من حياة عمر بن عبد العزيز ج2

من حياة عمر بن عبد العزيز ج2 | مرابط

الكاتب: خالد الراشد

493 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

سيدنا عمر والصالحون

أدنى الصالحين والعباد فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوفوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأعينوني، فكتب له أحدهم: صم هذا اليوم يا عمر ! ولا تفطر حتى تلقى الله.

وكتب له مطرف بن عبد الله: يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصمين؟ كيف بثلاثة؟ كيف وخصمك يوم القيامة أمة محمد صلوات ربي وسلامه عليه؟! جمع سبعة من الصالحين وقال: أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطًا ثلاثة -ليتنا اشترطنا هذه الشروط في مجالسنا، اسمعوا وبلغوا هذه الشروط، فرب مبلغ أوعى من سامع-:

أولها: لا تغتابوا، ولا تعيبوا في مجلسي أحدًا.
ثانيها: لا تتحدثوا في الدنيا.
ثالثها: لا تمزحوا وأنا جالس أبدًا.

فكانوا يجتمعون بعد العشاء، فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون عن مجلسهم، وكأنهم انفضوا عن جنازة.

كتب له أثناء خلافته سالم بن عبد الله بن عمر كتابًا شديدًا يقول فيه: يا أمير المؤمنين! لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صرعوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون إلى اللذات بعيون فأكلت، ويأكلون ببطون فنهشت، ويتلفتون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تحبس في جهنم يوم أن يطلق العادلون، فلما قرأ ذلك انهد باكيًا قائلًا: اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم أن يطلق العادلون.


صور من تقوى سيدنا عمر بن عبد العزيز

لقد حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يأخذ قليلًا ولا كثيرًا، همه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حتى مع الناس، وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق اليوم من سبق جواده وبعيره، إن السابق من غفر له في هذا اليوم.

كان شديد الخوف والمراقبة لله، إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بالك يا عمر ؟ فيقول: تذكرت قول الله: "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ" [الشورى:7]، فخفت خوفًا أورثني ما ترين. فما حالنا مع القرآن؟! فما حالنا مع الآيات والذكر؟! عمينا عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلمودًا لأبكاه

مقياسه في تقييم الناس هو التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات:13]، يقول عمر: والله ما رأيت متقيًا إلا وددت أني في جلده.

استدعى مزاحمًا يومًا فقال له: يا مزاحم ! لقد رأيتك تصلي الضحى في شعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله، فأحببتك والله! فكن عوني على نفسي، فإذا رأيتني ظلمت فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا ابن عبد العزيز ! فما بالهم إذا نصحوا أخذتهم العزة بالإثم؟


باب محاسبة النفس

لقد كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال منه رجل يومًا، فقيل له: رد على هذا السفيه يا عمر، فقال: إن التقي ملجم. والصمت عن جاهل أو أحمق شرف وإن فيه لصون العرض إصلاح.. أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يخسأ لعمري وهو نباح

كان رضي الله عنه لا يرد مظلمة، دخل أحدهم يبايعه فقبض يده، قال له: يا أمير المؤمنين! لم قبضت يدك؟ قال: اغرب عني، تجلد فلانًا سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك! ما غضبت لله، ولكن غضبت لنفسك ولولدك، والله لن تلي لي عملًا بعد اليوم، فعزله عمر. قطع أعطيات بني أمية وصلاتهم، فغضبوا وأرسلوا له ابنه عبد الملك، فقال له: قل لهم يا بني: "إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" [الأنعام:15].

ألجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا ألجمنا أنفسنا بهذا اللجام؟ "إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" [الأنعام:15]. ولى العباد والزهاد واختارهم، فقامت الدنيا، يقول ميمون بن مهران: لقد أخبرنا رعاة الأغنام بأن الذئاب أيام خلافة عمر ما كانت تعدو على الأغنام!

سبحان الله! حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن، فلما توفي عمر عدت الذئاب على الأغنام فعرف أهل البوادي أنه قد مات رجل عادل، فالعدل أمن وطمأنينة وسكينة، وبالعدل قامت السماوات والأرض. وكان شديد المحاسبة لنفسه، ورعًا تقيًا، كان يقسم تفاحًا أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها عمر من فمه، وأوجع فم الصغير، وذهب الصغير لأمه باكيًا، فأرسلت من اشترى له تفاحًا.

عاد عمر إلى البيت، وما عاد بتفاحة واحدة، فقال لـفاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أشم رائحة تفاح في البيت، قالت: لا والله! وقصت عليه قصة الصغير، فذرفت عيناه، وقال: والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأني انتزعتها من قلبي، ولكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من مال المسلمين، سبحان الله! ورب مشهد كهذا خير لـعمر من الدنيا وما فيها "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت:35].

كان متواضعًا لله، مدحه رجل في وجهه، فقال: يا هذا! أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف ما نظرت إلى وجهي، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه. كان شديد الخوف من الله، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، كان يذكر الله في فراشه كما تقول زوجه، ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل حتى أقول - يعني زوجه-: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم، ثم تقول: يا ليت بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، والله ما رأينا من سرور منذ تولى عمر الخلافة.

تقول زوجه فاطمة: أمسى ذات ليلة وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فصلى ركعتين، ثم جلس واضعًا رأسه على يديه، ودموعه تسيل على خده، ويشهق الشهقة فأقول: خرجت نفسه، وانصدعت كبده، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح وهو باكٍ يتألم، ثم أصبح صائمًا، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير المؤمنين! كثير منك ما كان ليلة البارحة، أأمر ألم بك أم ماذا دهاك؟! فأجابها - وقد نصب خوف الله أمام عينيه- قائلًا: إني نظرت في نفسي فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأحمرها وأسودها، يتيمها وأرملتها، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سيسألني عنهم، وأن محمدًا سيكون خصمي في ذلك اليوم، فخفت لعله يثبت لي عند الله عذرًا، فدمعت عيناي، ووجل قلبي، وكلما ذكرت ذلك ازداد وجلي، ثم انهد باكيًا رضي الله عنه ورحمه.

أواه! من لنا بمثل عمر ؟ عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر !

بكته فاطمة زوجه بعد وفاته حتى ذهب بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين: ما هذا يا فاطمة ؟! أتجزعين على عمر فهو والله أحق من يجزع عليه، أم جزعًا على شيء من الدنيا؟ فأموالنا بين يديك، فخذي ما أحببت واتركي ما شئت، قالت: لا والله لا هذا ولا ذاك، لكني رأيت من عمر ليلة منظرًا ما تذكرته إلا بكيت، رأيته ليلة قائمًا يصلي، فجلس يقرأ حتى أتى على قول الله جل في علاه: "يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ" [القارعة:4-5] فصاح: واسوء صباحاه، ثم وثب، ثم سقط يئن حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم هدأ، ثم صاح: واسوء صباحاه، ثم قام وهو يقول: ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، وتكون الجبال فيه كالعهن المنفوش، حتى طلع الفجر، ثم سقط مغشيًا عليه، فلما سمع الأذان قام، فصلى بالمسلمين، تقول: فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي، فلم أملك رد عبرتي.

فأسأل الله أن يؤمنه وأن يؤمننا "يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ" [القارعة:4-5]، خاف الله في الدنيا فنسأل الله أن يؤمنه في الآخرة. هذه مواقف من حياة عمر وخوفه من الله، وزهده وعدله، وهذا هو عمر الذي جلس للناس مربيًا وأبًا وأخًا، هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بـعمر (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (ما من راع استرعاه الله رعية فمات حين يموت وهو لها غاش إلا حرم الله عليه الجنة).

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم.. إن التشبه بالكرام فلاح. اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالًا كـعمر يردون الأمة إليك ردًا جميلًا. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عمر-بن-عبد-العزيز
اقرأ أيضا
يؤمنون بالشريعة إلا قليلا | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

يؤمنون بالشريعة إلا قليلا


أين من يقرأ في نصوص الشريعة ويبحث في أحكامها لينظر في مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يؤمن به ويعمل بمقتضاه ويؤمن بعد ذلك كله أن هذا هو العقل والمصلحة ويعتمد في سبيل ذلك على أقاويل الصحابة وتفاسير التابعين ومذاهب الفقهاء واللغويين حتى يهتدي إلى مراد الله و مراد رسوله صلى الله عليه وسلم أين هذا ممن يضع أحكاما عقلية مسبقة و مصالح دنيوية معينة يرى أنها بحسب هواه وعقله القاصر هي العقل و المصلحة التي لا تأتي الشريعة بما ينافيها فإذا وجد آية محكمة أو حديثا صحيحا يهز بعض جوانب هذه...

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2210
أثر الحضارة الأندلسة في الحضارة الأوروبية | مرابط
تاريخ

أثر الحضارة الأندلسة في الحضارة الأوروبية


خلود الحضارات إنما يكون بمقدار ما تقدمه في تاريخ الإنسانية في مختلف نواحي الفكر والعلوم والأخلاق من آثار خالدة وإذ قد علمنا الدور العظيم الذي قدمته وأسهمت به الحضارة الإسلامية عامة وفي الأندلس خاصة في تاريخ التقدم الإنساني فبإمكاننا هنا استجلاء واستقراء هذه الآثار فيما وصلت إليه أوروبا أو النهضة والحضارة الأوروبية

بقلم: د. راغب السرجاني
483
شخصية مريم المؤمنة | مرابط
تفريغات

شخصية مريم المؤمنة


مريم المسلمة المؤمنة العابدة القانتة الطائعة لربها التي جعلت لها محرابا تصلي فيه وتعبد ربها ومحراب المرأة أيتها النساء في قعر بيوتهن كلما كان أعمق في البيت كلما كان أفضل تصلي فيه الفرائض والنوافل.. تجلس لتقرأ القرآن وتحاول أن تقوم بهذه العبادات لله عز وجل كما أمرها الله سبحانه وتعالى

بقلم: محمد المنجد
269
مسند الدارمي: نخبة من النصوص النافعة | مرابط
مقالات

مسند الدارمي: نخبة من النصوص النافعة


سأنتخب في هذه الأسطر نصوصا غزيرة النفع مما صح عن علماء القرون الأولى التي ثبت عن النبي ﷺ تفضيلها على بقية قرون هذه الأمة وسيجد فيها القارئ المتفكر عظيم الفائدة مع اختصار الألفاظ والكلمات وكان هذا من سمات علومهم وكلامهم وكل هذه الآثار مستفادة من مسند الدارمي الذي هو أحد الكتب التسعة

بقلم: أحمد يوسف السيد
531
فقه الواقع: بين النسوية والدعاة | مرابط
النسوية

فقه الواقع: بين النسوية والدعاة


المرأة اليوم متأثرة كما الرجل بمحدثات الثقافة الغالبة وغالبا لن تجد امرأة إلا وهي متأثرة بفكرة المساواة مع الرجل إلى حد ما أو فكرة الاستحقاقية بحيث ترى أن أعظم شيء تمتلكه هو كونها امرأة وفكرة المظلومية فتجدها محملة بالعديد من الأفكار المسبقة وتعتبرها مسلمات ونظرا لأنها تحب الدين فهي تحاول أن تجد نقطة اتصال بين تلك الأفكار والشرع وهنا يأتي دور الداعية الذي لا ينتبه لمداخل العصر ولا لأمراض الناس النفسية فلا يستطيع أن يعالج مشاكل الناس بشكل جذري بسببها هذا إن كان يفهمها أصلا.

بقلم: أسامة لعايض
391
احترازات الأذكياء | مرابط
مقالات

احترازات الأذكياء


قال ابن عرابة المؤدب حكي لي محمد بن عمر الصبي أنه حفظ ابن المعتز وهو يؤدبه والنازعات وقال له إذا سألك أمير المؤمنين أبوك في أي شيء أنت فقل له في السورة التي تلي عبس ولا تقل أنا في النازعات قال فسأله أبوه في أي شيء أنت قال في السورة التي تلي عبس فقال من علمك هذا قال مؤدبي قال فأمر له بعشرة آلاف درهم

بقلم: ابن الجوزي
782