من حياة عمر بن عبد العزيز ج2

من حياة عمر بن عبد العزيز ج2 | مرابط

الكاتب: خالد الراشد

641 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

سيدنا عمر والصالحون

أدنى الصالحين والعباد فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوفوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأعينوني، فكتب له أحدهم: صم هذا اليوم يا عمر ! ولا تفطر حتى تلقى الله.

وكتب له مطرف بن عبد الله: يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصمين؟ كيف بثلاثة؟ كيف وخصمك يوم القيامة أمة محمد صلوات ربي وسلامه عليه؟! جمع سبعة من الصالحين وقال: أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطًا ثلاثة -ليتنا اشترطنا هذه الشروط في مجالسنا، اسمعوا وبلغوا هذه الشروط، فرب مبلغ أوعى من سامع-:

أولها: لا تغتابوا، ولا تعيبوا في مجلسي أحدًا.
ثانيها: لا تتحدثوا في الدنيا.
ثالثها: لا تمزحوا وأنا جالس أبدًا.

فكانوا يجتمعون بعد العشاء، فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون عن مجلسهم، وكأنهم انفضوا عن جنازة.

كتب له أثناء خلافته سالم بن عبد الله بن عمر كتابًا شديدًا يقول فيه: يا أمير المؤمنين! لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صرعوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون إلى اللذات بعيون فأكلت، ويأكلون ببطون فنهشت، ويتلفتون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تحبس في جهنم يوم أن يطلق العادلون، فلما قرأ ذلك انهد باكيًا قائلًا: اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم أن يطلق العادلون.


صور من تقوى سيدنا عمر بن عبد العزيز

لقد حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يأخذ قليلًا ولا كثيرًا، همه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حتى مع الناس، وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق اليوم من سبق جواده وبعيره، إن السابق من غفر له في هذا اليوم.

كان شديد الخوف والمراقبة لله، إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بالك يا عمر ؟ فيقول: تذكرت قول الله: "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ" [الشورى:7]، فخفت خوفًا أورثني ما ترين. فما حالنا مع القرآن؟! فما حالنا مع الآيات والذكر؟! عمينا عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلمودًا لأبكاه

مقياسه في تقييم الناس هو التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات:13]، يقول عمر: والله ما رأيت متقيًا إلا وددت أني في جلده.

استدعى مزاحمًا يومًا فقال له: يا مزاحم ! لقد رأيتك تصلي الضحى في شعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله، فأحببتك والله! فكن عوني على نفسي، فإذا رأيتني ظلمت فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا ابن عبد العزيز ! فما بالهم إذا نصحوا أخذتهم العزة بالإثم؟


باب محاسبة النفس

لقد كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال منه رجل يومًا، فقيل له: رد على هذا السفيه يا عمر، فقال: إن التقي ملجم. والصمت عن جاهل أو أحمق شرف وإن فيه لصون العرض إصلاح.. أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يخسأ لعمري وهو نباح

كان رضي الله عنه لا يرد مظلمة، دخل أحدهم يبايعه فقبض يده، قال له: يا أمير المؤمنين! لم قبضت يدك؟ قال: اغرب عني، تجلد فلانًا سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك! ما غضبت لله، ولكن غضبت لنفسك ولولدك، والله لن تلي لي عملًا بعد اليوم، فعزله عمر. قطع أعطيات بني أمية وصلاتهم، فغضبوا وأرسلوا له ابنه عبد الملك، فقال له: قل لهم يا بني: "إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" [الأنعام:15].

ألجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا ألجمنا أنفسنا بهذا اللجام؟ "إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" [الأنعام:15]. ولى العباد والزهاد واختارهم، فقامت الدنيا، يقول ميمون بن مهران: لقد أخبرنا رعاة الأغنام بأن الذئاب أيام خلافة عمر ما كانت تعدو على الأغنام!

سبحان الله! حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن، فلما توفي عمر عدت الذئاب على الأغنام فعرف أهل البوادي أنه قد مات رجل عادل، فالعدل أمن وطمأنينة وسكينة، وبالعدل قامت السماوات والأرض. وكان شديد المحاسبة لنفسه، ورعًا تقيًا، كان يقسم تفاحًا أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها عمر من فمه، وأوجع فم الصغير، وذهب الصغير لأمه باكيًا، فأرسلت من اشترى له تفاحًا.

عاد عمر إلى البيت، وما عاد بتفاحة واحدة، فقال لـفاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أشم رائحة تفاح في البيت، قالت: لا والله! وقصت عليه قصة الصغير، فذرفت عيناه، وقال: والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأني انتزعتها من قلبي، ولكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من مال المسلمين، سبحان الله! ورب مشهد كهذا خير لـعمر من الدنيا وما فيها "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت:35].

كان متواضعًا لله، مدحه رجل في وجهه، فقال: يا هذا! أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف ما نظرت إلى وجهي، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه. كان شديد الخوف من الله، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، كان يذكر الله في فراشه كما تقول زوجه، ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل حتى أقول - يعني زوجه-: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم، ثم تقول: يا ليت بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، والله ما رأينا من سرور منذ تولى عمر الخلافة.

تقول زوجه فاطمة: أمسى ذات ليلة وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فصلى ركعتين، ثم جلس واضعًا رأسه على يديه، ودموعه تسيل على خده، ويشهق الشهقة فأقول: خرجت نفسه، وانصدعت كبده، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح وهو باكٍ يتألم، ثم أصبح صائمًا، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير المؤمنين! كثير منك ما كان ليلة البارحة، أأمر ألم بك أم ماذا دهاك؟! فأجابها - وقد نصب خوف الله أمام عينيه- قائلًا: إني نظرت في نفسي فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأحمرها وأسودها، يتيمها وأرملتها، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سيسألني عنهم، وأن محمدًا سيكون خصمي في ذلك اليوم، فخفت لعله يثبت لي عند الله عذرًا، فدمعت عيناي، ووجل قلبي، وكلما ذكرت ذلك ازداد وجلي، ثم انهد باكيًا رضي الله عنه ورحمه.

أواه! من لنا بمثل عمر ؟ عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر !

بكته فاطمة زوجه بعد وفاته حتى ذهب بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين: ما هذا يا فاطمة ؟! أتجزعين على عمر فهو والله أحق من يجزع عليه، أم جزعًا على شيء من الدنيا؟ فأموالنا بين يديك، فخذي ما أحببت واتركي ما شئت، قالت: لا والله لا هذا ولا ذاك، لكني رأيت من عمر ليلة منظرًا ما تذكرته إلا بكيت، رأيته ليلة قائمًا يصلي، فجلس يقرأ حتى أتى على قول الله جل في علاه: "يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ" [القارعة:4-5] فصاح: واسوء صباحاه، ثم وثب، ثم سقط يئن حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم هدأ، ثم صاح: واسوء صباحاه، ثم قام وهو يقول: ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، وتكون الجبال فيه كالعهن المنفوش، حتى طلع الفجر، ثم سقط مغشيًا عليه، فلما سمع الأذان قام، فصلى بالمسلمين، تقول: فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي، فلم أملك رد عبرتي.

فأسأل الله أن يؤمنه وأن يؤمننا "يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ" [القارعة:4-5]، خاف الله في الدنيا فنسأل الله أن يؤمنه في الآخرة. هذه مواقف من حياة عمر وخوفه من الله، وزهده وعدله، وهذا هو عمر الذي جلس للناس مربيًا وأبًا وأخًا، هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بـعمر (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (ما من راع استرعاه الله رعية فمات حين يموت وهو لها غاش إلا حرم الله عليه الجنة).

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم.. إن التشبه بالكرام فلاح. اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالًا كـعمر يردون الأمة إليك ردًا جميلًا. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عمر-بن-عبد-العزيز
اقرأ أيضا
الرجولة الحديثة | مرابط
مقالات

الرجولة الحديثة


الرجولة الحديثة يتم نسونتها وغيبت عنها معاني الخشونة وتحمل شظف العيش ونزعة العنف والصراع والصبر على الأذى والجلد كما محيت معاني تحمل المسؤولية ورعاية الضعيف والعناية بالأهل والنخوة والشهامة والمروءة والترفع عن صغائر الأمور.

بقلم: إسماعيل عرفة
410
أثر الإيمان في بناء الأمم ج1 | مرابط
تفريغات

أثر الإيمان في بناء الأمم ج1


محاضرة هامة عن عن أثر الإيمان في بناء الأمم والأفراد -والكلام القادم- سيكون عن أسباب انهيار الأمم ولماذا تنهار أمم وشعوب ولماذا تبقى غيرها فالأمر يحتاج إلى وقت طويل ولكن خطورة الأمر وأهميته هي التي تجعلنا نتحدث عنه بما يفتح الله تبارك وتعالى به علينا

بقلم: د سفر الحوالي
541
مأزق المترقب | مرابط
فكر مقالات

مأزق المترقب


واضعا يده على ذقنه يتفرج باهتمام بالغ على مشروعات العلم والدعوة والثقافة والحقوق تتسابق فعالياتها بين ناظريه هو يعرف أسماءها جيدا وفي أيام مضت تواصل مع بعض رجالات الإنتاج في هذه المشروعات بل له الآن علاقات طيبة مع بعضهم وبحوزته أيضا رقم الهاتف الخاص لبعضهم كما أن أحدهم دعاه يوما لمجلس ضم بعض هؤلاء المنتجين بل هو لا يزال يتذكر أنه أرسل لبعضهم رسالة جوال أو بريد إلكتروني ورد عليه لكنه إلى الآن ليس جزءا من أي مشروع ولم يبدأ الخطوة الثانية في أي حلم سبق أن فتح له ملفا في جهازه المحمول

بقلم: إبراهيم السكران
1106
ضرورة الحكمة | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرورة الحكمة


كلام بديع لابن قيم الجوزية يتحدث فيه عن قيمة الحكمة وضرورة وجودها في كل شيء تقريبا وكيف يتحول الأمر من قمة الخير إلى قاع الشر إذا حرم الشيء وجود الحكمة فيه حتى لو كان ظاهره خيرا مثل العلم والقدرة والقوة فكل هذا يفصله عن الشر وجود الحكمة

بقلم: ابن القيم
2076
مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج3 | مرابط
مناظرات

مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج3


اشتهر أبو بكر الباقلاني بمفصاحته وقدرته على المناظرة والبيان والذب عن الإسلام وقد ناظر في عهده الكثير من النصارى أشهر هذه المناظرات كانت لما أرسله عضد الدولة إلى ملك الروم الأعظم ليظهر له رفعة الإسلام ويناظره في معتقده وبالفعل جرت المناظرة بينهما واستعان ملك الروم بكثير من علماء النصارى حتى يقدروا عليه وكان المناظرة سبب في إسلام الكثير من النصارى وأظهر الباقلاني فصاحة عالية ورؤية ثاقبة وقدرة مبهرة على الرد والبيان

بقلم: القاضي عياض
2178
النفس جبل عظيم شاق | مرابط
اقتباسات وقطوف

النفس جبل عظيم شاق


النفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز وجل وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل فلابد أن ينتهي إليه ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه وإنه ليسير على من يسره الله عليه.

بقلم: ابن القيم
630