هلوع جزوع منوع.. هكذا وصف الإنسان في القرآن

هلوع جزوع منوع.. هكذا وصف الإنسان في القرآن | مرابط

الكاتب: محمد علي يوسف

317 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

هلوع جزوع منوع
هكذا وُصف الإنسان في القرآن..

تلك الصفات تبدو مطلقة عامة في مفتتح ذكرها بسورة المعارج “إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا” هي أيضا صفات أصيلة متجذرة في خلق الإنسان الأجوف الذي لا يتمالك كما وُصفه النبي ﷺ 

ذلك الخلق الأجوف يحوي بداخله فراغا يسعى دوما لملئه بأي سبيل لأجل ذلك الفراغ يجمع ويمنع ويسعى ويلهث وإذا استشعر ما يحول بينه وبين ما يملأ جوفه فإنه يهلع ويجزع

هكذا خُلق بعموم وشمل.. لكن ثمة استثناءات، وثمة بشر يمكن وصفهم بأنهم استثنائيون.. بشر تمكنوا بفضل الله ورحمته من مواجهة تلك الصفات المذمومة وأحسنوا التعامل معها وامتلأ فراغ نفوسهم بأشياء أخرى

أهم هذه الأشياء الصلاة: وذلك هو أصل الاستثناء "إِلَّا ٱلۡمُصَلِّینَ" هكذا اختار الله لهم تلك الصفة لتكون علما عليهم؛ إنهم أولئك الذين اتصلوا بمعارج الطاعة وتعلقت قلوبهم بتلك العبادة التي هي منبع الراحة "أرحنا بها يا بلال" 

النبي ﷺ يلخص بتلك الجملة هذه الحالة التي لا يعرفها إلا من ذاقها.. أن يمتلىء فراغ الروح بلذة الاتصال بالمولى وأن يرتوي خواء الفؤاء بنبع الذكر وأن تخضر صحاري النفس بواحات المناجاة أثناء الصلاة.. أن يأمن الهلوع ويطمئن الجزوع ويهدأ طمع المنوع لينفق نفقة الواثق الذي لا يخشى الفقر

ببساطة لأنه اتصل وارتاح.. عندئذ تفهم لماذا كان حبيبك ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولذلك افتتحت صفات الاستثنائيين بالصلاة وبها اختتمت. لكن لا شك أن منا مصلين ورغم ذلك لم يزل خواء النفوس ظاهرا ولم تزل علامات الهلع والجزع والمنع جلية لا تخطئها عين

كل ذلك حقيقي ملموس وإجابته يسيرة؛ الصلاة رحلة ديمومة وحفاظ وارتقاء “الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ”، “وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ” هي إذا ليست مجرد حركات تؤدى وتلقى ليستراح منها ويؤدى الواجب والسلام

كلا.. 
ليست هذه هي الصلة التي تروي وتكفي، الصلاة المقصودة كمًا وكيفا = شيء آخر.. استثناء المصلين من الهلع والجزع عند وقوع الشر والمنع عند ملاقاة الخير ليس مطلقا كما يبدو

هناك شروط أخرى بعضها متعلق بالصلاة نفسها كمًا وكيفا وبعضها متعلق بما تنشئه الصلاة من سلوك ومشاعر. الاستثناء هو العنوان والمصلون هو اللقب المعلن الذي يزينهم 
لكن أي مصلين؟! إنهم المداومون ابتداءً المحافظون انتهاءً؛ أولئك الذين ارتبطوا بالصلاة حتى صارت صفتهم الملازمة وديدنهم الذي صار علما عليهم.

ليسوا إذًا أصحاب الصلوات الموسمية أو الذين ينتظرون مناسبة لينفضوا تكاسلهم ويقوموا إليها كسالى ينقرونها كنقر الديكة لا يذكرون الله إلا قليلا، ولا أولئك الذين يستريحون منها لا بها ويعاملونها  معاملة الواجب الدوري الثقيل.. وبين المداومة عليها وحفظ شروطها وأركانها تنشأ الصفات والسلوكيات والمشاعر التي تنفي عنهم الهلع والجزع والشح رويدا رويدا 

اتصالهم بالله يغرس يقينا في الرزق يجعل المال في أيديهم وليس في قلوبهم فينفقونه نفقة من لا يخشى الفقر عن طيب خاطر وسماحة نفس بل ويرونه حقا لإخوانهم سائلين كانوا أو محرومين "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" 

ثم إن اتصالهم الدائم بربهم أنبت خشية ممزوجة بمعرفة راسخة لم تجعلهم يركنوا لطاعتهم أو يأمنوا عذابه اعتمادا على تقربهم بل زادتهم خوفا ووجلا ألا يُتقبل منهم وصار هم الآخرة والإشفاق منها علامة أخرى عليهم "وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ"

هذا الهم والإشفاق أورثهم التقوى فكانت صلاتهم ناهية عن الفحشاء والمنكر فلم يستسلموا لشهوات جبلوا على أصلها وجهها الشرع إلى سبل شرعية اكتفوا بها وأعفوا أنفسهم عما دونها "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ"

أما أصحابنا هؤلاء فليسوا من العادين.. نهتهم صلاتهم وصلتهم بالله العظيم أن يكون من المعتدين المبتغين لما لا يحق لهم
وإن كان ذلك دأبهم في شأن النساء فإنه كذلك في سائر الأشياء. إنهم قوم أهل أمانة وحسن عهد لا تسيل الأموال لعاب أطماعهم ولا تسول لهم الخيرات التي يأتمنهم عليها غيرهم أن يخونوا أو يغدروا "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" 

حتى إذا نُزعت الأمانة في أزمانهم كانوا هم الرجل الذي يقال عنه: في بني فلان رجل أمين، وليست فقط أمانات مادية تلك التي يرعونها.. في أمانة القول والشهادة أيضا لهم باع فلا يشهدون الزور أبدا بل يقيمون الشهادة ولا يكتمونها كذلك الآثم قلبه ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين فهم ممن قال الله فيهم “وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ”

كل ذلك ليس مستغربا عليهم فهم الذين كانت الصلة بينهم وبين ربهم زادا يغنيهم عن كل تلك الرزايا التي ابتلي بها غيرهم.. كانت الصلاة زادهم ونبعا صافيا ارتوت منه أنفسهم فزال عنها الهلع والجزع والشح الذي حال بين كثير من الخلق وبين تلك الصفات التي وُفقوا إليها

ومن هنا جاء الاستثناء "إلا المصلين" 
ومن بعده جاء التكريم
في الجنة “أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ”

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تدبر #سورة-المعارج
اقرأ أيضا
الاستشراق الجندي الخفي للاستعمار | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاستشراق الجندي الخفي للاستعمار


اشتهر محمود شاكر شيخ العربية باهتمامه البالغ بقضايا اللغة وتصدى لكثير من المحاولات الداخلية والخارجية التي حاولت طمس معالم هذه اللغة لأنه فهم ما يترتب على ذلك من هدم للدين بأكمله وهذا مقتطف يتحدث فيه عن المستشرقين وكيف يعملون تحت ستار الاستعمار وحمايته وكيف كان هدم اللغة من ضمن أهدافهم الكبرى

بقلم: محمود شاكر
2136
الإنصاف عزيز | مرابط
مقالات

الإنصاف عزيز


وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل ولا تغتر باللفظ كما قيل في هذا المعنى

بقلم: ابن القيم
326
أنت الجماعة ولو كنت وحدك | مرابط
مقالات

أنت الجماعة ولو كنت وحدك


وما عرف المختلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه إلا واحدا منهم فهم الشاذون وقد شذ الناس كلهم زمن احمد بن حنبل إلا نفرا يسيرا فكانوا هم الجماعة وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون.

بقلم: ابن القيم
724
نقض شبهة تعلم النبي القرآن من بشر | مرابط
اقتباسات وقطوف

نقض شبهة تعلم النبي القرآن من بشر


مقتطف هام لشيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح يشير فيه إلى أحد الطرق التي تنقض بها وتهدم دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلم القرآن من بشر ونسبه إلى ربه تلك الدعوى التي روجها أولياء الشيطان وكذبها العقل ونأت عنها الفطرة وكذبتها القرائن وكافة الأدلة

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2600
فضل الذكر في العشر الأواخر | مرابط
اقتباسات وقطوف

فضل الذكر في العشر الأواخر


من أفضل الأعمال وأيسرها الذكر خاصة ليل رمضان لسهولته ولو وافق ليلة القدر لرجي له المضاعفة عشرات آلاف المرات وأفضل الذكر كلمة التوحيد وأفضل صيغها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

بقلم: عبد العزيز الطريفي
360
الصفات المعينة على الفتوى أو الحكم | مرابط
اقتباسات وقطوف

الصفات المعينة على الفتوى أو الحكم


مقتطف من كتاب إعلام الموقعين لابن القيم يعرض لنا فيه نوعين من الفهم لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بهما وهما فهم الواقع ثم فهم الواجب في الواقع وفي المقتطف شرح للنوعين مع التدليل بالأمثلة العملية التي توصل الغاية والمراد من كلامه رحمه الله

بقلم: ابن قيم الجوزية
1289