القدوة التربوية

القدوة التربوية | مرابط

الكاتب: مشاري الشثري

281 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يجعل الله تعالى كتابَه حجةً على قومٍ إلا برسولٍ يبعثه إليهم، يبلغهم البلاغَ القوليَّ بتلاوة آياته، والعمليَّ بتمثّل أحكامه .. فاصطفى - سبحانه - من الناس رسلًا كرامًا، حتى ختم الرسالات بمحمد عليه الصلاة والسلام، فبلَّغ البلاغَينِ وَفقًا لأمر ربه، فكان من بلاغة أم المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - حين سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ قالت: (كان خلقه القرآن).

لم يهنأ عليه الصلاة والسلام بنومٍ مذ تهادى إلى سمعه قول الحق تعالى: (قُمْ فأنذر) .. عَقدانِ من الزمان خلت معاجمها من تصاريف الراحة والسكون، فالعمل هو الحياة، وبعد الفراغِ النَّصَب، وإلى الله الرَّغب، فأنجبت تلك التربية النبوية جيلَ الصحابة، ثم هم رسموا شخوصَ التابعين، فحدَّثتنا سِيَرُهم ضِعفَ ما بُلِّغنا من قولهم.

وهكذا، ما زال الخالف يأخذ عن السالف .. وذِهِ التربية، تصنع المتربي لتجعل منه مربِّيًا، فإن استقامت استقام، وإن اعوجَّت اعوجَّ معها.

مسلك القدوة

إن للتربية أساليبَ وأدواتٍ متنوعة، غير أنها - كلَّها - تقصُرُ دون مسلك القدوة، ولما تمَّ صلحُ الحديبية أمر النبي عليه الصلاة والسلام صحابتَه - رضوان الله عليهم - بأن ينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم أحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فاغتمَّ حتى بثَّ ما أهمَّه لزوجه أم سلمة - رضي الله عنها -، فنطقت بلسان الحكمة وقالت: (يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرجْ ثمَّ لا تُكلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعوَ حالقك فيحلقك) فما هو إلا أنْ نَحَر بُدْنَه ودعا حالقَه فحلقه حتى قام الصحابةُ فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا.

ولـمَّا شكى الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم ما يعانونه من رَهَق الجوع، وحسروا عن بطونهم، فإذا الواحدُ منهم يربط حجرًا على بطنه من شدة ما يلاقي من الأسى، بينا هم كذلك إذ يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سِترَ بِطنِه عن حجرين! .. لا حاجة بعد ذلك إلى الكلام وإسداء الخطب.

والمربُّون هم في تربيتهم يُبلِّغون شُعَبًا من شعب هذا الدين، و(المنتصبُ للناس في بيان الدين منتصبٌ لهم بقوله وفعله، فإنه وارث النبي، والنبي كان مبينًا بقوله وفعله؛ فكذلك الوارث لا بد أن يقوم مقام الموروث)[1].

وها هنا جملةُ تقييدات تبحث جوانبَ من موضوع القدوة التربوية، منها:

المحافظة على القدوة

1. بقدر ما يتأكَّد على المربي أن يحافظ على جانب القدوة في تصرفاته فإن عليه أن يكون رساليًّا في هذه المحافظة، وذلك بأن يكون سعيُه لتجويد عمله بوصفه مربيًّا مقتدًى به = مقترنًا برغبة صادقة في تقويم ذاته أولًا، ثم مَن هم تحت يده من المربين، ولا يَكُنْ سعيه ذلك متكلَّفًا يمارس به دورًا وظيفيًّا منزوعَ الرساليَّة، فالمربي حين يخاطَب بأهمية القدوة ومركزيتها في العملية التربوية فإنه مطالبٌ بأن يصلح ذاته ظاهرًا وباطنًا، ليكون لذلك الإصلاح بذورٌ تنبت على محيَّا المربين ونسماتٌ تنطبع على أرواحهم، لا أن تكون غايته تحسين صورته وسمعته في عين وسمع المربِّين، وأثر هذا يستبين مع الأفعال العفوية التي يفرزها موقف طارئ، فيتمايز من كان تكوينه الذاتي مكينًا، وبين من رسم بريشة التكلُّف منصبه من الاقتداء .. نعم، ثمةَ قدرٌ من بلوغ مقام الاقتداء يُنال بتكلُّف الإصلاح، وأطر النفس على بعض الكمالات، لكن هذا التكلُّفَ والأطرَ مرحليٌّ يتجاوزه المربي ليكون ذلك له بعد زمنٍ سجيةً وسمتًا.

المربي عرضة للنقص

2. المربِّي كغيره عرضةٌ للنقص، وهو إنسانٌ يتديَّن على طباعِه، حسنِها وسيئِها، فمهما غالبَ طباعَه فلن تزال عالقةً به، وهو إنما يسعى في ترشيدها لا إزالتها، وإذا تقرَّر ذلك فالمربي القدوة لن يكون مثاليًّا في شتى جوانبه، وإذا علمنا أن العملية التربوية خليطٌ من المهارات والإمكانات، فإن المربي لن يبلغ الغاية في جميعها، وعليه فيمكننا أن نقرِّر بأن القدوة تتجزَّأ، فربما كان المربي قاصرًا في جانبٍ قدوةً في آخر، وهذا إذا فقهه المربي كان عونًا له على مداراة نفسه حين سعيه في إصلاحها وتدرُّجه في تقويمها، وإذا فقهه المتربي كان عونًا له في إفادته ممن تصدَّر لتحمُّل عناء تربيته، بالتأسِّي به في جوانب تميزه والإعراض عن نقائصه.

المحاضن التربوية

3. ثمة ما يمكن تسميته في المحاضن التربوية بـ (القدوة الجماعية)، وذلك أن المربي له صفات ذاتية خاصة به، وأخرى تتعلق بطبيعة علاقته مع غيره، وأخص بالحديث هنا علاقتَه ببقية المربِّين في المحضن، فالمتربون يلحظون من المربي جانبين من جوانب الاقتداء، جانب يتعلق بالمربي ذاته، وجانب يتعلق بعلاقة المربي بغيره من المربين، فقد يكون المربي صالحًا في نفسه متميزًا بإمكاناته بارعًا في تأثيره، لكن علاقته ببقية المربين علاقة مخدوشة تفتقر إلى التكامل في العمل، وربما تعدَّى تأثيره إلى بخس بقية المربين حقوقهم ومنجزاتهم، وهذا له تأثيره السلبي على المتربي، فبدل أن يستفيد المتربي من معالم التميز الموزعة على المربين جميعًا، نراه ينحاز لبعضهم مفضِّلًا لهم على غيرهم، وأصل المفاضلة مشروع، لكن القصد هنا المفاضلة التي ينبني عليها شعبةٌ من التحقير لمنجزات المفضول في نظره.
فعلى المربي أن يلحظ في تربيته مصلحة المحضن التربوي، لا مصلحته الشخصية، وهذا يستدعي منه نظرة تكاملية في طبيعة تربيته يوازن بها بين دوائر القدوة الفردية والجماعية.

قدوة للمربين

4.   كما يكون المربي قدوة لمن يربيهم، فكذلك ينبغي له أن يكون قدوة لسائر المربين، وهذا مجال تنافس بينهم في مجالات البذل والتضحية، فالمربي إذا كان قدوة للمتربي في سمته وخلقه وهمته العلمية والعملية، فهو قدوة للمربين في بذله وعطائه، وكم من مربٍّ نهض بعطائه بالمحضن كله، وهذا هو المربي الراحلة الذي وطِّئت أكنافه للعمل والمثابرة فكان مثالًا عزيزًا على الإصلاح التربوي.

هذه بعض متعلَّقات موضوع القدوة التربوية، والمجال رحب لكثير من الرؤى حول هذا الموضوع، وهو جديرٌ بالعناية من قِبَل المربين، نظرًا لتمثيله مركز التربية الميدانية.


الإشارات المرجعية:
[1] الموافقات للشاطبي (4: 87).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التربية #القدوة
اقرأ أيضا
شبهة حول ما ورد في القرآن عن خلق الإنسان | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة حول ما ورد في القرآن عن خلق الإنسان


يعطي القرآن معلومات مختلفة عن خلق الإنسان من ماء مهين 77: 20 1 من ماء 21: 30 من نطفة 36: 77 من طين 32: 7 من علق 96: 2 من حمأ مسنون 15: 27 ولم يك شيئا 19: 67 فكيف يكون كل ذلك صحيحا في نفس الوقت المقال الذي بين يدينا يقف بنا على هذا التساؤل أو هذه الشبهة ليرد عليها ويستوضح مكمن الخلل فيها

بقلم: محمد عمارة
2552
النسبية المعرفية والأخلاقية | مرابط
اقتباسات وقطوف

النسبية المعرفية والأخلاقية


في محاولة تفسير هذه الظاهرة وجدت أن النسبية المعرفية والأخلاقية التي كان من المفروض فيها أنها ستحرر الإنسان وتفسح له المجال لتأكيد فرديته أدت إلى العكس فالنسبية تنزع القداسة عن العالم الإنسان والطبيعة وتجعل كل الأمور متساوية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
424
فلسفة الصوم | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

فلسفة الصوم


الصيام عبادة مستغربة أو منكورة في جو الحضارة المادية التي تسود العالم إنها حضارة تؤمن بالجسد ولا تؤمن بالروح وتؤمن بالحياة العاجلة ولا تكترث باليوم الآخر ومن ثم فهي تكره عبادة تقيد الشهوات ولو إلى حين وتؤدب هذا البدن المدلل وتلزمه مثلا أعلى إن الأفراد والجماعات في العالم المعاصر تسعى راغبة لتكثير الدخل ورفع مستوى المعيشة ولا يعنيها أن تجعل من ذلك وسيلة لحياة أزكى وفي المقال يقف بنا الكاتب أمام فلسفة الصوم

بقلم: محمد الغزالي
1612
حقيقة الصوم | مرابط
اقتباسات وقطوف

حقيقة الصوم


وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون

بقلم: ابن القيم
346
عقيدة شاملة الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات

عقيدة شاملة الجزء الأول


تمتاز العقيدة الإسلامية بالشمول لكافة مناحي الحياة وكافة جوانب الإنسان وقد يقال أن إثبات هذه الشمولية يحتاج إلى بحث وتدقيق وتمحيص ولكننا نقول أن مجرد النظر إلى جنبات هذه العقيدة والشريعة يكفي للعيان وفي هذا المقال بجزئيه يكشف لنا الكاتب عباس محمود العقاد عن شمولية هذه العقيدة الساطعة

بقلم: عباس محمود العقاد
2051
الوكلاء المحليون للأكاديميا الغربية! | مرابط
فكر

الوكلاء المحليون للأكاديميا الغربية!


هراوة الموضوعية تكون في أشد حالاتها حين تسلط على نتاج الباحثين العرب أما حين تستقبل كعبة الأبحاث الأعجمية فثمة رسالية محببة عند بعضهم تفضي إلى الانتصار والدعوة لكل ما دون بأحرف غير عربية. إننا بإزاء حالة من التسويق الرديء بوكالات محلية لنتاج الأكاديميا الغربية لبواعث من أخصها النكاية بالنتاج العربي والاستطالة على الباحثين العرب .. حالة من الخنوع البحثي تبصر القذاة في عين الأبحاث العربية وتنسى الجذوع في أعين الأبحاث الأعجمية!

بقلم: مشاري الشثري
478