من مقومات المجتمع المسلم: العدل

من مقومات المجتمع المسلم: العدل | مرابط

الكاتب: د سفر الحوالي

630 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ومن أعظم وأهم مقومات المجتمع المسلم العدل؛ لأن السماوات والأرض إنما قامت بالعدل، وأمر الله تعالى به في القول، وأمر به في العمل، وأمر به في كل شيء، قال تعالى: "وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى" [الأنعام:152]، وقال: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة:8]، وقال: "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ" [الرحمن:7-9]، وغير ذلك كثير، فهذه الأمة أمة العدل.

ولذلك كان من سنة الخلفاء الراشدين ما أمر به عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه حين جعل مكان بعض العبارات التي لا تليق في خطب الجمعة هذه الآية الكريمة العظيمة الجامعة "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ" [النحل:90].

فالعدل مطلوب من هذه الأمة بالذات، بل من كل أحد، وهو محببٌ إلى النفوس جميعًا، وتطلبه كل الفطر والعقول في المجتمعات كافة، الكافر منها والمؤمن، فكلها تريد العدل، وكلها تدَّعيه، وتحبه وتنشده، ولكن الأمة التي تعرف الحق وهديت إلى الحق وبه يعدلون هي هذه الأمة والحمد لله، التي أعطاها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- العدل لا مبادئ عامة -كما يزعمون- ولكن حقائق وأحكامًا تفصيلية، مفصل لك كيف تعدل في بيتك وكيف تعدل في عملك وكيف تعدل في ولايتك إذا كنت قاضيًا أو أميرًا؟ فالحكم واضح أمامك.

كل الأحكام فصَّلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تفصيلًا في كتابه أو في سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، فهي الأمة التي تستطيع وحدها أن تقوم بالعدل في هذا العالم الظالم المظلم الذي أحدقت به الظلمات والمظالم من كل مكان.

و أي أمة في الدنيا الآن تملك العدل أو تستطيع أن تعدل بين أفرادها فضلًا عن العدل بين الناس؟!

إن أفضل ما لدى الغرب: هو ما يزعمونه من الديمقراطيات، وأي عدلٍ في الديمقراطيات؟!

إننا نأسف أسفًا شديدًا أن تصبح هذه الديمقراطيات هي الهدف الذي يتطلع إليه بعض المسلمين! الذين أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل هذا العلم والحقائق، وأنزل إليهم الكتاب مفصلًا، فكيف تطلبونها؟!

إن الرجل الذي لا يملك المال، لا يملك النفقة الانتخابية، وبالتالي لا يمكن أن يرشح، وبالتالي لن يصل إلى شيء في هذا العالم، فبقدر رأس مال الإنسان في الدول الديمقراطية الغربية، تكون مكانته وقيمته، فأين العدل إذًا؟

إن الضعفاء من العمال ومن طبقة صغار الموظفين مسحوقون مظلومون لا يؤبه لهم بشيء، نعم هناك مبادئ وضعوها وأجمعوا عليها ويحاولون أن يصلوا إلى شيء من العدل وأنَّى لهم ذلك.

إن هذا العدل يجب أن نحييه في هذه الأمة في بيوتنا لنكون من المقسطين كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين وهم الذين يعدلون في أهليهم وما ولوا) هكذا يجب أن نكون، وهذا عدلٌُ تغنَّى به الناس قديمًا وحديثًا.

إن ما يعيشه العالم اليوم فهو جاهلية، وإن شئت فقل هذه مثل تلك سواء، من لم يعرف الله أو من جهل الله -عز وجل- فهو في جاهلية في أي عصرٍ كان وفي أي مصرٍ عاش.

كان العرب في الجاهلية يتغنون في أشعارهم بعدل كسرى الذي لم يشملهم يومًا واحدًا من حياتهم بعدله، مثلما نجد اليوم العالم الإسلامي والدول العربية تتغنى بعدل الديمقراطية وتفرح بها مع أنه لم يشملها شيء من خيرها إن كان فيها خير، ويقولون لما قتل:

همُ قتلوه كي يكونوا مكانه     كما غدرت يومًا بكسرى مرازبه

إلى آخر ما تغنوا به، حتى جاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهذا الدين، فعرف الناس حقيقة العدل، ورحم الله من قال:

أتى عمر فأنسى عدل كسرى     كذلك كان عهد الراشدين

نسي الناس عدل كسرى، فما هو عدله بالنسبة إلى عدل عمر رضي الله تعالى عنه وإلى عدل من بعده؟ والقضية ليست قضية عمر، إنها قضية الدين والإسلام الذي حول أولئك الجاهليين من جفاة غلاظ الأكباد إلى أمة رحيمة مشفقة عادلة.

وجاء حفيده عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وحدث ما حدث من فتح بعض المدن التي هي اليوم ضمن ما يسمونه الاتحاد السوفيتي، ودخل الجيش المسلم بقيادة قتيبة بن مسلم، واقتحم المدينة بعد أن صالح أهلها لكثرة ما غدروا به، فعلم أهلها أن المسلمين أمة العدل وأنهم لا يقرون الظلم، فأتوا إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وقالوا: بلغنا عنكم العدل، وقد صالحنا قائدكم ثم غدر بنا وفتحها، فلما تبين عمر رضي الله تعالى عنه ذلك؛ أمر الجيش المسلم أن يخرج من المدينة بعد أن فتحها، وقد غدروا به ولم يقل هذا جزاء غدرتكم، فلما خرجوا ورأى أهل المدينة ذلك عيانًا، عجبوا لهذا العدل، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ودخلوا في الإسلام وما زالت بلاد إسلام، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يفك أسرها.

كان الناس يرون عدل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما رأت الدنيا كلها هذا العدل الذي هو أحوج ما تكون إليه الأمة اليوم، وظل العدل -ولله الحمد- شيمة هذه الأمة وإن قل عمَّا كان في الصدر الأول.

ولا يزال تاريخ الصليبيين الأوائل عندما اجتمعت أوروبا الصليبية أول مرة -ولا زالت تجتمع في كل مرة- ينطق بعدل صلاح الدين,ونور الدين وقد عجبوا من هذه الأمة كيف تعيش هذه الحياة الكريمة؟

وكيف تعدل هذا العدل الذي هو من شيم الأنبياء لا من شيم ملوك الدنيا كما عبَّروا هم بذلك، وكثيرٌ منهم بقي في بلاد العالم الإسلامي، وأسلم لما رأى تلك الحياة الكريمة، وتلك العدالة التي تنشدها النفوس ولم تجدها إلا في ظل هذا الدين.

 


 

المصدر:

محاضرة مقومات المجتمع المسلم

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العدل
اقرأ أيضا
هل يمكن أن نعيد رسم التاريخ الجزء الثاني | مرابط
تاريخ فكر مقالات

هل يمكن أن نعيد رسم التاريخ الجزء الثاني


في حياة الشعوب كثير من المنعطفات التي غيرت مسار التاريخ صعدت بها إلى الأعلى أو هبطت بها إلى الأسفل والتاريخ -في نهاية الأمر- ليس إلا رجل وموقف وعبر سلسلة من الرجال والمواقف يكتب التاريخ أحداثه لذا فنحن قادرون على رسم التاريخ وأن نورث لأبنائنا تاريخا خيرا من الذي ورثناه عن أجدادنا فلقد ورثنا عنهم من الخبرة مالم يتوفر لهم كما سنورث أبناءنا من الخبرات ما يجعلهم قادرين على أن يورثوا أولادهم تاريخا خيرا مما ورثوه منا كل ذلك شريطة أن يتولى رسم المسار رجال يؤمنون بالتعايش بين بني الإنسان فيتصرفون...

بقلم: راغب السرجاني
1304
الدفاع عن السنة الجزء الأول | مرابط
تفريغات

الدفاع عن السنة الجزء الأول


النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء بدين الله عز وجل قال له ورقة هذه الكلمة التي تعد من أصدق ما قاله إنسان جاء النبي فخالف كثيرا من أعراف العرب وأهواء الجاهلية ولذلك رموه عن قوس واحدة وجاء يقول لهم: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا فأبت العرب أن تقول هذه الكلمة ورضيت أن تدخل في حروب دمرت اقتصادياتها وقتلت أشراف الناس فيها وسبيت النساء وكان العرب أصحاب غيرة إذا هم فهموا معنى: لا إله إلا الله وما معنى أن يقول الواحد منهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله

بقلم: أبو إسحق الحويني
842
يؤمنون بالشريعة إلا قليلا | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

يؤمنون بالشريعة إلا قليلا


أين من يقرأ في نصوص الشريعة ويبحث في أحكامها لينظر في مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يؤمن به ويعمل بمقتضاه ويؤمن بعد ذلك كله أن هذا هو العقل والمصلحة ويعتمد في سبيل ذلك على أقاويل الصحابة وتفاسير التابعين ومذاهب الفقهاء واللغويين حتى يهتدي إلى مراد الله و مراد رسوله صلى الله عليه وسلم أين هذا ممن يضع أحكاما عقلية مسبقة و مصالح دنيوية معينة يرى أنها بحسب هواه وعقله القاصر هي العقل و المصلحة التي لا تأتي الشريعة بما ينافيها فإذا وجد آية محكمة أو حديثا صحيحا يهز بعض جوانب هذه...

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2281
أبرز آراء النسوية الراديكالية: إعادة صياغة اللغة | مرابط
النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: إعادة صياغة اللغة


ليست هناك خطورة في مراجعات كلمات معينة أو مصطلحات غير دقيقة الصياغة أو كتابة نصوص تحابي المرأة بضمائر التأنيث وإنما الخطورة تكمن في أن الأنثوية تحاول أن تفرض كلمات معينة ومصطلحات خاصة وجديدة تعبر عن رؤيتها للعالم وفكرها الخاص في كل القضايا التي طرحناها وهي شاملة ومتعددة الجوانب وبهذا الشكل بإنها تريد تزييف المعارف الإنسانية والتمهيد لترسيخ ثقافة خاصة بها وخلق قيم جديدة وتكريسها عبر الوعاء اللغوي وعلاقة الترابط الموجودة بين الدال والمدلول

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
1912
حدود العلم | مرابط
فكر ثقافة

حدود العلم


العلم لا يغطي إلا جانب ضيق جدا من حقل المعرفة وهو ليس موضوعيا وإنما ذاتي يخضع للرؤية البشرية وتحلله القدرة البشرية والعلم لن يقترب من أسئلة الوجود الكبرى مثل: لماذا نحن هنا وإلى أين نحن ذاهبون؟ ولذا لما سألت دير شبيغل هايدغر عما إذا كان في مقدرة الانسان الوصول للأفضل والأكمل عبر مساعيه وأبحاثه قال : الله فقط يمكن أن ينقذنا.

بقلم: د. هيثم طلعت
300
هنري ماكآو: بين النقاب والسفور | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف المرأة

هنري ماكآو: بين النقاب والسفور


إن المرأة التي تلبس النقاب قد اتصفت بمجموعة من الصفات النفسية والتي تبدو رائعة إنها لا تهتم بالشكل الخارجي لمظهرها -يقصد ملبسها- مما يعطيها فرصة أكبر لتهتم بجسدها وشكلها بداخل بيتها أكثر من خارجه ﻷن الضغوط النفسية التي تتعرض لها تكون أقل مما يعطيها مساحة للتأنق داخل البيت براحة كبيرة

بقلم: محمد علي فرح
633