورة ق 18 فكل ما خرج منه يكتب ويرصد ويحفظ ويجمع لينشر يوم الدين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت

بقلم: محمد صالح المنجد
1308
وسائل التلاعب بالجماهير | مرابط
اقتباسات وقطوف

وسائل التلاعب بالجماهير


إن ما يسمى بوسائل الإعلام الجماهيرية كالصحافة والراديو والتلفزيون هي في الحقيقة وسائل للتلاعب بالجماهير وبين يديكم مقتطف من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب لعلي عزت بيجوفيتش يدور حول هذه النقطة وكيف يمكن السيطرة على الشعوب بأساليب لا تميل إلى العنف وإنما إلى شل الإرادة والتحكم في العقول

بقلم: على عزت بيجوفيتش
733
ماذا تعملين يا سيدتي؟ | مرابط
فكر

ماذا تعملين يا سيدتي؟


بالتدريج نعرف أن هذه الزوجة المسكينة التي لم تفعل شيئا من منظور مادي بسيط فعلت الكثير من منظور إنساني أكثر تركيبا ولكنها استبطنت الخطاب المعرفي المادي ولذا فعليها أن تخرج من المنزل فورا حتى تعمل أي حتى تتقاضى أجرا فتستعيد احترامها لنفسها. قد يفسد الأطفال وقد تنهار الأسرة وتضيع خصوصية الحضارة فالأم هي التي تعلم الأطفال الحضارة والقيم ولكن هذه أمور ثانوية.

بقلم: عبد الوهاب المسيري
508
شروط الإفتاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

شروط الإفتاء


وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه فقال: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة وذكر الكلام المتقدم

بقلم: ابن القيم
642
مختصر قصة التتار الجزء الأول | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة التتار الجزء الأول


سلسلة مقالات مختصرة تضع أمامنا قصة التتار وكيف بدأت هجماتهم على بلاد المسلمين وكيف تغيرت الأوضاع في بلادنا الإسلامية إثر هذه الهجمات فانهار المدن وانفتحت البوابات وظهرت شخصيات قيادية وقفت في وجه هذا الإعصار التتري الرهيب سنقف على الكثير من الفوائد والعبر والمواقف الفارقة وسنعرف تاريخ أمتنا وما مرت به من محن فالمستقبل لا يصنعه من يجهل الماضي

بقلم: موقع قصة الإسلام
1682
فتح الأندلس يغير خريطة الحضارة والثقافة في العالم | مرابط
تاريخ مقالات

فتح الأندلس يغير خريطة الحضارة والثقافة في العالم


إن فتح الأندلس من الأحداث العظيمة التي حملت للعالم الكثير من المظاهر الاجتماعية والسلوكية والعلمية فقد نشطت حركة العلوم بشكل عام في الأندلس وانتقلت منها إلى أوروبا وتعلم الأوروبيون السلوك الإسلامي القويم من المسلمين في الأندلس وحتى ملامح النظافة الشخصية والرقي المدني والتنظيم الاجتماعي كل هذا انتقل إلى أوروبا بعد فتح الأندلس وفي هذا المقال يستعرض الكاتب راغب السرجاني بعض هذه الظواهر التي أفادت العالم بعد فتح الأندلس

بقلم: راغب السرجاني
2188