انطلاقا من قسمة ابن عباس لطبيعة التفسير القرآني "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله"، فثمة مجال تفسيري يجب أن لا يتحدث فيه إلا ذوو الاختصاص من أهل العلم، وذلك لاختصاصهم بجملة من المعارف والعلوم تؤهلهم لمثل هذا النظر الشرعي في القرآن الكريم.
التخصص والتقليد
وهذه بدهية عقلية وشرعية، بأن للمختص امتيازا في مجاله العلمي عن غيره، وعليه فمنازعة أهل العلم قراءتهم للنص الشرعي في هذا المجال التفسيري لا شك خطأ، ثم ترتيب نتائج على مثل هذه المنازعة خطأ وضلال مركب، بل الواجب على من كان جاهلا سؤال العالم "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" بدل الوقوع في مصيبة "وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ" والعلم نقطة كثرها الجاهلون، ولو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف.
ومن المغالطة بل من الجهل المركب أن يقال: إن التخصص مطلوب في العلوم التطبيقية، دون العلوم الشرعية، بحجة أن الدين مكلف به كل مسلم والتكليف يستلزم العلم؟
هذا الكلام يشهد على صاحبه بأنه غير متخصص إطلاقا، وأنه عاجز تماما عن التصور الصحيح لمسائل العلم؛ ذلك لأن التكليف وإن كان يشترط له العلم، إلا أن الله لم يكلف الخلق كلهم أن يكونوا علمهم تفصيليا مبنيا على نظر في الأدلة وموازنة بين الأقوال والخلافات، ولو كلف الله الخلق كلهم بذلك لكلفهم فوق ما يطيقون.
فالمسلم ليس بالضرورة أن يكون متخصصًا حتى يقيم عباداته وتكاليفه، إذ قد جعل الله للناس مخرجًا "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" وسؤال الناس للعالم فيما أشكل عليهم، مما تبرأ به ذممهم، ولم يكلفهم الله أكثر من ذلك، ومن ظن أن التكليف يستلزم العلم المفصل فقد أبعد النجعة وأطال الهجعة.
ذم التقليد
ومن الخلط هنا استجلاب كلام الأئمة في ذم التقليد وأنه لا يجوز إلا للضرورة كي ينقض بها مسألة التخصص؟
فهل معنى كلامهم أن على الجميع التوصل للحكم التفصيلي بالاجتهاد الشخصي، المبني على النظر في الأدلة والموازنة بينها والترجيح بين الأقوال؟ لو صح هذا الكلام لكان على جميع المسلمين أن يدعو علومهم الآخرى وشؤونهم الدنيوية، ويقلبوا على تعلم (الفقه، والأصول، واللغة، والعقائد والتفسير وسائر علوم الشريعة)، ولكان طلب العلم الشرعي بجميع صوره وأشكاله واجبا متعينا على كل أحد لا يجوز تركه إلا في حالات الضرورة المشابهة لأكل الميتة، وهو ما لا يمكن أن يقول به أحد.
أهل العلم حين يتحدثون عن ذم التقليد وإباحته حال الضرورة، إنما يعنون بذلك أهل العلم المتخصص الذي آتاهم الله العلم، ومع ذلك يصرون على تقليد علماء آخرين متخصصين مثلهم، كالأئمة الأربعة ونحوهم.
فمثل هؤلاء قعلهم فاسد ظاهر الفساد؛ ﻷن التقليد لا يشرع للعالم الذي يقوى على الاجتهاد، إذ عنده آلة العلم والفهم ما يؤهله للنظر واستنباط الأحكام، فليس له أن ينصرف عن علمه تقليدا لعلم آخر. أما عموم الناس، فإن التقليد مباح لهم كشرب الماء، وليس عليهم فيه أدنى حرج، ومن قال إن التقليد بالنسبة لجميع الخلق لا يجوز إلا للضرورة؛ فقد شق على المسلمين وكلفهم ما لا يطيقون.
وبكل حال فالخروج عن تفسير أهل العلم للقرآن موقع للإنسان في الخطأ ولا شك، وكم أتألم حين أجد متحدثا في هذه المسائل يريد أن يقرر حقه في الاستقلال بتفسير القرآن وأنه رجل في هذا الباب كما الأئمة رجال، ثم إذا سألته عن معنى شيء من غريب قصار المفصل احتار وعجز، فما أبعد هذا الصنف عن إصابة الحق.
المصدر:
- عبد الله بن صالح العجيري، ينبوع الغواية الفكرية، ص212