ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية

ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية | مرابط

الكاتب: محمد عبد الله دراز

2146 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(١) نزعة التدين امتداد لقوى النفس الثلاث

 

ما هذه إِذن تلك القوة الغلابة، التي لا تزيدها المقاومة إِلا عنفًا واشتعالًا، والتي تَقهر في النهاية أنصارها وأعداءها على السواء؟ أليست هي قوة الفطرة التي إِن تورق وتثمر كلما عاودها الربيع فبلل ثراها وسقى أصولها؟ بلى! وإِن هذا الربيع قد تكفي منه قطرةٌ، وربما تبلور في نظرة، فما هي إِلا طُرفة من تأمل الفكر، أو لحظة من يقظة الوجدان، أو أزمة من صدمات العزم.. فإِذا أنت تسبح بخيالك في عالم الغيب الذي منه خرجت، أو في عالم الغيب الذي إِليه تصير.

 

(١-١) قوة الفكر في التطلع إِلى الأسباب الأولى

 

لو كانت نزعة الإِيمان بالغيب والتطلُّع إِليه من ناحية طرفيه: الماضي والآتي، عنصرًا من عناصر الفكرة الدينية وحدها، لكان الإِنكار لِمَا وراء الحس إِلحادًا فحسب. ولو كانت هي النتيجة الختامية لتقدم العلوم واتساع أفقها -كما رأينا- لَكان هذا الإِنكار نقصًا في العلم وقصرًا في النظر وكفى. أما وتلك النزعة بنت الغريزة والجبلة، فإِن الأمر أعظم من ذلك وأخطر؛ إِنه نكسة في فطرة الإِنسان ترده إِلى مستوى الحيوان الأعجم، ولا نقول: إِلى مستوى الطفولة الغافلة؛ فإِن كثيرًا من الأطفال ذوي الفطر السليمة لا يقنعون بالأمر الواقع المشاهد، ولا يقفون في تعليله عند حلقة من حلقات أسبابه وغاياته القريبة، بل يصعدون دائمًا إِلى أسبابه الأولى، ويسترسلون في تعرف نتائجه الأخيرة، فهذه صورة مصغرة من تلك النزعة الفكرية الإِنسانية التي هي أبدًا في حركة وتقدُّم يأبيان الوقوف والجمود.
 
إِن غريزة التطلُّع هذه هي مبدأ العلم والإِيمان معًا، وإِن الذي يقف بها عند حدود الواقع الحاضر في الحس لَيصد الإِنسانية عن سبيل الكمال، ويحرم العالم من خير كثير؛ فضلًا عن أنه بذلك يقاوم طبيعة الأشياء، ويحاول تبديل الفطرة التي فطر اللهُ النَّاس عليها.
 
غير أن العقول حين تنفذ بنورها من نطاق هذا العالم الحسي، سعيًا إِلى الاطلاع على مبدئه ومصدره، وعلى مصيره وغايته؛ ليست على درجة واحدة في هذا السعي، «فأما» العقل القانع المتعجل فإِنه يقف عند أدنى مبادئ الغيب وأقرب غاياته، مكتفيًّا في كل فصيلة من الظواهر الكونية المتشابهة بأن يلمح من ورائها مبدأً يدفعها وينظمها، ومن أمامها قبلة معينة تتجه نحوها؛ وقلما يعود إِلى السؤال عن منشأ كل واحد من المبادئ ومآله، أو إِلى السؤال عن مبدأ الكائنات جملة أو عن وجهتها الكلية من حيث هي كتلة واحدة، ذات وظائف متساندة، وهكذا تتعدد في نظره القُوى المدبرة، أو الآلهة المقدرة: فللريح إِله، وللخصب إِله، وللحياة إِله، وللموت إِله، وللشعر إِله …
 
«وأما» العقول الواعية، الطليقة، المتسامية، التي تسعى إِلى هدفها على بصيرة فيما تطلب، وفيما تأخذ أو تدع، غير متعرجة في السير، ولا متناقضة في الحكم، فإِنها من جهة ترى أن مطلبها أسمى من أن تحده حدود المكان، أو تقيده قيود الزمان.. حتى إِنه لو أحصى لها العادُّون ما جمعته البشرية وما ستجمعه من علوم وفنون، ومُتع بدنية وعقلية؛ لَبقي أمامها في طرفي الوجود شيء لا تفسره العلوم، ولا تحققه الفنون، ولظل فيها فراغٌ عميقٌ لا يملؤه الماضي ولا الحاضر، ولا المستقبل القريب ولا البعيد … ولن يتوقف منها هذا التطلع والتسامي، ولن يستقر فيها هذا القلق والاضطراب، ولن ينحسم عنها هذا اللجاج في الطلب.. إِلا بحقيقة هي اللبنة الأولى واللبنة الأخيرة لكل الحقائق، حقيقة تأبى طبيعتها الأفول في أُفُق الحدوث والإِمكان، ولا تدع مجالًا للسؤال عن قبل أو بعد في الزمان أو المكان.
 
ومن جهة أُخرى فإِن هذه العقول الفسيحة الأفق تطلب دائمًا تحت كل اختلاف ائتلافًا، ومن وراء كل كثرة وحدة؛ ولذلك تأبى الوقوف عند المقاييس النسبية، والتفسيرات الجزئية، ولا ترضى بآحاد القوانين حتى تسمو إِلى قانون القوانين. بل إِنها لتستشرف إِلى اليد التي جمعت تلك القوانين ونَسَّقَتْها، وجعلتها تتعاون على أداء الوظيفة المشتركة لهذا البنيان الكوني، يا سبحان الله! أليست وحدة النظام بين هذه الكتائب المختلفة الطبيعة، المتنوعة العمل، من الكائنات السماوية والأرضية، آيةً على وحدة القيادة العامة التي تُشرف عليها، وعلى وحدة الخطة المرسومة التي يسير على هُداها كل جهاز من أجهزة هذه الآلة الكبرى؟
 
وجملة القول: إِن العقول السامية تشرئبُّ دائمًا من وراء الحقائق الجزئية الحائلة الزائلة، إِلى حقيقة كلية أزلية أبدية، حقيقة لا يحويها شيءٌ من العلوم والمعارف، ولكنها تتشوف إِليها كل العلوم والمعارف وتلك هي الحقيقة التي تفردها الأديان العليا بالتقديس، ولا تنكرها سائر الأديان وإِن أشركتْ معها في هذا التقديس بعض الحقائق الجزئية الفانية.
 
إِن هذا الشوق الغريزي إِلى الأزلي الأبدي، وهذا الطلب الحثيث للكلي اللانهائي، له دلالتان عميقتان: إِحداهما دلالته على مطلوبه، لا كدلالة الحركة القسرية على مصدر جاذبيتها كما يقول أرسطو، بل كدلالة الأثر على صانعه، أو الخاتم على طابعه -حسب تعبير ديكارت- وثانيهما دلالته على أن في الإِنسان عنصرًا نبيلًا سماويًّا خُلِقَ للبقاء والخلود، وإِن تناساه الإِنسان وتلهى عنه حينًا، قانعًا بالدون من الحياة الجثمانية المتحطمة.
 
التديُّن إِذن -ولا سيما في أديان التوحيد والخلود- عنصرٌ ضروريٌ لتكميل القوة النظرية في الإِنسان؛ فبه وحده يجد العقل ما يُشبع نهمته، ومن دونه لا يحقق مطامحه العليا.

 

(١-٢) قوة الوجدان في إِشباع العواطف النبيلة

 

ثم هو فوق ذلك عنصر ضروري لتكميل قوة الوجدان؛ فالعواطف النبيلة من الحب، والشوق، والشكر، والتواضع، والحياء، والأمل، وغيرها، إِذا لم تجد ضالتها المنشودة في الأشياء ولا في النَّاس، وإِذا جفت ينابيعها في هذا العالم المتبدل المتبدد، وجدتْ في موضوع الدين مجالًا لا تُدرك غايته، ومنهلًا لا يَنفد مَعينه.

 

(١-٣) قوة الإِرادة لتكوين البواعث والدوافع

 

وأخيرًا هو عنصرٌ ضروريٌ لتكميل قوة الإِرادة، يمدها بأعظم البواعث والدوافع، ويدرَعها بأكبر وسائل المقاومة لعوامل اليأس والقنوط.
 
وهكذا نرى الفكرة الدينية تعبر عن حاجات النفس الإِنسانية في مختلف مَلَكاتها ومظاهرها، حتى إِنه كما صح أن يُعرَّف الإِنسان بأنه «حيوان مفكر»، أو بأنه «حيوانٌ مدنيٌّ بطبعه»، يسوغ لنا كذلك أن نُعرفه بأنه «حيوان متدين بفطرته».

 


 

المصدر:

  1. د. محمد عبد الله دراز، الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، ص95
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#النفس-الإنسانية #الغريزة
اقرأ أيضا
التضليل والخداع في تسمية العلمانية | مرابط
العالمانية

التضليل والخداع في تسمية العلمانية


إمعانا في التضليل والخداع سماها الفكر الغربي بالعلمانية وهو اصطلاح يوحي بأن لها صلة بالعلم حتى ينخدع الآخرون بصواب الفكرة واستقامتها فمن الذي يقف في وجه دعوة تقول للناس إن العلم أساسها وعمادها ومن هنا انطلى الأمر على بعض السذج وأدعياء العلم فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره دون أن ينتبهوا إلى حقيقته وأبعاده

بقلم: حمود الرحيلي
774
مقام الصبر ومقام الشكر | مرابط
مقالات

مقام الصبر ومقام الشكر


مما يخدعك به نفسك والشيطان أنهما يشعرانك أنك في مقام ابتلاء.. واختبار الصبر لمجرد ما تمر به من بعض الضيق أو المرض أو الخوف أو غير ذلك وينسيانك ما أنت فيه من نعمة الله. فبينما أنت تظن أنك في مقام الصبر والضراء وحدهما.. لكن في الواقع أنت كذلك في مقام الشكر والحمد والرضا والفرح وكذلك في حياتك ما يتطلب الصبر

بقلم: حسين عبد الرازق
370
المجتمع المشهدي والاستهلاك | مرابط
فكر

المجتمع المشهدي والاستهلاك


وبتحويل العلاقات الإنسانية إلى أشياء فأصبح من الممكن للمنظومة عرض هذه الأشياء كسلع وهذا ما أدى بدوره إلى زيادة معدل الاستهلاك لهذه السلع لا من أجل ما تحويه هذه السلع من منافع بل من أجل الاستعراض بغية إثبات الوجود والحصول على الاهتمام المرجو من المجتمع.

بقلم: محمد علي فرح
751
الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج4 | مرابط
أبحاث الليبرالية

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج4


المراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي ووقف على أبرز محطاته وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة أزمة في المصطلح وأزمة في الخلفيات الفلسفية وأزمة في السلوكيات اليومية وأزمة في الالتزام بالقيم وأزمة في الاتساق مع المبادئ وأزمة في الاطراد وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطع...

بقلم: سلطان العميري
1515
الغضب لله والغيرة على حرماته | مرابط
اقتباسات وقطوف

الغضب لله والغيرة على حرماته


وإن الغضب لله والغيرة على حرماته من أهم نتائج الإيمان وعلاماته وكما أن محبة الله مقترنة بمعرفته ملازمة لها فإن الغيرة لا تنفك عن المحبة وإن المحب يغار وغيرته تلك علامة حبه وبذلك نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن مشاعر المؤمن تجاه حرمات الله: إن المؤمن يغار والله أشد غيرة

بقلم: محمد علي يوسف
384
تحدي الإله ومعناه | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

تحدي الإله ومعناه


من أنباء الملاحدة الماركسيين أن أحدهم وقف في إحدى محطات الإذاعة فنادى الله: إنه ليتحداه إن كان موجودا لينسفن هذا البلد وليمحون تلك الدولة أو فليعلم الناس جميعا أنه خرافة ليس لها وجود فهذا الملحد الماركسي لا يعقل أن يوجد الإله ويقدر على كل شيء ثم يترك من يتحداه سليما بعد ذلك طرفة عين دون أن ينكل به ويعجل برد تحديه إليه

بقلم: عباس محمود العقاد
1953