وظيفة الإنسان

وظيفة الإنسان | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

2090 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

ما هي وظيفة الإنسان؟
هذا هو السؤال / المدخل الذي تعود إليه الاختلافات الجوهرية للاتجاهات الفكرية كما سبق أن أشرنا، وهناك اتجاهان رئيسيان في الجواب على هذا السؤال:

أولهما هو "الاتجاه المدني" ويرى أن وظيفة خلق الإنسان هي "العمارة" وكل ماسوى ذلك وسيلة لها، فالوحي والشرائع والعبادات إنما هي وسائل لتحقيق العمارة والحضارة والمدنية، فالعمارة هي الغاية الجوهرية والأولوية الرئيسية للإنسان، وانبنى على ذلك أن اشتغل هذا الخطاب بقضية التمدن وتوجيه كافة المعطيات الأخرى إليها والتسامح في كل ماسواها، ومن ثم تقييم المجتمعات والثقافات والشخصيات بحسب منزلتها في هذه "المدنية" الدنيوية.

والمدنية بحسب هذا الاتجاه مفهوم شامل يدخل فيها كل ما يدفع باتجاه تحقيق الرفاه البشري وسعادة الجنس الإنساني في كافة ميادين الحياة الدنيوية، والتقدم في العلوم الفلسفية والإنسانية والطبيعية والفنون، ونحوها.

أما الاتجاه الثاني وهو "الاتجاه الشرعي" فيرى أن وظيفة الإنسان هي "العبودية" بمعنى أن الله خلق الإنسان وأرسل الرسل وأنزل الكتب لتدل الناس على الله وعبادته، وبيان دقائق ما ينبغي له سبحانه وما لا ينبغي في معاملته جل وعلا، وبيان قواعد تنظيم حقوق العباد، وأن كل ما في هذه الدنيا إنما هو متاع ولعب ولهو، فيجب أن يستعان بما يحتاج منها على عبودية الله، وكل ما لم يعن على عبودية الله ولم يؤد إلى هذا الغرض فهو دائر بين مرتبتين لا ثالث لهما: إما محرم يجب الكف عنه، وإما فضول يشرع الزهد فيه.

فالعمارة والحضارة والمدنية مجرد وسيلة لإظهار الدين وإقامة الشعائر والشرائع، فلا يحمد من هذه المدنية إلا ما حقق هذه الغاية، وتتلخص منزلة المدنية بكل اختصار في المبدأ الأصولي الشهير المعروف بـ"بمقدمة الواجب" والذي ينص على أن: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وعليه فإنه إذا تم بدونه فلا يجب.

وحين تكلم الإمام ابن تيمية عن "وظيفة الدولة" حسب التصور الإسلامي في كتابه "السياسة الشرعية" قدم تلخيصًا هامًا يكشف وسيلية المدنية وكونها مرتبطة بالغاية الدينية، كما يقول الإمام ابن تيمية:

(فالمقصود الواجب بالولايات:
1- إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا.
2-إصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم).

بين العبودية والعمارة

و"العبودية" بحسب هذا الاتجاه نظام من الشُّعَب التدريجية الشاملة أعلاها قول لاإله الا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فتبتدئ بإفراد الله وتجريد القلب له ويليها الفرائض العينية ثم الفروض الكفائية التي يتحقق بها نفع الناس في مصالحهم العامة. واذا تزاحمت شعبتان من شعب العبودية فلا يقدم ما يتعلق بالشأن المدني مطلقًا، بل ثمة قواعد شرعية دقيقة في المفاضلة والموازنة بين مراتب الاهتمامات والأعمال والشؤون العامة، ككون رعاية الفضيلة مقدمة على الحرية الفنية، وتقديم الفرض العيني على الكفائي، وتقديم النفع المتعدي على النفع الخاص، وتقديم الواجب على المندوب، ونحو ذلك.

ولذلك فإن جمهور الأعمال العبادية المحضة تندرج في "الأحكام التكليفية" باعتبارها الصورة النهائية للمراد الإلهي، وجمهور الأعمال المدنية الدنيوية تندرج في "الأحكام الوضعية" كالسبب والعلة والشرط والمانع باعتبارها وسيلة للحكم التكليفي. ومن ثم ينبني على هذه الرؤية تقييم المجتمعات والثقافات والشخصيات بحسب منزلتها في هذه "العبودية".

وتفريعًا على اختلاف هذين الاتجاهين في تحديد الوسيلة والغاية انبنت أكثر الفروق الهائلة والتفاصيل اللانهائية من الآثار، واستتبع ذلك تفاوتًا كبيرًا في المواقف، فكل قضية فكرية يختلف فيها الناس تجد فريقًا لحظ أثر هذا الموقف على العبودية والفضيلة فاتخذ موقفا معينا، بينما الفريق الآخر لحظ علاقة هذه القضية بالحضارة والمدنية فاتخذ موقفًا مغايرًا، فكل فريق معني بغايته ومقصده النهائي.

الغاية من خلق الإنسان

والحقيقة أن كتاب الله سبحانه وتعالى لم يجعل هذه القضية عائمة أو محتملة أو نسبية، بل حسمها بشكل يقيني واضح صريح وكشف الغاية من خلق الإنسان بلغة حاصرة فقال سبحانه وتعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]

وبين سبحانه أنه إنما بدأ خلق الإنسان في هذه الدنيا ثم بعثه بعد موته ليحاسبه على هذه الغاية وهي القيام بالعبودية كما قال سبحانه:
{إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس:4]

وفي كثير من المواضع ينبه سبحانه وتعالى بين ثنايا الآيات على أن وظيفة الخلق وغايته إنما هي ابتلاء الناس في هذه العبودية كما قال سبحانه:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2].

وحسن العمل هذه الآية ونظائرها هو الإيمان والعمل الصالح على حسب درجاته الشرعية، ولو كانت عمارة الأرض بالحضارة والتمدن والعلوم الدنيوية هي المقصود الأولوي بحسن العمل لما أرسل الله الرسل في التاريخ البشري أصلًا، لأن الله سبحانه قد أثبت تميز تلك الأمم أصلًا في عمارة الأرض وعمق علمها بالدنيا، كما قال تعالى عن الأمم السابقة:
{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9]
وقال عن علمهم المدني:
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]

وظيفة النبوات

وبين سبحانه وتعالى وظيفة النبوات والكتب السماوية والشرائع وأنها كلها تهدف لتأكيد عبادة الله والاستعداد للحياة المستقبلية بعد الموت، وليست المنافسة العالمية في المدنية والحضارة الدنيوية، كما قال تعالى عن وظيفة الرسل:
{ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ..الآية} [النحل:36]

وذكر سبحانه السؤال الإلهي عن تحقيق هذه الغاية فقال سبحانه:
{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} [الأنعام:130]

وقال سبحانه مبيناً وظيفة الشرائع:
{ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة:5]

وغير ذلك كثير من محكمات الوحي التي كشفت بشكل حاسم غاية خلق الإنسان، والذي يعنينا هاهنا ذكر بعض الشواهد لا استقراؤها.


المصدر:

  1. إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني، ص51
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1 | مرابط
فكر مقالات الديمقراطية

مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1


من المقدمات المنهجية الأساسية التي ينبغي التنبه لها في البدء أن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير يجب أن يكون منطلقها منطلقا إسلاميا شرعيا وإذا كان المنطلق غير إسلامي ولا شرعي فإنه لن يتحقق شيء من ثمراتها بمعناها الشامل والمشروع والمرضي لله تعالى وربما تتحقق بعض المكاسب الدنيوية والانتصارات المؤقتة لكنها ليست النهضة والإصلاح المطلوبة من المسلم

بقلم: الدكتور عبدالرحيم بن صمايل السلمي
1217
الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج4 | مرابط
أبحاث الليبرالية

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج4


المراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي ووقف على أبرز محطاته وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة أزمة في المصطلح وأزمة في الخلفيات الفلسفية وأزمة في السلوكيات اليومية وأزمة في الالتزام بالقيم وأزمة في الاتساق مع المبادئ وأزمة في الاطراد وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطع...

بقلم: سلطان العميري
1613
هذا مخالف للعلم: النزعة العلموية | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر مقالات

هذا مخالف للعلم: النزعة العلموية


من المقولات التي شاع استعمالها في العصر الحديث والتي أدت بكثير من الناس إلى معارضة جملة من الأخبار الشرعية دعوى مخالفتها للعلم المعاصر فهي مقولة تشابه إلى حد ما مقولة لا يقبله العقل لكن الفرق أن طرف المعارضة هنا هو العلم بدلا من العقل وفي هذا المقال مناقشة دقيقة لهذا القول ولمذهب أصحابه

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2788
شبح الحروب الصليبية الجزء الأول | مرابط
تاريخ مقالات

شبح الحروب الصليبية الجزء الأول


إذا أردنا أن نقف على الأسباب الحقيقية للعداء البغيض الذي تحمله أوروبا ويحمله الغرب تجاه الإسلام علينا أن نرجع عدة خطوات إلى الخلف إلى الماضي الذي شكل معالم المدنية الأوروبية وتشربه الرجل الأبيض وتوارثه مع مرور الوقت سنقف هنا أمام الحروب الصليبية لندرك أثرها على الهوية الأوروبية فيما يخص الإسلام فكما يقول المؤلف: يمكننا أن نقول من غير أن نوغل في المبالغة أن أوروبة ولدت من روح الحروب الصليبية لقد كانت ثمة قبل ذلك الزمن أنكلو سكسون وجرمان وفرنسيون ونورمان وإيطاليون ودنماركيون وسلاف ولكن في أثن...

بقلم: محمد أسد
2171
أبرز آراء النسوية الراديكالية: إلغاء دور الأب في الأسرة | مرابط
النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: إلغاء دور الأب في الأسرة


الحركة النسوية لم تقف في حد مهاجمة النظام الأبوي الجاهلي بل تعدى ذلك إلى الهجوم على الأسرة ونظامها وأصل تكوينها والتشكيك في جدواها وتعدى ذلك إلى رفض أي سيطرة للأب داخل الأسرة على الزوجة أو الأبناء واعتبار ذلك من الأبوية وفي هذا الإطار رحبت بالأسرة المدارة من قبل الأم وحدها mother-only family واعتبرت تأنيث الأسرة أمرا إيجابيا في صالح المرأة وفي هذا السياق أيضا رحبت بالأسرة الشاذة السحاقية

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
1926
اللغة العربية ودعوات العامية | مرابط
لسانيات

اللغة العربية ودعوات العامية


إذن اللغة العربية هي لغة متخطية للحدود التاريخية والجغرافية والقومية بل والحدود الزمكانية إن صح التعبير فهي لغة كلام الله المنزه المنزل من فوق سبع سموات وهي لغة أهل الجنة.. فكيف لا تكون الحرب عليها بهذه الضراوة؟! بكلتا النقطتين يتبين لنا ملمح مهم من ملامح الإعجاز القرآني بخلاف الإعجاز اللغوي والعلمي والتشريعي وما إلى ذلك.. ألا وهو صيانة هذه الأمة والحفاظ على وحدتها ووجودها إلى قيام الساعة..

بقلم: عمرو كامل
535