أبو بكر الصديق الداعية المتميز

أبو بكر الصديق الداعية المتميز | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

1577 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هذا الإنتاج الغزير للصديق رضي الله عنه الذي رأينا دعوته للناس إلى الإسلام (أبو بكر الصديق والدعوة إلى الإسلام) يدعونا للتفكُّر في أسباب النجاح الذي حققَّه؛ فالأمر وإن كان معتمدًا في الأساس على الصدق في القلب، وعلى قوة الإيمان، فإنه ولا شكَّ معتمد كذلك على أسباب معينة أخذ بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلى منهج معيَّن سار عليه، فما الذي كان يُمَيِّز الصديق عن غيره حتى صار مسئولاً عن نشر الدعوة بهذه الصورة؟

 

ما تميَّز به الصديق رضي الله عنه

تضع رواية ابن اسحاق بعض هذه المفاتيح؛ التي كان يمتلكها الصديق رضي الله عنه؛ قال ابن إسحاق: "كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلاً، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَانَ رَجُلاً تَاجِرًا، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأَمْرِ، لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللهِ وَإِلَى الإِسْلاَمِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إلَيْهِ" [1].

 

الكرم والسخاء

أبرزت هذه الكلمات بعض الجوانب الجميلة في حياة الصديق رضي الله عنه، فمع كونه تاجرًا مشهورًا في مكة، وهو من أكثرهم مالاً، فإنه لم يُفْتَن في هذا المجال، ولم يجعل حياته مُسَخَّرة لجمع المال وكنزه، حتى قبل إسلامه؛ فقد كان كريمًا واسع الكرم، وكان معطاءً كثير العطاء، وهذا -لا شكَّ- حبَّبه إلى قلوب الناس جميعًا، الفقراء منهم والأغنياء، وأفراد قبيلته وغيرهم.

 

اللين والرفق

كما أن شخصية الصديق رضي الله عنه كانت تتميَّز باللين والرفق، وهذه أخلاقيات تَحَبِّب صاحبها للناس عامَّة، فهم يستطيبون مجلسه، ويستشيرونه في أمورهم، ويُحَكِّمونه في اختلافاتهم، وهذا جعل له مكانه خاصة في قلوبهم، أو كما تقول الرواية: "محبَّبًا". وهكذا كانت التجارة والمال -على عكس ما يحدث مع كثير من الناس- من الأمور التي سهَّلت على الصديق رضي الله عنه دعوته، وفتحت له قلوب الناس.

 

أعلم الناس بعلم الأنساب

وذكرت الرواية أمرًا آخر من الأمور المهمَّة التي تميَّز بها الصديق رضي الله عنه؛ قال ابن إسحاق: "وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ". فقد كان الصديق عالمًا بأحد أهمِّ علوم زمانه، وهو علم الأنساب، وكانت الطبقة المثقفة في مكة ترتاد مجلسه للتباحث في هذا العلم، فالصديق رضي الله عنه لم يكن يُعطي ابتسامة فقط، أو مالاً فحسب، إنما كان يُعطي علمًا كذلك، وكان يُعَدُّ أحد المراجع الكبرى في هذا المجال، ولعلَّنا إذا راجعنا هذا الموقف -وهو من مواقف المدينة؛ وقد أتينا به هنا لدلالته- أدركنا قيمة الصديق رضي الله عنه في هذا المجال.
 
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اهْجُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ". فَأَرْسَلَ إلى ابن رواحة رضي الله عنه فَقَالَ: "اهْجُهُمْ". فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ، فَأَرْسَلَ إِلَى كعب بن مالك رضي الله عنه، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حسان بن ثابت رضي الله عنه، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ حَسَّانُ رضي الله عنه: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الأَدِيمِ.
 
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَعْجَلْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا، حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي". فَأَتَاهُ حَسَّانُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ لِحَسَّانَ رضي الله عنه: "إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ، مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ". وقالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى [2]" [3].
 
فعِلْمُ الصديقِ رضي الله عنه جعل الناس في احتياج له، ورغبة في مجالسته، فاجتمع له المال، والتجارة، والكرم، والأدب، والعلم، والحكمة؛ فكيف لا يُستجاب لدعوة رجل بهذه الصورة؟ فالأمر إذن لم يأتِ من فراغ، ولم تكن مصادفة أن يستجيب هذا العدد العظيم من عمالقة الإسلام إلى الصديق رضي الله عنه، وإذا كُنَّا نُريد حقًّا أن نُصبح دعاة إلى الله، فلنأخذ بأسباب الصديق رضي الله عنه؛ فقد كان خير الدعاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ماذا نتعلم من قصة الصديق؟

ولعلَّه من المناسب أن نقف مع أنفسنا وقفة بعد رؤية هذا الجهد من الصديق رضي الله عنه؛ خاصة ونحن نعرف الأثر العظيم لهؤلاء الذين أسلموا على يده على مسيرة الدين، ولنسأل أنفسنا: كم فرد جديد أتينا به لهذه الأمة الكريمة؟
 
بل دعوني أقول إنه ليس بالضرورة أن يكون من ندعوهم إلى الله غير مسلمين، وليس بالضرورة أن نأتي برجال أمثال عثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم؛ ولكن هل تحرَّكْنا للدين؟ وهل وصلت دعوتنا إلى المسلمين غير الملتزمين بالإسلام فضلاً عن غير المسلمين؟ وهل حملنا في قلوبنا حميةً لهذا الدين، ورغبة حثيثة في نصرته، وتقوية بنيانه، مثلما رأينا في قصة الصديق رضي الله عنه، أو قريبًا منه؟
 
إن مجالات العمل لله لا تُحصى ولا تُعَدُّ، وأبواب الدعوة لا حصر لها؛ ولكن المهم أن يتولَّد في القلب شعور أننا مسئولون عن هذا الدين، وعندها سيُصبح العمل لله متعة، وليس مجرَّد تكليف.
 
هذا هو الدرس الذي نخرج به من قصة الصديق رضي الله عنه.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ابن إسحاق: السير والمغازي ص140، وابن هشام: السيرة النبوية، 1/250، وذكر هذه الرواية دون تعليق مجدي فتحي السيد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، 1/ 321، وذكره في صحيح السيرة النبوية لابن هشام، ص94، والطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/317، وذكر في صحيح الطبري، وعلق المحقق قائلاً: إسناده ضعيف. انظر: صحيح وضعيف تاريخ الطبري 2/22، وانظر: تحليل هذه الروايات عند محمد بن رزق بن طرهوني: صحيح السيرة النبوية، 2/48، وحواشيها رقم (389) 1/395، ورقم (418) 2/311، 312.
  2. فشفى واشتفى: أي شفى المؤمنين، واشتفى هو بما ناله من أعراض الكفار ومزقها ونافح عن الإسلام والمسلمين.
  3. البخاري: كتاب المناقب، باب من أحب أن لا يسب نسبه، (3338)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه، (2490)، واللفظ له.

 

المصدر:

موقع قصة الإسلام

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
مسالك الهوى | مرابط
اقتباسات وقطوف

مسالك الهوى


مقتطف جميل للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني من كتاب القائد إلى تصحيح العقائد يشير فيه إلى الهوى وكيف أن له مسالك دقيقة قد تتسلل إلى الإنسان حتى من أبواب الخير أو من الأمور التي ظاهرها فيه خير وصلاح ونفع له ولغيره ولكن الهوى مع ذلك يجد طريقه إلى القلب من أدق وأخفى المسالك

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
2324
كيف دخلت العالمانية العالم العربي | مرابط
فكر مقالات العالمانية

كيف دخلت العالمانية العالم العربي


يحاول كثير من المستشرقين والعالمانيين العرب نسبة بدايات العالمانية في العالم العربي إلى رصيد من التراث الإسلامي الموروث وقد آثر أكثرهم ابن رشد ليكون رائد العالمانية في ثوبها العربي أو حتى الغربي وهي دعوى لا تملك أدنى الشروط التاريخية والموضوعية للصمود أمام النقد وفي هذا المقال يوضح لنا الكاتب كيف دخلت العلمانية العالم العربي ويرد على دعوى نسب العلمانية لابن رشد

بقلم: د سامي عامري
2453
من فضائل أم سليم | مرابط
المرأة

من فضائل أم سليم


هذه أم سليم رضي الله عنها علمتنا هذا الأصل في الحديث المشهور كان لها ولد مريض ثم ذهب أبو طلحة للتجارة فمات الولد فقالت أم سليم: لا أحد يخبره حتى أكون أنا أول من يخبره.

بقلم: أبو إسحق الحويني
323
آيات التحدي في القرآن الكريم | مرابط
تعزيز اليقين

آيات التحدي في القرآن الكريم


إن القرآن الكريم كتاب الله تبارك وتعالى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم معجزة عظمى وقرآنا يتلى تولى حفظه رب العالمين جل جلاله فقال سبحانه: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون الحجر:8 فالقرآن محفوظ في السطور ومحفوظ في الصدور أعظم معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم معجز أعجز البلغاء أن يأتوا بمثله تحدى كفار قريش وهم الفصحاء أن يأتوا بمثله مع أنه مركب من الحروف العربية أ ب ت ث التي يتكلم بها أهل العربية وألفاظه ومفرداته موجودة في كلام العرب لكن الكل يعجز عن أن يأتي بمثل أقصر آية منه

بقلم: محمد بن عبدالله العبدلي
1435
ما أورثني علم الكلام إلا حيرة! | مرابط
اقتباسات وقطوف

ما أورثني علم الكلام إلا حيرة!


واعلم أني عند الاشتغال بعلم الكلام وممارسة تلك المذاهب والنحل لم أزدد بها إلا حيرة ولا استفدت منها إلا العلم بأن تلك المقالات خزعبلات فقلت إذ ذاك مشيرا إلى ما استفدته من هذا العلم: وغاية ما حصلته من مباحثي... ومن نظري من بعد طول التدبر .. هو الوقف ما بين الطريقين حيرة... فما علم من لم يلق غير التحير .. على أنني قد خضت منه غماره... وما قنعت نفسي بدون التبحر

بقلم: الإمام الشوكاني
348
كيف طلبت المسلمة العلم وعلمته | مرابط
المرأة

كيف طلبت المسلمة العلم وعلمته


بين يديكم رد على سؤال نسمعه بين الفينة والأخرى حول طلب العلم للنساء وإشكالية الاختلاط يقول صاحبه: من المعلوم أن الإسلام عرف عالمات كثيرات لكن كيف طلبن العلم دون رؤية الرجال وكيف علمن الرجال أيضا؟

بقلم: قاسم اكحيلات
441