الدعوة إلى الحق

الدعوة إلى الحق | مرابط

الكاتب: عبد الرحمن بن ناصر السعدي

7877 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هذه كلمة يستلذُّ لها كل سامع، ويأنس بها كلُّ متوحِّش نافر، وتُوزن بها المذاهب والمقالات، وينقاد لها كل منصف قصده طلب الحقيقة، ويدَّعيها كلُّ أحد محقٌّ أو غير محقٍّ، ولكن لكل حقٍّ حقيقة، ولكل دعوى برهان، { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 111].
 
فالله هو الحقُّ، ودينه حقٌّ، وكتبه المنزلة من السماء حقٌّ، ورسله حقٌّ، ووعده ووعيده حقٌّ، وماذا بعد الحقِّ إلا الضلال؟ والحق هو الشيء الصحيح الثابت، والشيء النافع، الذي له النتائج الطيبة، والثمرات الصالحة المصلحة.
 

الله هو الحق ورسله صادقون مصدقون

الله تعالى هو الحق الذي قامت الأدلة العقلية والنقلية على وحدانيته، وعظمته، وسعة أوصافه، وكماله المطلق الذي لا غاية فوقه، الذي لا يستحق العبادة والحمد والثناء والمجد إلا هو. ودينه هو الحق الذي دارت أخباره على الحقائق الصادقة، والعقائد النافعة، المصلِحة للقلوب والأرواح، وأحكامه على العدل المتنوع في العبادات والمعاملات في أداء حقوقه، وحقوق الخلق، باختلاف أحوالهم، وحقوقهم ومراتبهم { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [الأنعام: 115]. صدقًا في إخبارها، عدلًا في أحكامها وأوامرها ونواهيها.

ورسله – صلوات الله وسلامه عليهم – صادقون مصدَّقون، قد تحلَّوْا بأعلى الفضائل وأكمل الصفات، وقد تخلَّوْا عن كلِّ خلق دنيء ووصف ناقص. وقد دلَّت البراهين القواطع على صدقهم، وصحة ما جاءوا به، كما دلَّت على بطلان ما ناقض هذه الأصول، التي تأسَّست عليها الحقائق.

 

الدعوة إلى هذه الأصول

فالدعوة إلى هذه الأصول هي الدعوة إلى الحق { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33]. { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125]. { قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [يوسف: 108]. فالدعوة إلى الحق هي أفرض الفروض، وأكمل الفضائل، وصاحبها مبارك أينما كان على نفسه وعلى غيره، وخصوصًا إذا دعا نفسه قبل غيره، واتصف بما دعا إليه كما في الآية السابقة وهي: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33]. فهذا لا أحسن قولًا منه، ولا أكمل منه؛ لأنه دعا الخلق إلى الله، وقام بما دعا إليه، وانقاد للدين والطاعة من كل وجه.
 
وقد أمر تعالى بالدعوة إلى سبيله، وهي طريقة الرسول ودينه الذي هو الصراط المستقيم بالحكمة أي: بكل دعوة وكل وسيلة يحصل بها المقصود كله أو بعضه، وذلك متوقف على علم الداعي، ومعرفته، وبصيرته، ولا يكفي هذا حتى يعرف كيف الطريق إلى دعاية الخلق، وكيف سلوك الوسائل التي يتوصل بها إلى إيصال الحق إلى القلوب بالعلم والرفق واللين.
 

أحسن وسائل الدعوة

وأحسن الوسائل إلى ذلك وأنجحها السبل التي دعا الرسل إليها قومهم- أولياءهم وأعداءهم- فإنهم يدعون إلى الله بتوضيح الحق وبيان أدلته وبراهينه، وإبطال ما يناقضه؛ يدعون كل أحد بما يناسب حاله ويليق بمقامه، فالمستجيبون القابلون لما جاءوا به، الذين ليس عندهم معارضات لما جاءت به الرسل، يبينون لهم الحق، ويخبرونهم بمواضع مراضي الله ومواطن سخطه، فإن ما معهم من الإيمان الصادق، والانقياد الصحيح، والاستعداد لطلب الحق، أكبر داع إلى سلوك سبيله إذا بان، والانقياد له إذا اتضح؛ ولهذا يخبر الله في كتابه في- عدة آيات- أنه { هدى ورحمة للمؤمنين}، و{ هدى للمتقين}، و{ هدى ورحمة لقوم يوقنون} لأن هؤلاء لا يحتاجون إلى مجادلة، فعندهم الاستعداد الكامل لسلوك الصراط المستقيم؛ وهو الإيمان واليقين بصحة ما جاء به الرسول وصدقه.
 
وأما أهل الأغراض والأهواء المانعة من أتباع الحق، فإنهم يدعونهم مع التعليم والتوضيح للحقائق، بالموعظة الحسنة؛ بذكر ما في الأوامر من المصالح والخيرات، والثمرات العاجلة والآجلة.
 

المعارضون والمعاندون

وكانوا يجادلون المعارضين والمعاندين بالتي هي أحسن من الترغيب والترهيب؛ في اتباع الحق، بذكر فضائله ومحاسنه، والترهيب من الباطل، بذكر مضاره ومساوئه، وإقامة الأدلة والبراهين المقنعة على ذلك، بحسب الحال والمقام، وذلك كله بالرفق واللين؛ وعدم المخاشنة المنفرة؛ لأن الغرض المقصود نفع الخلق، وردهم عما هم عليه من الباطل، قال تعالى لموسى وهارون: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه: 43-44]. وفسَّر ذلك بقوله:
{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى }[النازعات: 17-19]. فتأمل حسن هذا الخطاب ورقته ولينه.
 
وكانوا مع هذا كله يصبرون على أذاهم، ويتحملون من المخالفين المعارضين ما لا تحمله الجبال الرواسي، ويستعينون بالله على هدايتهم بالحلم والعفو والصفح، ومقابلتهم بضد ما يقابلونهم به، لعلمهم أن العقائد الراسخة في القلوب لا تزحزحها مجرد الدعوة ومجرد النصيحة، بل لابد من الصبر والعفو والتأني، والتنقل مع المخالفين شيئًا فشيئًا.
 

حسن دعوة النبي

وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع ذلك؛ وحسن تعليمه ودعوته وصبره الذي فاق به جميع الرسل؛ يعطي المؤلفة قلوبهم شيئًا من الدنيا؛ لأنهم إذا كرهوا هذا مالوا إلى هذا، ويبقى سادات العشائر على مراتبهم ورياستهم في قومهم، ويأمر رسله بالدعوة إلى الأهم فالأهم، كما قال لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن داعيًا ومعلمًا: ( إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم إلى فقرائهم).
 
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو كلَّ أحد بحسب ما يناسب حاله ويليق به، ويلاطف الضعفاء من الجهال والنساء والصبيان؛ ترغيبًا لهم في الخير، وترهيبًا لهم من الشر.
 
فمتى كانت الدعوة إلى الحق على هذا الوصف الجميل، كان لها موقعها الأكبر، وتأثيرها الجميل، ومنفعتها العظيمة، وأجرها الكثير. والله الموفق.

 


 

المصدر:

  1. (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة) (1343هـ - 1383هـ) جمع وترتيب: أحمد الجماز و عبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء – الرياض، ط1: 1431هـ. (1/271)
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الدعوة-إلى-الحق
اقرأ أيضا
مضاهاة الخلق | مرابط
اقتباسات وقطوف

مضاهاة الخلق


يستطيع الإنسان على فعل الكثير من الأشياء في الحياة الدنيا ولكنه يعجز عن مضاهاة خلق الرحمن وتلك من الحجج التي جاءت في القرآن الكريم وكان بها التحدي لأمم المشركين والكافرين وبين يديكم مقتطف من كتاب النبأ العظيم عن عجز مضاهاة الخلق

بقلم: محمد عبد الله دراز
692
اجتلاء العيد | مرابط
مقالات

اجتلاء العيد


جاء يوم العيد يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم. زمن قصير ظريف ضاحك تفرضه الأديان على الناس ليكون لهم بين الحين والحين يوم طبيعي في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها. يوم السلام والبشر والضحك والوفاء والإخاء وقول الإنسان للإنسان: وأنتم بخير. يوم الثياب الجديدة على الكل إشعارا لهم بأن الوجه الإنساني جديد في هذا اليوم. يوم الزينة التي لا يراد منها إلا إظهار أثرها على النفس ليكون الناس جميعا في يوم حب.

بقلم: مصطفى صادق الرافعي
452
المعاصي تنسي الله | مرابط
اقتباسات وقطوف

المعاصي تنسي الله


ومن عقوباتها المعاصي: أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه وهنالك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة وأعظم العقوبات نسيان العبد لنفسه وإهماله لها وإضاعته حظها ونصيبها من الله وبيعها ذلك بالغبن والهوان وأبخس الثمن فضيع من لا غنى له عنه ولا عوض له منه واستبدل به من عنه كل الغنى أو منه كل العوض

بقلم: ابن القيم
246
الوسواس القهري في باب العقيدة | مرابط
مقالات

الوسواس القهري في باب العقيدة


الوساوس القهري هو: تصورات كفرية على شكل أفكار قهرية تقفز فجأة إلى عقلك فهي أفكار لا تحتمل تجعل صاحبها يظن أنه قد هلك.. وبين يديكم 12 قاعدة لابد أن يحفظها المبتلى بالوسواس القهري في العقيدة بقلم الدكتور هيثم طلعت

بقلم: هيثم طلعت
796
طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج1 | مرابط
تفريغات

طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج1


من أساليب أهل البدع في إثبات بدعهم وما أحدثوه في الدين هو تحريف آيات الكتاب وأحاديث السنة إما بلي أعناقها لإثبات مقصودهم وأهوائهم أو بتفسيرها بما يسمى عندهم بالتفسير الباطني أو تحريف الأحاديث بذكر زيادات لم تصح وغير ذلك وقد تصدى أهل العلم لهذه التحريفات بفضل الله فقاموا بتفنيد هذه الشبه وفضح أهل البدع بكل ما أوتوه من قوة وبيان

بقلم: أبو إسحاق الحويني
976
باب الصفات: بين عقيدة السلف وتحريف الجهمية | مرابط
أباطيل وشبهات

باب الصفات: بين عقيدة السلف وتحريف الجهمية


وما قرره الإمام الترمذي هنا وحكاه عن علماء أهل السنة من إثبات صفات الله تعالى وعدم التعرض لكيفيتها مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات فهو الحق الذي تلقوه عمن قبلهم من سلف الأمة وإنما يكون أثباتها مع العلم بمعانيها وأما دعوى اثبات الصفة دون العلم بمعناها فقول متناقض مضطرب لا يحتمله منهج السلف ولا تأتي به اللغة ولا يقوم بعقل عاقل.

بقلم: عبد الله القرني
353