اعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض، قال عمرو بن ميمون الأودِيُّ: صحبت معاذًا باليمن، فما فارقتُه حتى واريتُه في التُّراب بالشَّام، ثم صبحتُ من بعده أفقه الناس: عبد الله ابن مسعود، فسمعته يقول: «عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة»، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: «سيولى عليكم ولاة يؤخِّرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها؛ فهي الفريضة، وصلّوا معهم فإنها لكم نافلة»، قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدّثون، قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي:
صلِّ الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة وهي نافلة، قال: «يا عمرو بن ميمون قد كنتُ أظنُّكَ من أفقه أهل هذه القرية، أتدري ما الجماعة؟» قلت: لا قال: «إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحقَّ وإنْ كنتَ وحدَك»، وفي لفظ آخر: فضربَ على فخذي وقال: «ويحك! أنَّ جمهورَ الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى».
وقال نُعيم بن حمَّاد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وان كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ، ذكرهما البيهقى وغيره.
وقال بعض أئمة الحديث وقد ذُكر له السواد الأعظم، فقال: أتدرى ما السواد الأعظم؟ هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه.
فمسخ المختلفون الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور، وجعلوهم عيارًا على السنة، وجعلوا السنة بدعة، والمعروف منكرًا لقلة أهله وتفردهم في الإعصار والأمصار، وقالوا: منْ شذَّ شذَّ الله به في النار، وما عرف المختلفون أن الشاذَّ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه إلا واحدًا منهم فهم الشاذون، وقد شَذَّ الناس كلهم زمن احمد بن حنبل إلا نفرًا يسيرًا؛ فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون.
وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة، ولما لم يتحمل هذا عقول الناس قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقُضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون كلهم على الباطل وأحمد وحده هو على الحق؟ فلم يتسع علمه لذلك؛ فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل؛ فلا إله إلا الله، ما أشبه الليلة بالبارحة، وهي السبيل المهيَع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم، مضى عليها سلفهم، وينتظرها خلفهم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
المصدر:
ابن القيم، إعلام الموقعين