مكة: مدينة متعولمة المظهر أم مدينة مقدسة الشكل والمضمون

مكة: مدينة متعولمة المظهر أم مدينة مقدسة الشكل والمضمون | مرابط

الكاتب: د علي عبد الرءوف

2242 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

مخططات التنمية التجارية

خلال العقد الأخير تعرضت أكثر بقاع الأرض قداسة؛ مكة المكرمة إلى موجات من التغيير والتحديث أثارت جدلًا واسعًا بين المسلمين في كل أنحاء العالم. في العقد الماضي فقط كانت مكة المكرمة، مهد الإسلام، هدفًا لبعض مخططات التنمية التجارية الأكبر والأسرع في العالم، أكثر من مائة مبنى قيد البناء حول المسجد الحرام، مما سيحول جذريًا المناظر الطبيعية والتاريخية والمعمارية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المدينة النامية بتسارع غير مسبوق.

أحياء كاملة تعرضت لتغيرات جذرية ونزح سكانها الأصليون إلى ضواحي مكة المكرمة أو بعض المدن المجاورة، قلاع يعود تاريخها إلى قرون مضت، الشوارع ذات النسق التقليدي، الأسواق الشعبية، حتى المكتبات والمدارس والمقاهي القديمة في هذه المنطقة المركزية لمكة المكرمة قد دُمّرت بالكامل. لم يعد هناك دلائل وفيرة من الماضي لإثراء الذاكرة الجمعية والشعبية لهذه المدينة الفريدة.
 

مشاريع إعادة التعمير

تراثها المادي الملموس يتضاءل بانتظام متسارع، ويُستبدل بملامح منفصلة عن سياقها الروحاني المقدس، هذا النهج العشوائي لمشاريع إعادة التعمير في أقدس بقاع العقيدة الإسلامية يكشف عن القوى المفرطة لرأس المال البترولي والمقاولين والمطوّرين من القطاع الخاص، وجهاز الدولة.. كما يكشف عن الآثار الرئيسية عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية والبيئية.
 
كما أثارت هذه التغيرات أيضًا جدلا بين المهتمين بالنطاقات التاريخية ذات القيمة، وكيفية تنميتها واستمرار الحفاظ على طبيعتها وتاريخها وهويتها ومقوماتها الإنسانية. فقد سوّقت الحكومة السعودية مشروعها بقيمته الخيالية من مليارات الدولارات لتطوير مكة المكرمة، وقنّنت بصرامة جميع الإجراءات والتأثيرات التي تترتب عليه، كضرورة حتمية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج المسلمين، وتحسين خدمات الحج والعمرة (بشير، 2010).
 
وفي نفس الإطار، يفتخر محافظ مكة الأمير (خالد الفيصل) بخطة حكومته لدفع مكة المكرمة إلى القرن الحادي والعشرين، وتحويل هذه الوجهة الدينية إلى مدينة نموذجية للتنمية والتحديث. والهدف هو جعل مكة المكرمة المدينة الأكثر جمالا في العالم، الجمال نسبي في الواقع، وتحقيقه يثير التساؤل عندما يكون على حساب الشعوب والجماعات الإنسانية بهدم المنازل والمعالم التاريخية والدينية.

 


 

التراث التاريخي للبلاد يتلاشى

وقد انعكست هذه التخوفات على أعداد متزايدة من المواطنين، لا سيما أولئك الذين يعيشون في المدينتين المقدستين (مكة المكرمة والمدينة المنورة)، بدوا قلقين على التراث التاريخي للبلاد، وهو يُسحق تحت حركة بناء متسارعة يبدو جليًّا أن الربح هو هدفها الرئيسي. لاسيما وأن تلك الحركة دائمًا ما كانت مدعومة برجال الدين والعلماء السعوديين الذين ساهموا بتفسيرات خاصة تبرر عدم المحافظة على تراث المدينة المقدسة، خاصة ذلك التراث المرتبط بحقبات معينة من تاريخها الطويل لا تتوافق مع مرجعياتهم الشرعية.

 

فوضى مكانية وروحانية

حوّلت عملية إعادة إنتاج مكة المكرمة التي رفعت شعار "المدينة الجميلة والحديثة" وسط المدينة إلى نطاق مكاني غريب للعديد من سكانها البالغ عددهم ما يتجاوز 1.7 مليون. تسببت هذه العملية أيضًا في كثير من الالتباس والارتباط البصري والذهني، بل والروحاني لملايين الناس الذين يقومون بزيارة البقاع المقدسة كل سنة. تشييد المشاريع التي تستغل كل شبر من الأرض في هذه المنطقة المركزية والمزدحمة ومحاولة تحقيق أقصى عدد من الغرف الفندقية والشقق والمطاعم والأسواق التجارية الحصرية، أدت إلى نوع جديد من الفوضى المكانية التي يمكن أن توصف بالقمعية أو التمييزية في أحسن الأحوال.
 

شعور الاغتراب

بل إن كثيرًا من نقاد مخطط تطوير المدينة من السعوديين عبروا عن مشاعر مماثلة من الاغتراب والفقدان والهزيمة والحيرة كما يناقش بشير (2010). مكة المكرمة، المكان الذي أكد فيه نبي الإسلام محمد، صلى الله عليه وسلم، على أن المسلمين جميعًا على قدم المساواة، قد أصبحت ملعبًا للأغنياء النافذين ماليا وسلطويا وتشريعيا، لقد اغتصبت الرأسمالية القاسية الباردة روحانية المدينة ومبرر وجودها. والأكثر خطوة أن السياق السياسي والاجتماعي في المملكة العربية السعودية، شأنه شأن سائر الأنظمة الأحادية الملكية اللاديمقراطية، لا يوجد فيها، إلا بصورة محدودة للغاية، من يملك الجرأة على الاعتراض أو القدرة على وقف هذا التخريب الثقافي.

 


 

المصدر:

  1. د. علي عبد الرءوف، من مكة إلى لاس فيجاس، ص83
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مكة #من-مكة-إلى-لاس-فيجاس
اقرأ أيضا
المصلحة بين الشريعة الإسلامية والعقلية العلمانية | مرابط
فكر العالمانية

المصلحة بين الشريعة الإسلامية والعقلية العلمانية


إن المصلحة التي يدركها العقل العلماني ليست هي المصلحة التي جاء بتحصيلها وحفظها الشرع وبالتالي فلا يصح الاستدلال بها علينا. فالمصلحة العلمانية مصلحة دنيوية مادية فقط ولازم ذلك أن يكون الدين وحفظه ورعايته خارج دائرة المصالح المستهدفة بل هو تابع لها وفرع عنها يتحاكم إليها بحيث يجب عليه أن يتشكل ويتغير لملائمتها. أما المصلحة الشرعية فهي مصلحة الدين والدنيا والآخرة والأولى والروح والمادة والدين فيها أول المصالح المرعية وأولاها كما تقتضي طبيعة العبودية وعليه فكل المصالح الأخرى فرع عن الدين بحيث ي...

بقلم: أحمد عبد السلام
321
الطفل والأفكار | مرابط
مقالات ثقافة

الطفل والأفكار


وفي المجتمع الذي يدور فيه عالم الأفكار حول محور الأشياء تأخذ الميول الفردية الوجهة ذاتها. ولقد حدث أن سألت طفلا في إحدى البلاد العربية عما كانوا يعطونه في المدرسة ولم ركن استعمالي فعل أعطى متعمدا لكن جوابه العفوي كان ذا دلالة ظاهرة فقد أجابني: إنهم يعطوننا بسكويت. ومن الواضح أن معنى أعطى عنده يتمفصل بادئ الأمر بعالم الأشياء حتى حينما يستعمل الفعل في الإطار المدرسي في صيغة سؤال. وهكذا فالفرد يدفع ضريبة عن اندماجه الاجتماعي إلى الطبيعة وإلى المجتمع.

بقلم: مالك بن نبي
455
كيف تقرأ كتابا ج4 | مرابط
تفريغات

كيف تقرأ كتابا ج4


أحد الشباب كان في المذاكرة أيام الجامعة يذاكر وكان الكتاب ضخما فيه ما هب ودب فكان يستخدم الألوان اللون الأصفر للأشياء المهمة جدا قانون يجب حفظه الشيء الأزرق أقل أهمية الشيء الأحمر أقل شيء ويترك الباقي بياضا أو يرقمه فيجعل للشيء المهم جدا رقم واحد وللمتوسط رقم اثنين وما يمكن تأجيله في المذاكرة رقم ثلاثة فإذا وجد وقتا قرأه وإلا تركه

بقلم: محمد صالح المنجد
563
لماذا الاحتفال بغير أعيادنا ليس أمرا شكليا؟ | مرابط
مقالات

لماذا الاحتفال بغير أعيادنا ليس أمرا شكليا؟


انظر كيف حرص النبي صلى الله عليه وسلم على قطع عادات الجاهلية ووجه عنايته لها.. فالقصد لم يكن مجرد إحداث قطيعة مع شعائر الماضي بل بناء نظام اجتماعي جديد للأمة وما كان هذا ليحدث لولا القطيعة مع شعائر الماضي وعاداته وأعرافه! قطعا هذا الأمر ثقيل على النفس لضغط الداعي الاجتماعي لذلك لا تملك زمامه إلا النفوس القوية

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
344
من الذي اخترع لفظ الاختلاط ج1 | مرابط
فكر مقالات المرأة

من الذي اخترع لفظ الاختلاط ج1


يعتبر الاختلاط بين الجنسين من أكثر المناطق الشائكة التي يصطدم فيها المنهج الإسلامي مع المنهج العلماني بين القبول والرفض بين الإباحة والمنع ونحن في هذا المقال نقف على عدد من التساؤلات والنقاط هل لفظ الاختلاط دخيل على الإسلام هل صحيح أن المذاهب الفقهية الأربعة لم تعرف مسألة الاختلاط بين الرجال والنساء وهل فعلا المجتمع الغربي لا يعرف فكرة الفصل بين الجنسين وما هي ملامح أزمة الاختلاط في واقعنا المعاصر وغير ذلك من النقاط الهامة

بقلم: إبراهيم السكران
1319
من أخلاق الكبار: أحمد بن حنبل | مرابط
تفريغات

من أخلاق الكبار: أحمد بن حنبل


الإمام أحمد بعدما أوذي هذا الأذى لم يفتح ملفات من الأحقاد وسجلات من العداوة فلان هو المتسبب وفلان هو الذي سعى في الموضوع وفلان خذلني وفلان قصر في حقي وفلان لم يسع في خلاصي من أسر هؤلاء وفلان ما زارني بعد السجن وفلان صدرت منه بعض الكلمات التي لربما يفهم منها أنه كان مباركا لهذا العمل راضيا به لم يفتح شيئا من هذا إطلاقا ولم ينقل لنا التاريخ عن الإمام أحمد - رحمه الله - على طول ترجمته كلمة واحدة تدل على أنه وقف عند نفسه.

بقلم: خالد السبت
486