أبرز آراء النسوية الراديكالية: إلغاء دور الأب في الأسرة

أبرز آراء النسوية الراديكالية: إلغاء دور الأب في الأسرة | مرابط

الكاتب: مثنى أمين الكردستاني

1927 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

النظام الأبوي على مدار التاريخ..
الأبوية تعني: حكم الأب المطلق داخل الأسرة، وتركز القرار كله في يده، وهذا مفهوم خاص بالغرب وراجع إلى إرث الحضارة الرومانية ومن بعده الأسرة اليهودية التي كرست المفهوم وأكدته، وانتقل جيلًا عبر جيل حتى بدأ يزول مع الحداثة، وبعد مراجعة ونقد ذاتي للقيم الغربية من رؤى مغايرة.

الأبوية والديانة المسيحية

والديانة المسيحية -التي كانت من المفترض لها أن تقوم بدور ضبط هذا المفهوم وتصحيح ممارسته- زادت من ترسيخ المفهوم وإصباغ الشرعية عليه بعد التحريفات التي حصلت فيها عبر الكثير من الطرق، منها: التأكيد على مفهوم الإله الأب والابن (أي الذكر) وتسمية وتشبيه المولى (عز وجل) بالأب وإطلاق كلمة الأبناء على عبيد الله، وهكذا يتبادر إلى الذهن أن الأب سلطته مطلقة كما أن الرب الأب سلطته مطلقة.. ومن خلال عدم الاحتفاء بالنساء في الإنجيل بتدوينه البشري وعدم تسجيل مجاهدات المرأة وحتى عدم حضور يذكر للسيدة مريم العذراء، ومن خلال الصياغة والتفسير المنحازين (1) الذين يعكسان قوة نظام الأسرة الأبوية في ذلك الزمان ورسوخه، ويعكسان تهميش المرأة وعدم حضورها في الساحة...إلخ، حيث "إن هذه المجتمعات اليونانية والرومانية لم تتسم بالانتشار الأقصى للرق فحسب، بل باستبعاد بالغ القسوة للمرأة، والمرأة اليونانية تحبس في الحريم ولا تساهم بشيء في الحياة الاقتصادية والسياسية أو الثقافية للمدينة باستثناء الحالات النادرة جدًا المتعلقة ببقايا الترف والمحظيات، وفي روما ليس للعبد كما ليس للمرأة أي كيان في القانون الروماني"(2)

البطريركية

قلنا إن السلطة الأبوية (البطريركية Patriarchy) مرتبطة بواقع تأسيس زمن اليونان والرومان، حيث كانت الأسرة في ذلك الزمان لا تحتوي الوالدين أبناءهما فقط وإنما الرجال عدد من الأزواج والسراري والأولاد من الزوجات والجواري وزوجات الأولاد والأحفاد والعبيد.. ويرأس هذا كله أب مسيطر متنفذ ومن صلاحياته:

1- يحق له أن يتخلص من المولود المعاق أو المشوه أو الأنثى أو غير المرغوب فيه بالغطس أو الخنق أو رميه للوحوش..إلخ

2- رب الأسرة هو الذي يملك فقط والبقية كلهم من أولاد وزوجات وعبيد وخيول وأثاث... كلها تعتبر من أملاكه، وهو حر في التصرف فيها، وله أن يحرم الأبناء أو بعضهم أو يفضل بعضهم على بعض، أو يزوجهم، ويطلقهم ويفصل بين الابن وزوجته، ويحاكم زوجته بأية تهمة، ويحكم عليها، وينزل العقاب بنفسه أو عبيده ولو كان موتًا، وكذا الأبناء يملك حق حياتهم وموتهم، وبيعهم في الأسواق كالرقيق...إلخ.

3- الزوجة طائشة في نظرهم، وتعامل كالطفلة أو كالقاصر، ولا تقرب الخمر ولا محله وإذا فعلت ضربت حتى الموت. 

النظام الأبوي واليهودية

4- المرأة بعد الزواج تدخل في دين زوجها وتترك دينها وعشيرتها وكل شيء سابق لزواجها وتحمل اسم زوجها وعشيرته ودينه (3) والأسرة اليهودية أيضًا تشكلت على الهيئة نفسها، فالأب الرئيس يسمى "روش" أي الرأس، وهو يختار وريثه كما يشاء، ويصرف كما يريد ويمكنه بيع بناته جواريا كما ورد في سفر الخروج "إذا باع رجل ابنته أمة لا تخرج كما يخرج العبيد" ويمكنه قتل أولاده وتقديمهم قرابين للرب، والرجل اسمه "بعل Baal" أي سيد في اللغة العبرية (4) والمرأة تخاطبه "سيدي" والطاعة عليها مطلقة، والحقوق معدومة، بل هي شيء بجانب الأشياء الأخرى، عبيد، أبقار، أنعام، خيول..إلخ

وإذا تركت منزل الزوجية لا تأخذ معها شيئًا لا أولادها ولا شيئًا من المتاع، وكل اموالها وممتلكاتها تنتقل للزوج بعد الزواج، وهي تخرج منها صفر اليدين، وفي المسيحية أضافوا عليها أشياء أخرى منها أنه لا يحق لها أن تتزوج بعد ذلك أبدًا، فلا مصير لها إلا التشرد أو القبول بأن تكون خادمة مطيعة لمعذبها، والمتسلط على رقبتها، والمستولي على أموالها، وهذه الوضعية كانت باقية إلى القرن الماضي في بلاد المسيحية في أوروبا وأمريكا (5)

الذمة المالية للمرأة في ألمانيا

فمثلًا بخصوص الذمة المالية المستقلة للمرأة في ألمانيا، فإنها لم تحصل عليها إلا منذ منتصف القرن العشرين (6) وهكذا عاشت المجتمعات الغربية تعاني أشد المعاناة من النظام الأبوي المتغطرس الذي يحرم المرأة من حقوقها الإنسانية، ويحرم الأولاد من المبادرة والاستقلال والحرية ويكبت طاقات الفكر والإبداع..إلخ.

عصر النهضة

ومع عصر النهضة والتمرد على هذه المخلفات الحضارية قام الغربيون بشن حملة واسعة على هذا النظام، وانتقدوا سيطرة الأب داخل الأسرة، وكان الإنجليزي (روبرت منلمر) في القرن السابع عشر أول من استخدم نموذج الأسرة الأبوية في تحليله لنظام الحكم، ثم شاع بعد ذلك المفهوم خاصة في الكتابات الماركسية، كما أنه يعد مفهومًا محوريًا وإطارًا تحليليًا في نقد الأنثوية لسيطرة الرجل في الأسرة والمجتمع والدولة (7)

"ويرتبط استخدام مفهوم الأبوية (كأداة تحليل في العلوم الاجتماعية) في الغرب بتيارين رئيسين: تيار العلمانية والذي يرى في الدين الدعامة الأساسية لتبرير الممارسة الأبوية للرجل، وإضفاء الشرعية عليها، حيث إن الرب ذاته سلطوي وأبوي، كما استخدمه التيار الماركسي في نقد هيراريكية المجتمع والدولة، ورأى أنها كلها أبنية أبوية؛ الدولة، الاقتصاد، الأسرة.. أي أن الأبوية كمفهوم يرتبط في الاستخدام المعاصر برفض الدين (العلمانية) ونقض الدولة (الماركسية)" (8).

الحركة النسوية والنظام الأبوي

ولا شك أن الأنثوية نشأت تحت تأثير هذين التيارين بالدرجة الأولى، ولذلك فقد استخدمت مفهوم (الأبوية) كإطار تحليلي لقضية المرأة ووضعها، ولا تكاد تجد كتابا في قضية المرأة والحركة النسوية إلا وقد تكررت فيه الكلمة مئات المرات.

وخطورة تبنى الحركة النسوية شعار معاداة الأبوية بالمعنى الذي سقناه لا غبار عليه، حيث من الواضح أنه نظام جاهلي وظالم، وربما هذا من محاسن الأنثوية، ولكن الخطورة كامنة في أمور أخرى، وهي:

1- الأنثوية لم تقف في حد مهاجمة النظام الأبوي الجاهلي، بل تعدى ذلك إلى الهجوم على الأسرة ونظامها وأصل تكوينها والتشكيك في جدواها

2- تعدى ذلك إلى رفض أي سيطرة للأب داخل الأسرة على الزوجة أو الأبناء، واعتبار ذلك من الأبوية وفي هذا الإطار رحبت بالأسرة المدارة من قبل الأم وحدها (Mother-Only Family) واعتبرت تأنيث الأسرة أمرًا إيجابيًا في صالح المرأة سواء كان سبب تأنيث الأسرة لجوء المرأة لرفض العلاقة مع الرجال (الزواج) واستخدام (الإنجاب الصناعي) للحصول على الأولاد، أو كان سبب التأنيث هجرة الرجال، أو ترمل المرأة أو حصولها على الطلاق أو غير ذلك، وفي هذا السياق أيضًا رحبت بالأسرة الشاذة السحاقية.

3- تأثرًا بالحركة العلمانية والماركسية جعلت الأنثوية أيضًا هذا المفهوم إطارا تحليليًا شاملًا فتحدثت عن الأبوية في الدين وأنه ظهر لتبرير الأبوية وترسيخها واعتبرت الدولة أيضًا امتدادا للأبوية.

4- رفضت الأسرة الممتدة (قبل رفض الأسرة النووية) باعتبارها شكلًا من أشكال الأبوية بالرغم مما تتيحه هذه الأسرة للمرأة من عون وسند، ومصدر لتحمل بعض أعبائها ومسؤولياتها البيتية والاجتماعية "في ترتيب أمور البيت ورعاية الأطفال وغير ذلك مما يتيح للمرأة الوقت للخروج للمشاركات الاجتماعية والسياسية والعمل العام"(9)

ساهمت هذه الأدبيات المعادية للأبوية على خلق حالة من النفرة والعداء للأب والحساسية بقبول أي توجيه من توجيهاته، والتمرد عليه، كما ساهمت في صياغة القوانين الغربية القاسية جدًا في منع الأبوين من تأديب أولادهما، وهذا انتهاك لحق الأبوين وحرمان لهما من حقهما في تنشئة الأولاد(10)


الإشارات المرجعية:

  1. صياغة الإنجيل الموجود حاليا لا شك في أنه بشري كتب بعد وفاة المسيح عليه السلام بفترة طويلة جدًا، ولهذا فلا غرابة أن يحدث أي شيء من مثل أن تراعي الصياغة أو تعبر عن قيم كانت سائدة في تلك المجتمعات وذلك الزمان
  2. كما يقول غارودي (في سبيل ارتقاء المرأة)، ص26
  3. حمل اسم الزوج باق إلى هذه اللحظة وإن كان البعض الآن يفضلون تركه وفي بعض الدول الإسلامية وكتقليد غربي جاهلي وأعمى انتشت هذه العادة السيئة في بعض الأوساط المتغربة كنوع من هوس التقليد، وبعض الغربيين وجدوا حلًا آخر وذلك بأن تذكر المرأة اسم عائلتها مع اسم عائلة زوجها على التوالي
  4. أما في اللغة العربية وفي الاستخدام القرآني تحديدًا فالكلمة تدل على التكافؤ الجنسي وحسن تصرفها مع بعض في الحقوق الجنسية، وهي كلمة تطلق على الذكر والأنثى بلا فرق
  5. لتفاصيل هذا الأمر ينظر إلى كتاب (الفيلسوف المسيحي والمرأة) للدكتور إمام عبد الفتاح إمام، ص28-31، وكتاب الفيلسوف الإنجليزي (جون ستيوارت مل) بعنوان (استعباد النساء) ص16-17
  6. يقول الدكتور مراد هوفمان صاحب كتاب(الإسلام كبديل): المرأة المسلمة تتمتع بمزايا الاستقلال الاقتصادي الذي يصون أموالها وممتلكاتها منذ ألف وأربعمائية عام، بينما لم يتح ذلك للمرأة الألمانية إلا بعد منتصف القرن العشرين بفضل تدخل المحكمة الدستورية الألمانية التي حررت الزوجة من إطلاق يد الزوج في إدارة أموالها وممتلكاتها" ص202
  7. هبة رؤوف (المرأة والعمل السياسي)، ص203
  8. هشام الشرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي.
  9. ولا شك أن الأسرة الممتدة أيضًا وبالشكل الموجود في بعض المناطق تخلق بعض العوائق والإشكالات ليست للمرأة فقط وإنما لعموم الأسرة، ولكن هذه الإشكالات لا ترقى إلى ضرورة الحفاظ على هذا الكيان الحيوي وترشيده، حتى يمارس مهامه الحضارية في التنشئة الفكرية والسياسية والاجتماعية، وحماية الغرد من تغول السلطة وقسوة المجتمع وتعقد الحياة وطغيان المادية، وتوفر ملاذ وملجأ للأسرة النووية الصغيرة والحديثة عندما تحتاج لدعم أو حماية أو ترشيد أو مواساة أو إصلاح.. إلخ، والأسرة الممتدة التي نحرص عليها لا علاقة لها أبدًا بالأسرة الممتدة الأبوية الغربية
  10. صحيح أن هناك قسوة وعنف في الأسرة الغربية وحالات كثيرة تعرض الأولاد إلى الإهمال والقسوة والظلم، ولكن هذا كله لا يبرر القوانين القاسية التي تصدر ضد الآباء لصالح الأبناء

المصدر:
مثنى أمين الكردستاني، حركات تحرير المرأة من المساواة إلى الجندر، ص187

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#النسوية #الأسرة #الأب
اقرأ أيضا
المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج4 | مرابط
مناقشات

المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج4


حين أخبرني الشيخ أحمد سالم عن كتاب ما بعد السلفية وكان يتوقع رفضا واسعا للكتاب أبديت مخالفتي لهذا التوقع وأن مثل هذا النقد سيكون متقبلا عند التيار الأوسع من السلفيين كنت أرى أن مثل هذا النقد من كاتبين فاضلين سيكون له أثر إيجابي لحظة ما وصلني الكتاب بدأت متلهفا بقراءته قرأته بشكل دقيق فاحص شعرت بعد الانتهاء منه أنني كنت ساذجا جدا حين ظننت أن مثل هذا النقد سيحدث أثرا إيجابيا أو من الممكن أن تتقبله أكثر النفوس أو أن يكون الفضاء الذي سيحدثه فضاء صحيا السبب هو في الروح التي كتب بها هذا النقد وحك...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1183
النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة | مرابط
اقتباسات وقطوف

النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة


النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها وكونها مريدة من لوازم ذاتها لا يتصور أن تكون نفس الإنسان غير مريدة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: أصدق الأسماء: الحارث وهمام وهي حيوان وكل حيوان متحرك بالإرادة فلا بد لها من حركة إرادية وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
746
أبرز آراء النسوية الراديكالية: رفض الأمومة والإنجاب | مرابط
النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: رفض الأمومة والإنجاب


لقد بلغت الأنانية وعبادة الذات وحب الاستمتاع بالشهوات والتمرد على الطبيعة ورفض المسؤولية والتهرب منها والانحراف عن الفطرة والتفسير السقيم بالحركة الأنثوية الراديكالية إلى درجة رفض الأمومة والإنجاب كخطوة لاحقة لرفض الأسرة والزواج زعيمة الأنثوية الوجودية الفرنسية سيمون دي بوفوار تسمي هذا الواجب بعبودية التناسل وكأن الأولاد للأب فقط ولا علاقة لهم بالأم

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
3552
منهجية الرسول في التعريف بالله عز وجل | مرابط
تفريغات

منهجية الرسول في التعريف بالله عز وجل


إذا ضل الإنسان في معرفة الموازين والقوى فإنه يختل حينئذ من جهة التوكل المحبة الخوف الرجاء وما ينتج عن ذلك من بذل العبودية لله سبحانه وتعالى بعبادة الجوارح السجود لغير الله سؤال غير الله التضرع لغير الله كحال ذلك الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشفع بالله عليه لأنه عرف شيئا وجهل أشياء فكفر بالله سبحانه وتعالى ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف الله عز وجل للناس بتعريف مخلوقات الله عز وجل إليهم

بقلم: عبد العزيز الطريفي
396
ليست الدنيا دار جزاء | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر مقالات

ليست الدنيا دار جزاء


ستتعب إن قاومت هذه الحقيقة ومهما غالبتها ستبقى هي الحقيقة ليست الدنيا دار جزاء فلو كانت دار جزاء لما قتل أنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام ولما عذب عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى الموت كياسر وسمية دون أن يروا قائمة تقوم للإسلام ولما حصل لأهل الأخدود ما حصل

بقلم: د إياد قنيبي
2320
غاية خلق السماوات والأرض وما بينهما | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

غاية خلق السماوات والأرض وما بينهما


المتأمل في خلق السموات والأرض وما بينهما يجد أنه يشتمل على الحق أولا اوآخرا ووسطا وأنها خلقت بالحق وللحق وشاهدة بالحق وبين يدينا مقتطف بديع لابن القيم من كتابه بدائع الفوائد يوجز لنا هذا الحق وتلك الغاية من الخلق

بقلم: ابن القيم
661