هجرة وهجرة

هجرة وهجرة | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

2167 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الهجرة إلى الله

الهجرة إلى الله عزَّ وجلَّ من أسمى المعاني الإيمانية، ومن أعظم التضحيات التي يمكن أن يقدمها العبد إرضاءً لله سبحانه وتعالى، ومن ثَمَّ وعد اللهُ عز وجل الذين هاجروا بأعظم الثواب، وأرفع الدرجات، فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58]. وقال أيضًا {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41] وقال أيضًا: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].
 
وهذا الثواب العظيم سببه تلك التضحية الكبرى التي يقدمها العبد، الذي يترك بلده وداره وماله، وربما زوجه وأهله وأبناءه ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، ونصرة لدينه، ورفعًا لراية الإسلام.
 

الصحابة رضوان الله عليهم

 

أبو بكر رضي الله عنه

وقد ضرب لنا الصحابة رضوان الله عليهم المُثُل العليا في ذلك الميدان؛ إذ تركوا مكة وهاجروا بدينهم إلى المدينة، وصاغوا أروع القصص في التضحية؛ فهذا أبو بكر يهاجر مع رسول الله تاركًا أهله، ومنفقًا ماله في سبيل الله تعالى؛ فيروي ابن إسحاق عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها، قَالَتْ: "لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلّهُ وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتّةُ آلاَفٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدّي أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاَللّهِ إنِّي لاَ أَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِه. قَالَتْ: قُلْت: كَلاَّ يَا أَبَتِ، إنّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: فَأَخَذْت أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي كُوّةٍ فِي الْبَيْتِ الّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْت عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمّ أَخَذْت بِيَدِهِ، فَقُلْت: يَا أَبَتِ، ضَعْ يَدَك عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلاَغٌ لَكُمْ. وَلاَ وَاَللّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ أُسَكِّنَ الشّيْخَ بِذَلِكَ[1].
 

صهيب رضي الله عنه

وهذا صهيب الرومي يروي قصة هجرته فيقول: قال رسول الله: "أُرِيتُ دار هجرتكم سبخة[2] بين ظهراني حرة، فإمّا أن تكون هَجَرَا أو تكون يثرب". قال: وخرج رسول الله إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت بالخروج معه، فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم ولا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه، ولم أكن شاكيًا، فقاموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بريدًا ليردوني، فقلت لهم: هل لكم أن أعطيكم أواقي[3] من ذهب وتخلون سبيلي، وتفون لي؟ فتبعتهم إلى مكة، فقلت لهم: احفروا تحت أسكفة[4] الباب؛ فإن تحتها الأواق، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين، وخرجت حتى قدمت على رسول الله قبل أن يتحول منها - يعني قباء -، فلما رآني قال: "يا أبا يحيى، ربح البيع" ثلاثًا. فقلت: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام[5].
 
كانت الهجرة إذن سبيلًا عظيمًا من سبل الجهاد لنشر الإسلام، ومصطلح الهجرة لذلك مصطلح عزيز غالٍ، له مكانة سامية عند جميع المسلمين.
 

الهجرة الأخرى

وقد عاد مصطلح الهجرة للظهور في عالم المسلمين مرة أخرى في السنين القليلة الماضية، ولكن في هذه المرة لم يكن المقصود بالهجرة إعلاء الدين بدرجة خالصة، إنما قد يهاجر من بلد مسلم إلى بلد مسلم آخر سعيًا وراء رزقه، وقد تكون هذه الهجرة إلى المدينة المنورة ذاتها كما كانت أيام الهجرة الأولى، لكنها ليست خالصةً كما كانت؛ فالهدف الأول فيها طلب المال، وهو ليس حرامًا إِنْ أتى من حلال، ولكن لا يجب على المرء أن يخدع نفسه بأنه ذهب إلى هناك في سبيل الله، ودليل ذلك أنه لو أُتيح له فرصة عمل بأجر أعلى أو ظروف أفضل في مكان آخر؛ فإنه سيترك المدينة المنورة إلى غيرها من المدن.. ومن هنا فإننا لا نستطيع إسقاط الآيات والأحاديث التي وردت في فضل الهجرة على هذه المواقف إلا إذا كانت الهجرة من البلد للفرار بالدين أساسًا، وإن كان الراتب أقل والظروف أصعب.
 
وأشق من ذلك ما نراه أحيانًا من هجرة بعض المسلمين إلى بلاد الغرب للإقامة الدائمة فيها طلبًا للرزق وارتقاءً بالمستوى المادي، أو سعيًا وراء العلم، أو الحرية الشخصية، أو للزواج من أجنبية.
 

فهجرته إلى ما هاجر إليه

وكل ما مضى من أسباب قد يكون لا غبار عليه، ولا حُرمة فيه، وقد يدخل في باب الجواز، ولكن لا يدخل في باب الهجرة التي قصدها الشرع، ويدل على ذلك قول رسول الله: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"[6].
 
وهذا اللفظ "فهجرته إلى ما هاجر إليه" يدل على أن الهجرة للدنيا أو التزوج ليس حرامًا، "وَإِنَّمَا أَشْعَرَ السِّيَاق بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ طَلَبَ الْمَرْأَة بِصُورَةِ الْهِجْرَة الْخَالِصَة، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهَا مَضْمُومَة إِلَى الْهِجْرَة فَإِنَّهُ يُثَاب عَلَى قَصْد الْهِجْرَة لَكِنْ دُون ثَوَاب مَنْ أَخْلَصَ، وَكَذَا مَنْ طَلَبَ التَّزْوِيج فَقَطْ لاَ عَلَى صُورَة الْهِجْرَة إِلَى اللَّه؛ لأَنَّهُ مِنَ الْأَمْر الْمُبَاح الَّذِي قَدْ يُثَاب فَاعِله إِذَا قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَة كَالإِعْفَافِ"[7].
 
ولكن طلب هذه الدنيا ينبغي ألا يتم بصورة تخالف العهود والنظم الخاصة بكل دولة، كما يحدث من بعض الشباب الذين ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم، ولم يجدوا لهم عملًا كريمًا، ولم يبحث لهم المسئولون عن سبيل يعولون منه أسرهم، ويكوِّنون مستقبلهم، فحاولوا التسلل لبلاد أخرى دون موافقة سلطات هذه البلاد، وهذا فيه مخالفة لنظم تلك الدول، والشرع الإسلامي يحترم ما تضعه الدول من أنظمة ما دامت لا تخالف الشرع؛ لذا ينبغي على هؤلاء الشباب البحث عن سبيل ليس به مخالفة.
 
إننا نعرف مدى ما أصاب هؤلاء الشباب والرجال من ضيقٍ في العيش، يتحمل مسئوليته المسئولون الذين لم يقوموا بواجبهم في خدمة شعوبهم، بل ربما شاركوا في التضييق على هذه الشعوب رعاية لمصالحهم الخاصة، وتلك جريمة يتحملون وزرها أمام رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن على من يغامرون بمخالفة قوانين الدول الأخرى، وربما تعرَّضوا للسجن أو الترحيل إن وصلوا إليها سالمين على أفضل الأحوال، أو للموت في الطريق غرقًا في البحر، أقول: على هؤلاء أن يسلكوا طريقًا أخرى لطلب الرزق، ولا ييئسوا؛ فاللهُ هو الرزاق ذو القوة المتين. نسأل الله U الصلاح للمسلمين جميعًا في الدنيا، والجنة في الآخرة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ابن هشام: السيرة النبوية 488/1
  2. السبخة: الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر
  3. الأواقي: جمع أوقية، وهي أربعون درهمًا
  4. الأسكفة: عتبة تكون تحت الباب
  5. الحاكم في المستدرك: 176/13، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه (أي البخاري ومسلم)
  6. أبو داود: السنن 437/6
  7. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، باب بدء الوحي 2/1

 

المصدر:

  1. راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، الجزء الأول، ص173
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الهجرة
اقرأ أيضا
مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر | مرابط
اقتباسات وقطوف

مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر


مقتطف لابن القيم من كتاب الفوائد يذكر فيه قاعدتين جليلتين في دين الإسلام ألا وهما الذكر والشكر قال تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ويفصل لنا الحديث عنهما وما جاء فيهما في كتاب الله المحكم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم

بقلم: ابن القيم
978
كشمير القضية المنسية | مرابط
توثيقات

كشمير القضية المنسية


في عام 1947م قررت بريطانيا انسحابها من القارة الهندية بعد تقسيمها إلى دولتين هما الهند وباكستان وتركت بعض الولايات منها كشمير لكي تنضم إلى أي دولة وفقا لرغبة جماهيرها وشعوبها وكانت كشمير ذات أغلبية إسلامية غير أن حاكمها هندوسي فنشأت القضية منذ ذلك الوقت حيث دخلت القوات الهندية واحتلت ثلث الأراضي الكشميرية ثم قامت بممارسة العنف والاضطهاد لمنع الشعب المسلم من المطالبة بتقرير مصيره وقد نشبت بين الهند وباكستان لأجل هذه القضية ثلاثة حروب كانت نتيجتها انفصال بنجلادش عن باكستان وإصدار مجلس الأمن ا...

بقلم: أحمد بن حسين الفقيهي
716
ذكر المتحابين في الله | مرابط
اقتباسات وقطوف

ذكر المتحابين في الله


حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن ميسرة عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى: المتحابون بجلالي في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي وحدثنا علي بن الجعد حدثنا عبد الحميد بن بهرام حدثنا شهر بن حوشب حدثني عايذ الله بن عبد الله أن معاذ بن جبل حدثه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المتحابون بجلال الله عز وجل في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله

بقلم: ابن أبي الدنيا
739
معالم في طريق تمكين الأسرة | مرابط
فكر المرأة

معالم في طريق تمكين الأسرة


هناك حملة عالمية لتمكين المرأة تحركها جهات معلومة وأدواتها لم تعد خافية على أحد لا يريدون خيرا بالمرأة ولا يسعون لتحريرها بل لتحرير الوصول إليها. ولقد بات معروفا حتى لدى بسطاء الناس أن هدف هذه الجهات ليس الرقي بالمرأة ولا رعاية مصالحها بل تحطيم الأسرة التي هي نواة المجتمع والتي تمثل المرأة فيها محورها وقطب رحاها.

بقلم: د. جمال الباشا
335
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج3 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج3


يقول الحسن البصري: اثنان لا يشبعان: طالب دنيا وطالب علم لو أفنيت عمرك كله ما حزت العلم كله ولما شبعت منه وكلما أخذت منه شيئا بقي منه شيء كثير ولن تستطيع الإحاطة به قال تعالى في الآية الكريمة: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا الإسراء:85 فدائما العلم كثير إذا: لن ينتهي العلم أبدا إلا بالموت وإذا مت وقد اجتهدت في العلم تجد الأجر والمثوبة على ما قدمت وطالب الدنيا أيضا لا يشبع والله لو عنده من الأموال كماء البحر فهو كأنه يشرب من البحر لا يرتوي أبدا طالب الدنيا

بقلم: د راغب السرجاني
559
لماذا لا يثق الليبراليون بالليبراليات: الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

لماذا لا يثق الليبراليون بالليبراليات: الجزء الثاني


يستطيع الليبرالي أن يعيش ازدواجية عنيفة بين شخصيته التي يظهر بها أمام أضواء الإعلام وفي سطور مؤلفاته أو مقالاته وشخصيته الحقيقية التي تظهر عندما تنطفئ هذه الأضواء وعندما يعم الظلام ويجف مداد القلم هنا تظهر هذه الازدواجية لترى الانحلال الأخلاقي والنظرة الشهوانية الجنسية للمرأة التي تقبع داخله بينما ينادي ليل نهار بحرية المرأة والتعامل معها على أنها إنسان له حقوق وكرامة قبل كل شيء وفي هذا المقال سترى الكثير من الشهادات بألسنة الليبراليين أنفسهم لتدرك وهم الليبرالية

بقلم: إبراهيم السكران
2183