
الهجرة إلى الله
الهجرة إلى الله عزَّ وجلَّ من أسمى المعاني الإيمانية، ومن أعظم التضحيات التي يمكن أن يقدمها العبد إرضاءً لله سبحانه وتعالى، ومن ثَمَّ وعد اللهُ عز وجل الذين هاجروا بأعظم الثواب، وأرفع الدرجات، فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58]. وقال أيضًا {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41] وقال أيضًا: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].
وهذا الثواب العظيم سببه تلك التضحية الكبرى التي يقدمها العبد، الذي يترك بلده وداره وماله، وربما زوجه وأهله وأبناءه ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، ونصرة لدينه، ورفعًا لراية الإسلام.
الصحابة رضوان الله عليهم
أبو بكر رضي الله عنه
وقد ضرب لنا الصحابة رضوان الله عليهم المُثُل العليا في ذلك الميدان؛ إذ تركوا مكة وهاجروا بدينهم إلى المدينة، وصاغوا أروع القصص في التضحية؛ فهذا أبو بكر يهاجر مع رسول الله تاركًا أهله، ومنفقًا ماله في سبيل الله تعالى؛ فيروي ابن إسحاق عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها، قَالَتْ: "لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلّهُ وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتّةُ آلاَفٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدّي أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاَللّهِ إنِّي لاَ أَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِه. قَالَتْ: قُلْت: كَلاَّ يَا أَبَتِ، إنّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: فَأَخَذْت أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي كُوّةٍ فِي الْبَيْتِ الّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْت عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمّ أَخَذْت بِيَدِهِ، فَقُلْت: يَا أَبَتِ، ضَعْ يَدَك عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلاَغٌ لَكُمْ. وَلاَ وَاَللّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ أُسَكِّنَ الشّيْخَ بِذَلِكَ[1].
صهيب رضي الله عنه
وهذا صهيب الرومي يروي قصة هجرته فيقول: قال رسول الله: "أُرِيتُ دار هجرتكم سبخة[2] بين ظهراني حرة، فإمّا أن تكون هَجَرَا أو تكون يثرب". قال: وخرج رسول الله إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت بالخروج معه، فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم ولا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه، ولم أكن شاكيًا، فقاموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بريدًا ليردوني، فقلت لهم: هل لكم أن أعطيكم أواقي[3] من ذهب وتخلون سبيلي، وتفون لي؟ فتبعتهم إلى مكة، فقلت لهم: احفروا تحت أسكفة[4] الباب؛ فإن تحتها الأواق، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين، وخرجت حتى قدمت على رسول الله قبل أن يتحول منها - يعني قباء -، فلما رآني قال: "يا أبا يحيى، ربح البيع" ثلاثًا. فقلت: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام[5].
كانت الهجرة إذن سبيلًا عظيمًا من سبل الجهاد لنشر الإسلام، ومصطلح الهجرة لذلك مصطلح عزيز غالٍ، له مكانة سامية عند جميع المسلمين.
الهجرة الأخرى
وقد عاد مصطلح الهجرة للظهور في عالم المسلمين مرة أخرى في السنين القليلة الماضية، ولكن في هذه المرة لم يكن المقصود بالهجرة إعلاء الدين بدرجة خالصة، إنما قد يهاجر من بلد مسلم إلى بلد مسلم آخر سعيًا وراء رزقه، وقد تكون هذه الهجرة إلى المدينة المنورة ذاتها كما كانت أيام الهجرة الأولى، لكنها ليست خالصةً كما كانت؛ فالهدف الأول فيها طلب المال، وهو ليس حرامًا إِنْ أتى من حلال، ولكن لا يجب على المرء أن يخدع نفسه بأنه ذهب إلى هناك في سبيل الله، ودليل ذلك أنه لو أُتيح له فرصة عمل بأجر أعلى أو ظروف أفضل في مكان آخر؛ فإنه سيترك المدينة المنورة إلى غيرها من المدن.. ومن هنا فإننا لا نستطيع إسقاط الآيات والأحاديث التي وردت في فضل الهجرة على هذه المواقف إلا إذا كانت الهجرة من البلد للفرار بالدين أساسًا، وإن كان الراتب أقل والظروف أصعب.
وأشق من ذلك ما نراه أحيانًا من هجرة بعض المسلمين إلى بلاد الغرب للإقامة الدائمة فيها طلبًا للرزق وارتقاءً بالمستوى المادي، أو سعيًا وراء العلم، أو الحرية الشخصية، أو للزواج من أجنبية.
فهجرته إلى ما هاجر إليه
وكل ما مضى من أسباب قد يكون لا غبار عليه، ولا حُرمة فيه، وقد يدخل في باب الجواز، ولكن لا يدخل في باب الهجرة التي قصدها الشرع، ويدل على ذلك قول رسول الله: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"[6].
وهذا اللفظ "فهجرته إلى ما هاجر إليه" يدل على أن الهجرة للدنيا أو التزوج ليس حرامًا، "وَإِنَّمَا أَشْعَرَ السِّيَاق بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ طَلَبَ الْمَرْأَة بِصُورَةِ الْهِجْرَة الْخَالِصَة، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهَا مَضْمُومَة إِلَى الْهِجْرَة فَإِنَّهُ يُثَاب عَلَى قَصْد الْهِجْرَة لَكِنْ دُون ثَوَاب مَنْ أَخْلَصَ، وَكَذَا مَنْ طَلَبَ التَّزْوِيج فَقَطْ لاَ عَلَى صُورَة الْهِجْرَة إِلَى اللَّه؛ لأَنَّهُ مِنَ الْأَمْر الْمُبَاح الَّذِي قَدْ يُثَاب فَاعِله إِذَا قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَة كَالإِعْفَافِ"[7].
ولكن طلب هذه الدنيا ينبغي ألا يتم بصورة تخالف العهود والنظم الخاصة بكل دولة، كما يحدث من بعض الشباب الذين ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم، ولم يجدوا لهم عملًا كريمًا، ولم يبحث لهم المسئولون عن سبيل يعولون منه أسرهم، ويكوِّنون مستقبلهم، فحاولوا التسلل لبلاد أخرى دون موافقة سلطات هذه البلاد، وهذا فيه مخالفة لنظم تلك الدول، والشرع الإسلامي يحترم ما تضعه الدول من أنظمة ما دامت لا تخالف الشرع؛ لذا ينبغي على هؤلاء الشباب البحث عن سبيل ليس به مخالفة.
إننا نعرف مدى ما أصاب هؤلاء الشباب والرجال من ضيقٍ في العيش، يتحمل مسئوليته المسئولون الذين لم يقوموا بواجبهم في خدمة شعوبهم، بل ربما شاركوا في التضييق على هذه الشعوب رعاية لمصالحهم الخاصة، وتلك جريمة يتحملون وزرها أمام رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن على من يغامرون بمخالفة قوانين الدول الأخرى، وربما تعرَّضوا للسجن أو الترحيل إن وصلوا إليها سالمين على أفضل الأحوال، أو للموت في الطريق غرقًا في البحر، أقول: على هؤلاء أن يسلكوا طريقًا أخرى لطلب الرزق، ولا ييئسوا؛ فاللهُ هو الرزاق ذو القوة المتين. نسأل الله U الصلاح للمسلمين جميعًا في الدنيا، والجنة في الآخرة.
الإشارات المرجعية:
- ابن هشام: السيرة النبوية 488/1
- السبخة: الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر
- الأواقي: جمع أوقية، وهي أربعون درهمًا
- الأسكفة: عتبة تكون تحت الباب
- الحاكم في المستدرك: 176/13، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه (أي البخاري ومسلم)
- أبو داود: السنن 437/6
- ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، باب بدء الوحي 2/1
المصدر:
- راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، الجزء الأول، ص173