المجتمعات الغربية مجتمعات فقدت المعنى، ومن قبل فقدت الميتافيزيقا وأي يقين معرفي، فسقف الإنسان هو السقف المادي. والهدف من العالم المادي هو الاستهلاك ومزيد الاستهلاك، ومن الواضح أن الاستهلاك لا يصلح أن يكون هدفا في الحياة الإنسانية، لأن الإنسان كائن مركب نبيل يحتاج إلى شيء آخر غير هذا السقف المادي. ومع غياب المعنى تغيب مقدرة الإنسان على الحب، لأن الإنسان لا يمكن أن يحب الآخر إلا إذا كان هناك معنى لحياته وهدف لها ورؤية للمستقبل ورغبة في التواصل مع الآخر ومشاركته. والعالم المادي عالم متغير، في صيرورة مستمرة، ولذا لا يمكنه أن يزود الإنسان بأي يقين. في غياب المعنى واليقين لا يمكن أن نحب، يمكن أن تشتهى الآخر أو تصارعه أو تفترسه.
وأعتقد أن الممارسات الجنسية المتطرفة هذه هي في جوهرها بحث عن المعنى في عالم لا معنى له، بحث عن الفردوس في عالم لا يوجد فيه فردوس. ما يجري بحث عن يقين في عالم لا يقين فيه. ولذا هو ممارسة جنسية غير عادية. فمثلا قاموا بعمل إحصائية عن أحد أشهر الملاكمين فوجدوا أن معدل ممارسته الجنسية هو بنتان ونصف في اليوم، هذا معدل مرتفع للغاية؛ فمن يضاجع ثلاث إناث في يوم واحد لا يبحث عن إشباع جنسين وإنما عن شيء آخر.
من المعتاد في الولايات المتحدة الأمريكية أن الرجل عند عودته إلى منزله منهك القوى يتناول كأسًا أو كأسين فترتخي أعصابه وينام، أو في الحفلان يشربون كأسًا أو اثنتين وتسمى الخمر في ذلك الإطار "شرابا اجتماعيا" لكن أن يتجرع الإنسان مثلا عشرين كأسًا كل يوم فإن القضية تتحول من كونها مجرد تجرع كأس أو كأسين من الخمر إلى قضية ذات أبعاد فلسفية.
قضية البحث عن المعنى وعن اليقين توجد في خمريات عند أبي نواس وغيره. الخمر هنا ليست مجرد سائل أصفر يشربه الإنسان فيذهب وعيه ويستيقظ في اليوم التالي عنده صداع خفيف ليستأنف حياته، وإنما هي جزء من فلسفة كونية وتعبير عن إحساس عميق بالغربة والوحدة والخوف من العدم من جانب إنسان فقد الييقين والمعنى، وفقد الطمأنينة والمقدرة على التواصل.
إنها قضية إنسان فقد المعنى في العالم فأغرق ذاته في الخمر. أنا أعتقد أن الجنس هو الشيء نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية، هو رغبة الإنسان في أن يجد معنى في حياته وأن يتواصل مع الآخر في مجتمع فقد الإحساس بالمعنى ولا يسمح بالتواصل الدائم، فهو مجتمع في حالة حركة، جعل الهدف من الحياة الاستهلاك والربح. وكذا فالتواصل مع الآخر لا بد أن يتم في الإطار نفسه، داخل الإطار المادي، أي التواصل من خلال الجسد؛ فالجسد يدركه المرء بالحواس الخمس، ويزوده بيقين ومعنى مؤقتين تحت السقف المادي.
المصدر:
عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج، ص124