الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج1

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج1 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

2795 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ليس المراد بالأصول في هذا السياق الأدلة العقلية التي يستند إليها المؤمنون في إثبات وجود الله وكماله، وإنما المراد بها المعاني الكلية التي يتأسس من مجموعها الإيمان الصحيح السالم من النقص والعيب في التصديق بأن الله موجود، وأنه الخالق للكون، المدبر له والمتصرف في شؤونه، والمتصف بصفات الكمال والجلال.
 
والأصول الكلية التي يتأسس عليها الإيمان بوجود الله وكماله متعددة، وأهمها:

 

الأصل الأول: أن الإيمان بالله ضرورة عقلية وفطرية:

 

ومعنى هذا الأصل أن الإيمان بوجود الله وربوبيته للكون ليس مجرد قضية عاطفية، لا تقوم على أسس استدلالية، وليس مجرد تجربة نفسية عرفانية، لا تستند إلى برهان موضوعي، وإنما هو حقيقة معرفية تصديقية، يقينية، تنبع من غريزة باطنية، وتقوم على أسس عقلية أصيلة، وتنطلق من براهين علمية يقينية، وترتبط بمبادئ فطرية جلية، يخضع لها العقل السليم، ويقر بصحتها.
 
فالله تعالى قد خلق كل إنسان خلقة تقتضي الإقرار بأن له خالقًا وموجدًا ومدبرًا، وتستوجب الإيمان بوجود الله وخلقه ومعرفته، وهي الغريزة ذاتها التي يفرق بها الإنسان بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والنافع والضار، والحسن والقبيح، وهي الغريزة ذاتها التي يدرك بها الإنسان بأن لكل حادث سببًا، وأن الكل أعظم من الجزء، فكل هذه الأمور قوى غريزية جعلها الله في داخل كل إنسان.
 
وقد أقام المؤمنون بالله أدلة كثيرة تثبت صحة معتقدهم في وجود الله وخلقه للكون، وكل تلك الأدلة مرتبة بمبدأ عقلي فطري ضروري، وهو مبدأ السببية، الذي يعني أن لكل حادث محدثًا، ولكل مسبب سببًا، وأنه لا يمكن وجود شيء بعد عدمه بدون أن يكون له فاعل نقله من العدم إلى الوجود.
 
وقد تنوعت الدلالات الوجودية التي تعتمد على هذا المبدأ، فبعضها راجع إلى أصل خلق الكون وإيجاده من العدم، وبعضها راجع إلى إتقان خلقة الكون وإحكام قوانينه بعد وجوده.
 
فإيمان المؤمن بوجود الله يستند إلى أصول عقلية بدهية، غائرة في النفس البشرية، ومتأصلة فيها، لا يمكن الانفكاك عنها بحال. ولأجل عمق إيمان النفس الإنسانية بمبدأ السببية وعظيم تأثيره فيها، كان الإيمان بالله تعالى أمرًا فطريًا مطبوعًا في الكيان الإنساني؛ فالإنسان السوي الفطرة الذي لم يتعرض للمؤثرات الخارجية لا يجد في نفسه حاجة إلى البحث عن الدليل المثبت لوجود الله؛ لكونه يجد ذلك مستقرًا في نفسه.
 
فالإيمان بوجود الله لا يختلف من حيث مبدأ الفطرية عن إيمان الناس بالمبادئ الفطرية الأخرى، كالإيمان بأن الجزء أصغر من الكل، وأن الواحد أقل من العشرة، ونحوهما.

 

الأصل الثاني: أن الإيمان بالله ضرورة معرفية:

 

ومعنى هذا الأصل أن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن يقوم لها نظام ولا يستقيم لها قانون ولا يصلح لها حال ولا ينضبط لها استدلال إلا مع الإيمان بالله.  
 
فلا أحد من العقلاء يعارض في أن الحياة الإنسانية لا تنتظم ولا تستقيم إلا بالمعرفة الصحيحة المنضبطة في تصوراتها ومنهج البحث والاستدلال فيها، ومتى ما وقع الخلل في التصورات المعرفية، أو في مسالك الاستدلال، ستفسد الحياة الإنسانية لا محالة، ويعتريها الشك والاضطراب، وستفسد جميع التعاملات الحياتية مع ذلك.
 
وإذا ثبتت أهمية انضباط المعرفة الإنسانية، وضرورة اتساق مسالك الاستدلال فيها، فإن ذلك لا يتحقق إلا بوجود الضرورات العقلية، وسلامتها من الخدش والاضطراب؛ لكون العلوم التي يحصلها الإنسان في حياته بطريق الخبرة والتجربة والتأمل لا بد لها من أصول تستند إليها، وهي المبادئ الضرورية، فإن فسدت تلك المبادئ أو اضطربت؛ فسيدخل الخلل في المعارف النظرية ويدخلها الفساد، فمن المعلوم أن المعارف البشرية لا يمكن أن تكون كلها ضرورية، بحيث تكون حاصلة في النفس من غير اكتساب ولا نظر، فهذا باطل مخالف لواقع الناس.
 
ولا يمكن أيضًا أن تكون كلها نظرية، بحيث يكون إثبات كل المعارف البشرية عن طريق النظر والاكتساب، فيكون إثباتها عن طريق غيرها؛ ﻷن هذا يؤدي إلى أحد أمرين ممتنعين؛ وهما إما التسليل أو الدور، والمراد بالتسلسل هو ترتب أمور على أمور إلى غير نهاية، والمراد بالدور: هو توقف الشيء على  ما يتوقف عليه ذلك الشيء.
 
وبيان ذلك: أن المعارف النظرية لا بد لها من مستند تستند عليه في إثبات صدقها؛ إذ هذا هو معنى كونها نظرية، وهذا المستند لا يخلو إما أن يكون نفس القضية النظرية التي يراد إثباتها، وإما أن تكون قضية أخرى. فإن كانت هي نفسها فهو باطل؛ ﻷنه يؤدي إلى الدور الممتنع، وهو إثبات الشيء بنفسه، فلا بد أن يكون مستند صدق القضية النظرية قضية أخرى.
 
وإذا كان المستند قضية أخرى، وقد فرضنا أنها نظرية، فهي تحتاج إلى مستند آخر، وهكذا إلى غير نهاية، وهذا هو التسلسل الممتنع، ونهاية هذا عم العلم اليقيني.
 
فتحصل أن المعارف البشرية لا يمكن أن تكون كلها ضرورية، ولا يمكن أن تكون كلها نظرية، فلا بد إذن من التسليم بأن بعضها ضروري وبعضها نظري.
 
وفي بيان ضرورة انقسام المعارف إلى هذين القسمين، يقول ابن تيمية:

 

البرهان الذي ينال بالنظر في العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية، فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري؛ إذ المقدمات النظرية لو أثبتت بمقدمات نظرية دائمًا لزوم الدور القبلي، أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء، وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء.
 
فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر؛ إذ لو كانت تلك المقدمات أيضًا نظرية لتوقفت على غيرها، فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان، والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن، والعلم الحاصل في قلبه حادث، فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله للزم أن لا يحصل في قلبه علم ابتداء، فلا بد من علوم بديهية أولية يبتدئها الله في قلبه، وغاية البرهان أن ينتهي إليها (1)

 

وإذا ثبت أن المعرفة الإنسانية لا بد فيها من الاستناد إلى الضرورات العقلية التي ينتهي إليها الاستدلال؛ فإن ثبوت تلك الضرورات في الواقع لا يمكن تصوره إلا مع وجود المطلق؛ لكون الضروريات لا تكون إلا مطلقة، والمطلق لا يثبت إلا بالمطلق؛ فالنسبي لا يمكن أن يكون مستندا لثبوت المطلق؛ ﻷن فاقد الشيء لا يعطيه لغيره، ولا يوجد مطلق في الوجود إلا الله تعالى، والمنكر لوجود الله لا يمكنه أن يسلم بوجود المعاني المطلقة؛ ﻷن كل ما يحصل بحسه وعقله الإنساني القاصر لا يكون إلا نسبيًا.
 
وأما المطلقات الضرورية التي يدركها بعقله فجنسها من خلق الله وفطرته التي فطر الناس عليها، فهي أصل كل ما يحصله الإنسان من المعارف في حياته، ولولا وجود تلك المبادئ المطلقة لما استطاع الإنسان أن يبني التصورات الكلية عن الموجودات، ولما استطاع أن يصل إلى اليقين في معارفه.
 
فثبت أن وجود الله والإيمان بخلقه للكون هو الأساس الأولي الذي تقوم عليه المعرفة الإنسانية، والضمانة التي لا استقرار للنظام المعرفي ولا انضباط له إلا بوجودها، ولا يمكن للمرء أن يسلم من التناقض المغرفي إلا به.

 

الأصل الثالث: أن الإيمان بالله ضرورة نفسية:

 

ومعنى هذا الأصل: أن الإنسان لا يمكن أن تستقر نفسه، وتهدأ روحه إلا مع الإيمان بوجود الله، الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده.
 
ووجه ذلك: أن كل إنسان لا بد أن يكون مريدًا قاصدًا، ولا يمكن أن يخلو من الإرادة والقصد بحال، بل خلوه من هذه الخاصية محال، لكون الشعور والإرادة من لوازم الحقيقة الإنسانية، فلا يتصور أن يوجد إنسان لا إرادة له البتة.
 
والإرادة والقصد لا تتصور إلا مع وجود متعلق مراد ومقصود، ولكن المرادات لا تخلو من حالين: إما أن تكون مرادات لغيرها، وإما أن تكون مرادات لذاتها، ولا بد للإرادة الإنسانية أن تنتهي في تعلقها إلى مراد لذاته؛ لأن تعلقها بشيء مراد لغيره، يجعلها في قلق مستمر وبحث دائم وتطلب مؤبد للمنتهى الذي تنبع منه كل المرادات والتعلقات.
 
وإذا ثبت ذلك فإنه لا يمكن أن يكون المخلوق مرادا لذاته؛ ﻷن وجوده ليس من ذاته، فقد كان معدومًا ثم وجد، وسيلحقه العدم بعد وجوده، فلم يبق إلا أن المراد لذاته يجب أن يكون قديمًا مستقلًا في وجوده عن غيره، مستغنيًا بنفسه غير محتاج لغيره، ولا يوجد من يتصف بذلك إلا الله تعالى فدل على أن الإيمان بوجود الله ضرورة نفسية إنسانية.
 
وفي بيان هذه الحقيقة يقول ابن تيمية:

 

"النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة، بل هذا الخلو ممتنع فيها، فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها، ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرة مريدة.. ولهذا ذكر، صلى الله عليه وسلم، أن أصدق الأسماء حارث وهمام، وهي حيوان، وكل حيوان متحرك بالإرادة، فلا بد لها من حركة إرادية، وإذا كان كذلك، فلا بد لكل مريد من مراد، والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه، فيمتنع أن تكون جميع المرادات مرادات لغيرها، فإن هذا تسلسل في العلل الغائية وهو ممتنع، كامتناع السلسل في العلل الفاعلية، بل أولى. وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهذا هو الإله الذي يألهه القلب، فإذا لا بد لكل عبد من إله، فعلم أن العبد مفطور على أن يحب إلهه"(2)

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. دراء تعارض العقل والنقل 309/3
  2. درء تعارض النقل والعقل 464/8

 

المصدر:

  1. د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ص15

 

 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان #إثبات-وجود-الله
اقرأ أيضا
الإنسان المترقب وأزمة ترحيل المهام | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإنسان المترقب وأزمة ترحيل المهام


الإنسان المترقب قد يكون يرفل في ربيع العمر ويحرق سنواته الذهبية بلا مبالاة من يشعل سيجارة لصديق وضع يده على جيبه ولم يجد ولاعته وأخذ ينفث الزمن في الهواء الإنسان المترقب حدث تحول مهم في حياته كان يتابع الجدل والردود المتبادلة ونقائض التيارات عبر المنتديات الإلكترونية ثم صار اليوم يتابعها عبر شبكات التواصل هذا كل ما في الأمر

بقلم: إبراهيم السكران
460
إعادة تفسير الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

إعادة تفسير الإسلام


تعليق: يدور الحديث في هذا المقتطف حول التيار الإصلاحي الذي خرج من مدرسة الإمام محمد عبده والذي انتهى به الحال في النهاية إلى التلبس بمضامين علمانية وإن قيلت بعبارات إسلامية وهذا المقتطف للكاتب والمؤرخ الكبير المهتم بشؤون الشرق: ألبرت حوراني

بقلم: ألبرت حوراني
1996
الزهد: بين ما نؤمن به وما نعيشه | مرابط
فكر

الزهد: بين ما نؤمن به وما نعيشه


هل تريد أن نستمتع بالدنيا بدرجة من الرفاه والعلو؟ هل تريد أن تمتلك الدنيا بيديك وفي جيبك وتزهو يمنة ويسرة؟ قد لا يكون هذا حراما إذا أخذت حيطتك من الحرام والعلو في الأرض. لكن عليك أن تقر بمنزلة أخرى هي خير من منزلتك فأنت تنكرها. أنت تنكر أن يكون بعض الزهد هو هجر متاع الدنيا وعدم تملكه من الأساس. وبناء عليه تقول لتصرفات بعض الزهاد: إنهم متنطعون.. متشددون.. يحرمون زينة الله التي أخرج لعباده..

بقلم: خالد بهاء الدين
379
آثار مفهوم النسوية على الأديان ج2 | مرابط
النسوية

آثار مفهوم النسوية على الأديان ج2


آثار مفهوم النسوية في مجالات الدين الإسلامي لقد ظهر تأثر النسوية العربية والإسلامية بالنسوية الغربية جليا واضحا في دعوتها إلى التعامل مع القرآن الكريم بنفس الآليات التي تعاملت فيها النسوية الغربية مع الكتاب المقدس

بقلم: أمل بنت ناصر الخريف
520
الشعر الجاهلي واللهجات ج1 | مرابط
مناقشات

الشعر الجاهلي واللهجات ج1


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها من فساد وتخريب وبين يديكم مقال يناقش موضوع الشعر الجاهلي واللهجات وما قاله طه حسين بخصوص ذلك ثم الرد عليه

بقلم: محمد الخضر حسين
714
جمالية الأمومة | مرابط
مقالات المرأة

جمالية الأمومة


الأمومة في الإسلام مفهوم خاص وكذلك سائر مفاهيم الأسرة كالأبوة والبنوة والعمومة والخؤولة ... إلخ. يخطئ من يظن أن تلك المصطلحات كما وردت في النصوص الشرعية من كتاب وسنة هي بالمعنى البيولوجي التناسلي فقط! كلا! إنها مفاهيم تعبدية! فالأبوة بالمعنى الجنسي أو الأمومة بالمعنى التناسلي كلاهما مفهوم بيولوجي له دلالة جنسية يشترك فيها بالتساوي الإنسان مع سائر البهائم والحيوانات الأهلية والوحشية!

بقلم: فريد الأنصاري
458