هلوع جزوع منوع.. هكذا وصف الإنسان في القرآن

هلوع جزوع منوع.. هكذا وصف الإنسان في القرآن | مرابط

الكاتب: محمد علي يوسف

256 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

هلوع جزوع منوع
هكذا وُصف الإنسان في القرآن..

تلك الصفات تبدو مطلقة عامة في مفتتح ذكرها بسورة المعارج “إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا” هي أيضا صفات أصيلة متجذرة في خلق الإنسان الأجوف الذي لا يتمالك كما وُصفه النبي ﷺ 

ذلك الخلق الأجوف يحوي بداخله فراغا يسعى دوما لملئه بأي سبيل لأجل ذلك الفراغ يجمع ويمنع ويسعى ويلهث وإذا استشعر ما يحول بينه وبين ما يملأ جوفه فإنه يهلع ويجزع

هكذا خُلق بعموم وشمل.. لكن ثمة استثناءات، وثمة بشر يمكن وصفهم بأنهم استثنائيون.. بشر تمكنوا بفضل الله ورحمته من مواجهة تلك الصفات المذمومة وأحسنوا التعامل معها وامتلأ فراغ نفوسهم بأشياء أخرى

أهم هذه الأشياء الصلاة: وذلك هو أصل الاستثناء "إِلَّا ٱلۡمُصَلِّینَ" هكذا اختار الله لهم تلك الصفة لتكون علما عليهم؛ إنهم أولئك الذين اتصلوا بمعارج الطاعة وتعلقت قلوبهم بتلك العبادة التي هي منبع الراحة "أرحنا بها يا بلال" 

النبي ﷺ يلخص بتلك الجملة هذه الحالة التي لا يعرفها إلا من ذاقها.. أن يمتلىء فراغ الروح بلذة الاتصال بالمولى وأن يرتوي خواء الفؤاء بنبع الذكر وأن تخضر صحاري النفس بواحات المناجاة أثناء الصلاة.. أن يأمن الهلوع ويطمئن الجزوع ويهدأ طمع المنوع لينفق نفقة الواثق الذي لا يخشى الفقر

ببساطة لأنه اتصل وارتاح.. عندئذ تفهم لماذا كان حبيبك ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولذلك افتتحت صفات الاستثنائيين بالصلاة وبها اختتمت. لكن لا شك أن منا مصلين ورغم ذلك لم يزل خواء النفوس ظاهرا ولم تزل علامات الهلع والجزع والمنع جلية لا تخطئها عين

كل ذلك حقيقي ملموس وإجابته يسيرة؛ الصلاة رحلة ديمومة وحفاظ وارتقاء “الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ”، “وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ” هي إذا ليست مجرد حركات تؤدى وتلقى ليستراح منها ويؤدى الواجب والسلام

كلا.. 
ليست هذه هي الصلة التي تروي وتكفي، الصلاة المقصودة كمًا وكيفا = شيء آخر.. استثناء المصلين من الهلع والجزع عند وقوع الشر والمنع عند ملاقاة الخير ليس مطلقا كما يبدو

هناك شروط أخرى بعضها متعلق بالصلاة نفسها كمًا وكيفا وبعضها متعلق بما تنشئه الصلاة من سلوك ومشاعر. الاستثناء هو العنوان والمصلون هو اللقب المعلن الذي يزينهم 
لكن أي مصلين؟! إنهم المداومون ابتداءً المحافظون انتهاءً؛ أولئك الذين ارتبطوا بالصلاة حتى صارت صفتهم الملازمة وديدنهم الذي صار علما عليهم.

ليسوا إذًا أصحاب الصلوات الموسمية أو الذين ينتظرون مناسبة لينفضوا تكاسلهم ويقوموا إليها كسالى ينقرونها كنقر الديكة لا يذكرون الله إلا قليلا، ولا أولئك الذين يستريحون منها لا بها ويعاملونها  معاملة الواجب الدوري الثقيل.. وبين المداومة عليها وحفظ شروطها وأركانها تنشأ الصفات والسلوكيات والمشاعر التي تنفي عنهم الهلع والجزع والشح رويدا رويدا 

اتصالهم بالله يغرس يقينا في الرزق يجعل المال في أيديهم وليس في قلوبهم فينفقونه نفقة من لا يخشى الفقر عن طيب خاطر وسماحة نفس بل ويرونه حقا لإخوانهم سائلين كانوا أو محرومين "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" 

ثم إن اتصالهم الدائم بربهم أنبت خشية ممزوجة بمعرفة راسخة لم تجعلهم يركنوا لطاعتهم أو يأمنوا عذابه اعتمادا على تقربهم بل زادتهم خوفا ووجلا ألا يُتقبل منهم وصار هم الآخرة والإشفاق منها علامة أخرى عليهم "وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ"

هذا الهم والإشفاق أورثهم التقوى فكانت صلاتهم ناهية عن الفحشاء والمنكر فلم يستسلموا لشهوات جبلوا على أصلها وجهها الشرع إلى سبل شرعية اكتفوا بها وأعفوا أنفسهم عما دونها "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ"

أما أصحابنا هؤلاء فليسوا من العادين.. نهتهم صلاتهم وصلتهم بالله العظيم أن يكون من المعتدين المبتغين لما لا يحق لهم
وإن كان ذلك دأبهم في شأن النساء فإنه كذلك في سائر الأشياء. إنهم قوم أهل أمانة وحسن عهد لا تسيل الأموال لعاب أطماعهم ولا تسول لهم الخيرات التي يأتمنهم عليها غيرهم أن يخونوا أو يغدروا "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" 

حتى إذا نُزعت الأمانة في أزمانهم كانوا هم الرجل الذي يقال عنه: في بني فلان رجل أمين، وليست فقط أمانات مادية تلك التي يرعونها.. في أمانة القول والشهادة أيضا لهم باع فلا يشهدون الزور أبدا بل يقيمون الشهادة ولا يكتمونها كذلك الآثم قلبه ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين فهم ممن قال الله فيهم “وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ”

كل ذلك ليس مستغربا عليهم فهم الذين كانت الصلة بينهم وبين ربهم زادا يغنيهم عن كل تلك الرزايا التي ابتلي بها غيرهم.. كانت الصلاة زادهم ونبعا صافيا ارتوت منه أنفسهم فزال عنها الهلع والجزع والشح الذي حال بين كثير من الخلق وبين تلك الصفات التي وُفقوا إليها

ومن هنا جاء الاستثناء "إلا المصلين" 
ومن بعده جاء التكريم
في الجنة “أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ”

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تدبر #سورة-المعارج
اقرأ أيضا
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2


الأساس الأول الذي بنيت عليه أمة الإسلام والذي بنيت عليه الأمم الأخرى في زماننا وفي الأزمان السابقة هو أساس العلم وبغيره لا تقوم أمة ونتميز نحن المسلمين بأن عندنا العلم الحياتي نعظمه ونجله وكذلك العلم الشرعي الذي أوحى به ربنا سبحانه وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ونزل في كتاب الله عز وجل وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم فهذا تفتقده الأمم الأخرى فتجد معايير الأخلاق والعقيدة والآداب عندهم مختلة بينما عندنا صحيحة فنحن نتساوى معهم في العلوم الحياتية إن أردنا لكننا نسبقهم وبمراحل لا مقارنة ب...

بقلم: د راغب السرجاني
680
أدلة النبوة: أساس اليقين | مرابط
تعزيز اليقين

أدلة النبوة: أساس اليقين


أدلة النبوة هي أساس اليقين ولهذا كثرت وتنوعت لأن من سنة الله تعالى كثرة أدلة المطالب الكلية رحمة بالعباد وتيسيرا لهم لسلوك طريق الرشاد

بقلم: د. عيسى السعدي
277
ثغرات تسدها المرأة المسلمة: البيت والزوجية | مرابط
تفريغات المرأة

ثغرات تسدها المرأة المسلمة: البيت والزوجية


أيتها الأخت المسلمة! في ثغرة الزوجية وبيت الدعوة بيتك يجب ألا يعرف الخراب لأنه يتكون معه أسباب الحماية من الحب والرضا بينك وبين الزوج وهذه ثغرة كل زوجة في القيام بحق زوجها وينبغي أن يكون الزوج أحب الناس إلى زوجته وأن يكون البيت قائما على الالتزام بالإسلام وتربية الأولاد التربية الصالحة والدعوة إلى الله

بقلم: محمد صالح المنجد
417
حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد ج1 | مرابط
تفريغات

حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد ج1


بين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للدكتور راغب السرجاني يدور حول الاجتياح المغولي للعراق والذي يعتبر من أبرز الأحداث في تاريخنا الإسلامي حيث يحمل الكثير من المآسي والعبر والدروس التي يجب أن نتعلمها فيما يخص تعامل المسلمين مع الأعداء

بقلم: راغب السرجاني
822
القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات العالمانية

القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الثاني


عندما يجري الحديث عن القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي فإن الأمر يتجاوز الحديث عن وقائع معينة تمت روايتها وتدوينها في كتب التاريخ ليجري الحديث عن الأرضية التي يجري على أساسها تحليل واستنباط النتائج من الوقائع كما أن هذا يشمل المنهج المتبع في التحقق من تلك الوقائع إنه في المقام الأول حديث عن فلسفة التاريخ عن المنهج الذي يسلكه المحلل في قراءته وتوظيفه للأحداث التاريخية في نسقه التحليلي قبل المنهج المتبع في التحقق من صدق الرواية التاريخية

بقلم: يوسف سمرين
1368
كيف استطاع هتلر أن يتحكم بالأطفال | مرابط
تاريخ فكر مقالات ثقافة

كيف استطاع هتلر أن يتحكم بالأطفال


في الموروث الثقافي الألماني يكون الأب هو سيد البيت والبقية لا يملكون سوى الطاعة من غير سؤال وهكذا كان هتلر بالنسبة للمجتمع الألماني هو الوحيد المسؤول وهو الوحيد الذي له السمع والطاعة فقد نقل مفهوم الأب من البيت إلى إدارة الدولة وكان دائما يستخدم في خطابه مع الأطفال مفاهيم الأبوة فكان يقول: إنه يهتم بأمرهم وبمستقبلهم وإنه يحبهم ويرعاهم

بقلم: محمد علي فرح
412