هل حدث مع أحدنا من قبل بعد مشاهدة التلفزيون أن أصيب عقله بحالة ضبابية -كتلك التي تُصيب الإنسان عندما يظل مركزًا بصره (سرحان) في شيء ثم فجأة ينتبه لشيء- حيث تشعر أنك فقدت الإحساس بالزمن، ونسيت من أين بدأت المشاهدات، ومتى جلست، ثم شعرت أن عقلك يقوم بإعادة تشغيل، بعدها تتذكر بالتدريج ما حدث.
لست وحدك الذي شعر بمثل هذا الشعور، والسبب حسب ما قال هربرت كرجمان وتوماس مولهولاند أننا عندما نجلس لمشاهدة التلفاز ينتقل المخ خلال 30 ثانية من وضعية أمواج بيتا التي يكون عليها العقل عند القراءة ومحاولة التفكير العقلاني إلى وضعية أمواج ألفا، وهي وضعية نصف الوعي، وحالات الاسترخاء الشديدة، وقبل الدخول في النوم.
بالإضافة لذلك؛ فإن القسم الأيسر من المخ وهو المسؤول عن العمليات التفكيرية يدخل في شبه عملية انتظار، أما القسم الأيمن من المخ المسؤول عن المشاعر وعن العمليات التي لا تحتاج إلى كامل الوعي يصبح نشطا.
لذلك لا تجد أحدًا قد يصيب عقله التعب من مشاهدة الأفلام والبرامج التي يحب، وإن مرت عليه ساعات وهو في حالة المشاهدة، وذلك لأن وضعية العقل تكون في حالة نصف الوعي، على عكس القراءة التي إذا ما تجاوز المرء فيها الساعة أو الاثنين بدأ الشعور بالإرهاق، وربما أحس بثقل في دماغه.
تؤكد هذه التجربة التي قام بها كرجمان على أن أغلب أجزاء المخ المسؤولة عن التفكير المنطقي تتوقف عن أداء عمليها.
وعلى هذا؛ فإنه من الصعب جدًا -أو من المستحيل- أن يعتقد أحد أن الإصلاح من خلال شاشة التليفزيون قد يكون ممكنًا، حيث إن وضعية العقل لا تسمح بذلك، فبالتالي قام النظام باستخدام هذه الشاشة لإقناع الناس أنه يمكنهم استقاء المعلومات وتقوية الثقافة وفهم ما يدور داخل الدولة وخارجها من خلال مشاهدة التلفاز، وهم في الحقيقة أشبه بالنائم اليقظان.
إن قضاء الكثير من الوقت أمام شاشة التلفزيون يصيب العقل بنوع من الخمول، فالشخص الذي يُكثر من مشاهدة التلفزيون تجده ثقيلًا بطيء الحركة، ويميل بشدة إلى أحلام اليقظة، ويتعب من إعماله لعقله، وسرعان ما يفقد التركيز.
ومن هنا أثبتت أحد أهم الدراسات التي ناقشت علاقة العقل بالوسائل الإعلامية: أن العقل هو الذي يتحكم بالمادة المقروءة، بينما التلفاز هو الذي يتحكم بالعقل.
هذه الدراسة تم نشرها عام 1971 وهي عبارة عن دراسة قام بها كروجمان عام 1965 عن مدى تأثير وسائل الإعلام على العقل.. حتى على مستوى الألفاظ نجد أن الدراسات المبتعدة عن السطحية في التعامل مع التلفزيون تثبت أن التعرض بكثرة له يؤثر على المشاهدين من خلال فقدهم للمهارات اللفظية التي يتطلبها مجتمع المتعلمين، وكذلك فإن الأطفال الذين يتعرضون لمشاهدة التلفاز بكثرة قد أظهروا مستويات لغوية متدنية.
إن هذه النتيجة الحتمية لمشاهدة التلفزيون، فإن جهازا كهذا يقضي على القدرة العقلية تماما فيما يتعلق بالفكر أو الثقافة، إن غالبية الجماهير المتابعة للتلفزيون تجد أفكارهم سطحية إلى حد بعيد على عكس الذين يعتمدون بالكلية على الكتب، فيما يتعلق بالمعلومات أو الثقافة.
وكما سبق أن أي أداة تجعل الفرد تحت المستوى الفكري المطلوب لمساءلة السلطة، ويبدو أن التلفزيون هو خير وسيلة لتحقيق ذلك الأمر.
فبالتالي: نجد أن التلفزيون هو أحد أهم أدوات النظام، فمهما تطورت وسائل الاتصال، وظن البعض أن facebook أو twitter أو youtube هم الوسائل الأكثر تطورًا، ستبقى الحقيقة أن كل هذه الوسائل تعتمد على التفلزيون مصدرها الأول للخبر، وذلك لأن التلفزيون هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن المنظومة أنها عند كل طبقات الشعب على عكس بقية الوسائل التي تستخدمها بعض الطبقات دون غيرها، فقد تمر على أحد الفقراء الذين يتكون بيتهم من أربع ألواح معدنية لا تتعدى المساحة بداخله العشر أمتار، وليس عندهم مصدر للمياه، ولا يمتلكون هاتفًا، ولكن ولا بد أن ترى فوق السقف المصنوع من الخوص صحن استقبال لإشارة الأقمار الصناعية
المصدر:
محمد علي فرح، الإعلام وضبط المجتمع، ص282