أبو بكر الصديق الداعية المتميز

أبو بكر الصديق الداعية المتميز | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

1471 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هذا الإنتاج الغزير للصديق رضي الله عنه الذي رأينا دعوته للناس إلى الإسلام (أبو بكر الصديق والدعوة إلى الإسلام) يدعونا للتفكُّر في أسباب النجاح الذي حققَّه؛ فالأمر وإن كان معتمدًا في الأساس على الصدق في القلب، وعلى قوة الإيمان، فإنه ولا شكَّ معتمد كذلك على أسباب معينة أخذ بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلى منهج معيَّن سار عليه، فما الذي كان يُمَيِّز الصديق عن غيره حتى صار مسئولاً عن نشر الدعوة بهذه الصورة؟

 

ما تميَّز به الصديق رضي الله عنه

تضع رواية ابن اسحاق بعض هذه المفاتيح؛ التي كان يمتلكها الصديق رضي الله عنه؛ قال ابن إسحاق: "كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلاً، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَانَ رَجُلاً تَاجِرًا، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأَمْرِ، لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللهِ وَإِلَى الإِسْلاَمِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إلَيْهِ" [1].

 

الكرم والسخاء

أبرزت هذه الكلمات بعض الجوانب الجميلة في حياة الصديق رضي الله عنه، فمع كونه تاجرًا مشهورًا في مكة، وهو من أكثرهم مالاً، فإنه لم يُفْتَن في هذا المجال، ولم يجعل حياته مُسَخَّرة لجمع المال وكنزه، حتى قبل إسلامه؛ فقد كان كريمًا واسع الكرم، وكان معطاءً كثير العطاء، وهذا -لا شكَّ- حبَّبه إلى قلوب الناس جميعًا، الفقراء منهم والأغنياء، وأفراد قبيلته وغيرهم.

 

اللين والرفق

كما أن شخصية الصديق رضي الله عنه كانت تتميَّز باللين والرفق، وهذه أخلاقيات تَحَبِّب صاحبها للناس عامَّة، فهم يستطيبون مجلسه، ويستشيرونه في أمورهم، ويُحَكِّمونه في اختلافاتهم، وهذا جعل له مكانه خاصة في قلوبهم، أو كما تقول الرواية: "محبَّبًا". وهكذا كانت التجارة والمال -على عكس ما يحدث مع كثير من الناس- من الأمور التي سهَّلت على الصديق رضي الله عنه دعوته، وفتحت له قلوب الناس.

 

أعلم الناس بعلم الأنساب

وذكرت الرواية أمرًا آخر من الأمور المهمَّة التي تميَّز بها الصديق رضي الله عنه؛ قال ابن إسحاق: "وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ". فقد كان الصديق عالمًا بأحد أهمِّ علوم زمانه، وهو علم الأنساب، وكانت الطبقة المثقفة في مكة ترتاد مجلسه للتباحث في هذا العلم، فالصديق رضي الله عنه لم يكن يُعطي ابتسامة فقط، أو مالاً فحسب، إنما كان يُعطي علمًا كذلك، وكان يُعَدُّ أحد المراجع الكبرى في هذا المجال، ولعلَّنا إذا راجعنا هذا الموقف -وهو من مواقف المدينة؛ وقد أتينا به هنا لدلالته- أدركنا قيمة الصديق رضي الله عنه في هذا المجال.
 
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اهْجُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ". فَأَرْسَلَ إلى ابن رواحة رضي الله عنه فَقَالَ: "اهْجُهُمْ". فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ، فَأَرْسَلَ إِلَى كعب بن مالك رضي الله عنه، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حسان بن ثابت رضي الله عنه، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ حَسَّانُ رضي الله عنه: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الأَدِيمِ.
 
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَعْجَلْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا، حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي". فَأَتَاهُ حَسَّانُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ لِحَسَّانَ رضي الله عنه: "إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ، مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ". وقالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى [2]" [3].
 
فعِلْمُ الصديقِ رضي الله عنه جعل الناس في احتياج له، ورغبة في مجالسته، فاجتمع له المال، والتجارة، والكرم، والأدب، والعلم، والحكمة؛ فكيف لا يُستجاب لدعوة رجل بهذه الصورة؟ فالأمر إذن لم يأتِ من فراغ، ولم تكن مصادفة أن يستجيب هذا العدد العظيم من عمالقة الإسلام إلى الصديق رضي الله عنه، وإذا كُنَّا نُريد حقًّا أن نُصبح دعاة إلى الله، فلنأخذ بأسباب الصديق رضي الله عنه؛ فقد كان خير الدعاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ماذا نتعلم من قصة الصديق؟

ولعلَّه من المناسب أن نقف مع أنفسنا وقفة بعد رؤية هذا الجهد من الصديق رضي الله عنه؛ خاصة ونحن نعرف الأثر العظيم لهؤلاء الذين أسلموا على يده على مسيرة الدين، ولنسأل أنفسنا: كم فرد جديد أتينا به لهذه الأمة الكريمة؟
 
بل دعوني أقول إنه ليس بالضرورة أن يكون من ندعوهم إلى الله غير مسلمين، وليس بالضرورة أن نأتي برجال أمثال عثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم؛ ولكن هل تحرَّكْنا للدين؟ وهل وصلت دعوتنا إلى المسلمين غير الملتزمين بالإسلام فضلاً عن غير المسلمين؟ وهل حملنا في قلوبنا حميةً لهذا الدين، ورغبة حثيثة في نصرته، وتقوية بنيانه، مثلما رأينا في قصة الصديق رضي الله عنه، أو قريبًا منه؟
 
إن مجالات العمل لله لا تُحصى ولا تُعَدُّ، وأبواب الدعوة لا حصر لها؛ ولكن المهم أن يتولَّد في القلب شعور أننا مسئولون عن هذا الدين، وعندها سيُصبح العمل لله متعة، وليس مجرَّد تكليف.
 
هذا هو الدرس الذي نخرج به من قصة الصديق رضي الله عنه.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ابن إسحاق: السير والمغازي ص140، وابن هشام: السيرة النبوية، 1/250، وذكر هذه الرواية دون تعليق مجدي فتحي السيد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، 1/ 321، وذكره في صحيح السيرة النبوية لابن هشام، ص94، والطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/317، وذكر في صحيح الطبري، وعلق المحقق قائلاً: إسناده ضعيف. انظر: صحيح وضعيف تاريخ الطبري 2/22، وانظر: تحليل هذه الروايات عند محمد بن رزق بن طرهوني: صحيح السيرة النبوية، 2/48، وحواشيها رقم (389) 1/395، ورقم (418) 2/311، 312.
  2. فشفى واشتفى: أي شفى المؤمنين، واشتفى هو بما ناله من أعراض الكفار ومزقها ونافح عن الإسلام والمسلمين.
  3. البخاري: كتاب المناقب، باب من أحب أن لا يسب نسبه، (3338)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه، (2490)، واللفظ له.

 

المصدر:

موقع قصة الإسلام

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
التربية وضياع الأبناء | مرابط
تفريغات

التربية وضياع الأبناء


جاءني أحد الآباء يبكي بدموع حارة وقد مات ابنه ويريد أن يعرف: هل تسبب هو في ضياعه قال: كان ابني من الصالحين من الذين يحافظون على الصلوات ويحفظون القرآن وفجأة بدأت أحواله تتغير وبدأ يكثر السهر وبدأ يلازم الشارع أكثر من لزومه للبيت وبدأت طباعه تتغير والطيور على أشكالها تقع فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه فكم فاسقا أردى مطيعا حين آخاه

بقلم: خالد الراشد
419
بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة | مرابط
فكر مقالات

بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة


في الغرب يتحدثون عن حقوق المرأة في الوقت الذي تتصاعد فيه معدلات الإباحية والعري ومحاصرة المرأة بمعايير تؤكد أهمية جسدها وتختزلها تماما فيه. في مقال متميز للأستاذ مصطفى المرابط بعنوان صناعة الأنوثة جاء فيه أن الصورة النمطية التي يتم تثبيتها تختزل المرأة في جسدها لم يعد يكتفى بتشيؤ هذا الجسد أي تحويلها إلى شيء إنما جعله في خدمة الشيء حيث يقدم طعما للترويج لسلعة أو منتوج. فالجسد يقدم تارة على أنه مادة للاستهلاك وتارة أخرى وسيلة للاستهلاك.

بقلم: عبد الوهاب المسيري
260
من علامات مرض القلب وصحته | مرابط
مقالات

من علامات مرض القلب وصحته


كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به كماله فى حصول ذلك الفعل منه ومرضه: أن يتعذر عليه الفعل الذى خلق له حتى لا يصدر منه أو يصدر مع نوع من الاضطراب فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق ومرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله ومحبته والشوق إلى لقائه والإنابة إليه وإيثار ذلك على كل شهوته فلو عرف العبد كل شىء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئا

بقلم: ابن القيم
775
بين المتقدمين والمتأخرين | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين المتقدمين والمتأخرين


وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله! ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين

بقلم: ابن رجب
296
المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج2 | مرابط
تفريغات

المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج2


أهل السنة والجماعة يؤمنون بالقدر إيمانا كاملا مفصلا وعقيدتهم في الإيمان بالقدر عقيدة واضحة وبينة وهم ينهون ويأمرون بالإمساك عن مسائل القدر إذا كان الخوض فيها بغير منهاج الشرع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب وقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم وهذا حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح

بقلم: عبد الرحيم السلمي
443
باطل مشرق | مرابط
فكر مقالات

باطل مشرق


وهذه الرقعة المتراحبة من حدود الصين إلى المغرب الأقصى والتي تسكنها أمم ورثت اسم الإسلام فنسبت إليه ووصفت به تعيش اليوم في بريق متلالئ من هذا الباطل المشرق فمنذ أكثر من مائتي سنة ضربها الغازي الصليبي المستعمر ضربة رابية حتى خرت عاجزة ثم ظل يضربها حتى همدت أو كادت وفي خلال ذلك كان الغازي يستحييها بحياة غريبة عنها حتى يأتي يوم تتبدل فيه من حياة كانت إلى حياة سوف تكون وكذلك يقضي قضاء ساحقا على أسباب الحياة الأولى الحياة التي كانت تعرف بالحياة الإسلامية

بقلم: محمود شاكر
1700