مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج3

مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج3 | مرابط

الكاتب: القاضي عياض

2178 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

قال القاضي: ثم سألني الملك في مجلس ثانٍ، فقال: ما تقولون في المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؟

قلت روح الله، وكلمته، وعبده، ونبيه، ورسوله. كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن، فيكون. وتلوت عليه النص.

فقال: يا مسلم تقولون: المسيح عبد؟

فقلت: نعم، كذا نقول، وبه ندين.

قال: ولا تقولون أنه ابن الله؟

قلت: معاذ الله، {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله} الآيتان، إنكم لتقولون قولًا عظيمًا. فإذا جعلتم المسيح ابن الله، فمن أبوه وأخوه وجده وعم وخاله. وعددت عليه الأقارب.

فتحيّر وقال: يا مسلم، العبد يخلق، ويحيي ويميت ويبرئ الأكمه والأبرص؟

قلت: لا يقدر العبد على ذلك وإنما ذلك كله من فعل الله عز وجلّ.

قال: وكيف يكون المسيح عبدًا لله وخلقًا من خلقه، وقد أتى بهذه الآيات، وفعل ذلك كله؟

قلت: معاذ الله ما أحيى المسيح الموتى ولا أبرأ الأكمه والأبرص.

فتحيّر وقلّ صبره، وقال: يا مسلم، تنكر هذا مع اشتهاره في الخلق، وأخذ الناس له بالقبول؟

فقلت: ما قال أحد من أهل الفقه والمعرفة، إن الأنبياء عليهم السلام، يفعلون المعجزات من ذاتهم. وإنما هو شيء يفعله الله تعالى على أيديهم، تصديقًا لهم، يجري مجرى الشهادة.

فقال: قد حضر عندي جماعة من أولاد نبيّكم، وأهل دينكم المشهورين فيكم، وقالوا، إن ذلك في كتابكم.

فقلت: أيها الملك، في كتابنا أن ذلك كله بإذن الله، وتلوت عليه منصوص القرآن في المسيح: {بإذن الله} وقلت: إنما فعل ذلك كله بإذن الله وحده لا شريك له، لا من ذات المسيح. ولو كان المسيح يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص من ذاته، لجاز أن يقال: موسى، فلق البحر، وأخرج يده بيضاء من غير سوء من ذاته. وليست معجزات الأنبياء عليهم السلام من ذاتهم وأفعالهم، دون إرادة الخالق. فلما لم يجز هذا، لم يجز أن تسند المعجزات التي ظهرت على يد المسيح إليه.

فقال الملك: وسائر الأنبياء كلهم من آدم، إلى من بعده كانوا يتضرّعون للمسيح، حتى يفعل ما يطلبون.

قلت: أوَفي لسان اليهود عظم، لا يقدرون أن يقولوا إن المسيح كان يتضرّع إلى موسى؟ وكل صاحب نبي يقول: إن المسيح كان يتضرع إلى نبيه، فلا فرق بين الموضعين في الدعوى.

قال القاضي رحمه الله: ثم تكلمنا في مجلس ثالث فقلت له: أتحد اللهوت بالناسوت؟

قال: أراد أن ينجي الناس من الهلاك.

قلت له: درى بأنه يقتل ويصلب ويفعل به كذا ولم يؤمن به اليهود؟ فإن قلت أنه لا يدري ما أراد اليهود به، بطل أن يكون إلهًا. وإذا بطل أن يكون إلهًا، بطل أن يكون ابنًا، وإن قلت قد درى ودخل في هذا الأمر على بصيرة، فليس بحكيم، لأن الحكمة تمنع من التعرض للبلاء. فبهت.

وكان آخر مجلس كان لي معه. وذكر ابن حيّان عمن حدثه أن الطاغية، وعد القاضي أبا بكر بالاجتماع معه في محفل من محافل النصرانية ليوم سمّاه. فحضر أبو بكر وقد احتفل المجلس، وبولغ في زينته، فأدناه الملك وألطف سؤاله، وأجلسه على كرسيه، دون سريره بقليل. والملك في أبهته وخاصته، عليه التاج، والذرية ورجال مملكته، على مراتبهم.

وجاء البطرك قيم ديانتهم، وقد أوعد الملك إليه في التيقظ، وقال له: إن فناخسرو ملك الفرس، الذي سمعت بدهائه وبكرامته، لا ينفذ إلا من يشبهه في رحلته وحيلته. فتحفظ منه. وأظهر دينك. فلعلك تتعلق منه بسقطة، أو تعثر منه على زلة تقضي بفضلنا عليه. فجاء البطرك قيم الديانة، وولي النِّحلة. فسلم القاضي عليه أحفل سلام. وسأله أحفى سؤال، وقال له: كيف الأهل والولد؟

فعظم قوله هذا عليه، وعلى جميعهم وتغيروا له، وصلبوا على وجوههم، وأنكروا قول أبي بكر عليه، فقال: يا هؤلاء تستعظمون لهذا الإنسان اتخاذ الصاحبة والولد، وتربون به عن ذلك، ولا تستعظمونه لربكم، عزّ وجهه، فتضيفون ذلك إليه؟ سوءة لهذا الرأي ما أبين غلطه. فسقط في أيديهم، ولم يردوا جوابًا.

وتداخلتهم له هيبة عظيمة، وانكسروا، ثم قال الملك للبطرك: ما ترى في أمر هذا الشيطان.

قال: تقضي حاجته، وتلاطف صاحبه، وتبعث بالهدايا إليه، وتخرج العراقي عن بلدك من يومك إن قدرت. وإلا لم آمن الفتنة منه على النصرانية. ففعل الملك ذلك وأحسن جواب عضد الدولة، وهداياه، وعجل تسريحه، ومعه عدة من أسارى المسلمين والمصاحف. ووكل بالقاضي من جنده من يحفظه، حتى وصل إلى مأمنه.

 


 

المصدر:

  1. القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، 486/1
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
ما الحداثة | مرابط
فكر

ما الحداثة


نحن الآن أمام مصطلح موهم غاية الإيهام فبينما نحسب أنه يحمل معنى أصيلا وفكرا ذاتيا إذا به عند التحقيق نجده فكرا مستعارا مستوردا ليس لدعاته في بلادنا إلا النقل من لغته إلى العربية وبينما نحسبه قضية ذات شأن عظيم إذا به فكر شائه وغثاء فارغ بل وخطر داهم الحداثة يحيط بمعناها غشاء كثيف يحجب الرؤية ويشتت الذهن فإذا ما بدا من معناه شيء شعر المرء بالغثيان والصدود وهكذا الباطل ظلمات بعضها فوق بعض بينما الحق نور يتلألأ

بقلم: د أحمد محمد زايد
1419
مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج2 | مرابط
مناقشات

مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن ج2


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الخطأ أو ربما الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها وبين يديكم أحد أهم مقالاته في الرد على كتاب طه حسين حول موضوع الحياة الجاهلية وهل نلتمس ملامحها من القرآن أم من الشعر

بقلم: محمد الخضر حسين
684
المروجون لسؤال غير الله ودعائه | مرابط
أباطيل وشبهات فكر

المروجون لسؤال غير الله ودعائه


إن المروجين لسؤال غير الله ودعائه والنذر له.. بأقوالهم وأفعالهم هم كذلك يحاربون الفطرة والدين والعقل. أولئك مضلون صادون عن سبيل الله وهؤلاء كذلك.. ويجب بيان باطلهم وكشفهم وفضحهم بكل وضوح صراحة. هم والله قطاع طرق يصدون عن سبيل الله. ولا أعلم شيئا أولى بالرد والبيان والتفصيل من مقام إخلاص الدين لله الذي هو الأصل الذي خلق الله له السموات والأرض وما بينهما.. أن يكون الدين كله لله وليس بعضه له وبعضه لشركائهم!

بقلم: حسين عبد الرازق
400
العقل والشرع والعلاقة بينهما | مرابط
تفريغات

العقل والشرع والعلاقة بينهما


فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة العقل وقد أناط الله تبارك وتعالى التكليف جملة وتفصيلا على وجود هذا العقل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ والصغير حتى يحتلم والمجنون حتى يفيقوالذي يقرأ آيات القرآن الكريم يجد فيها تمجيد العقل وتعظيمه وبين يدينا تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيها عن العقل والنقل وعلاقة العقل بالشرع

بقلم: أبو إسحق الحويني
1260
كيف استطاع هتلر أن يتحكم بالأطفال | مرابط
تاريخ فكر مقالات ثقافة

كيف استطاع هتلر أن يتحكم بالأطفال


في الموروث الثقافي الألماني يكون الأب هو سيد البيت والبقية لا يملكون سوى الطاعة من غير سؤال وهكذا كان هتلر بالنسبة للمجتمع الألماني هو الوحيد المسؤول وهو الوحيد الذي له السمع والطاعة فقد نقل مفهوم الأب من البيت إلى إدارة الدولة وكان دائما يستخدم في خطابه مع الأطفال مفاهيم الأبوة فكان يقول: إنه يهتم بأمرهم وبمستقبلهم وإنه يحبهم ويرعاهم

بقلم: محمد علي فرح
492
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج3 | مرابط
تفريغات

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج3


لقد عزمنا على أن نقوم بعمل يقاوم جهود المنصرين واسترشدنا بمشورتكم وبآرائكم وباقتراحاتكم الكثيرة وتوصلنا إلى هذا المشروع وهذه هي فكرته ببساطه: هي أنه لا بد من عمل ما ونحن لا نستطيع أن نفتح مستشفيات أو مطارات أو جامعات لا نستطيع إلا في حدود ما أعطانا الله وهو أن ننشر العلم الصحيح والعقيدة الصحيحة ونرد شبه هؤلاء بالرد العلمي الذي هو مجالنا وبضاعتنا الوحيدة

بقلم: سفر الحوالي
754