عقيدة شاملة الجزء الأول

عقيدة شاملة الجزء الأول | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

1966 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

يبدر إلى الذهن أن الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب، ولا بد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات، فليست هي مما يراه الناظر الوثني أو الناظر البدوي لأول وهلة قبل أن يطلع على حقائق الديانة، ويتعمق في الاطلاع.

ومن المحقق أن إدراك الشمول من الوجهة العلمية لا يتأتى بغير الدراسة الوافية والمقارنة المتغلغلة في وجوه الاتفاق ووجوه الاختلاف بين الديانات، وبخاصة في شعائرها ومراسمها التي عليها المؤمنون في بيئاتهم الاجتماعية.

ولكن الناظر القريب قد يدرك شمول العقيدة الإسلامية من مراقبة أحوال المسلم في معيشته وعبادته، ويكفي أن يرى المسلم مستقلًّا بعبادته عن الهيكل والصنم والأيقونة والوثن ليعلم أنه وحدة كاملة في دينه، ويعلم من ثم كل ما يرغبه في ذلك الدين أيام أن كان الدين كله حكرًا للكاهن، ووقفًا على المعبد، وعالة على الشعائر والمراسم مدى الحياة.
 

بيئة الإسلام

لقد ظهر الإسلام في إبان دولة الكهانة والمراسم، وواجه أناسًا من الوثنيين أو من أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود إلى حالة كحالة الوثنية في تعظيم الصور والتماثيل والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة، ولاح للناس في القرن السابع للميلاد خاصة أن «المتدين» قطعة من المعبد لا تتم على انفرادها، ولا تحسب لها ديانة أو شفاعة بمعزل عنه، فالدين كله في المعبد عند الكاهن، والمتدينون جميعًا قطع متفرقة لا تستقل يومًا بقوام الحياة الروحية، ولا تزال معيشتها الخاصة والعامة تثوب إلى المعبد لتتزود منه شيئًا تتم به عقيدتها ولا تستغني عنه مدى الحياة.

لا دين بمعزل عن المعبد والكاهن والأيقونة، سواء في العبادة الوثنية أو في عبادة أهل الكتاب إلى ما بعد القرن السابع بأجيال متطاولة.

فلما ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة، ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه يصلي حيث شاء، ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد الكهان، وهو مع الله في كل مكان، وأينما تولوا فثم وجه الله.

ويذهب المسلم إلى الحج فلا يذهب إليه ليستتم من أحد بركة أو نعمة يضفيها عليه، ولكنه يذهب كما يذهب الألوف من إخوانه، ويشتركون جميعًا في شعائره على سنة المساواة، بغير حاجة إلى الكهانة والكهان، وقد يكون السدنة الذين يراهم مجاورين للكعبة خدامًا لها وله يدلونه حين يطلب منهم الدلالة، ويتركهم إن شاء فلا سبيل لأحد منهم عليه.

فإذا توسع قليلًا في العلم بشعائر الحج علم أن الحج لا يفرض عليه زيارة قبر الرسول، وأن هذه الرسالة ليست من مناسك الدين، وأنها تحية منه يؤديها من عنده غير ملزم، كما يؤدي التحية لكل دفين عزيز محبوب لديه.

وإذا توسع قليلًا في مكان ذلك الرسول من الدين قرأ في القرآن الكريم: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ [الكهف: ١١٠، وفصلت: ٦].

وقرأ فيه: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [الشورى: ٤٨].

وقرأ فيه: قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور: ٥٤].

وقرأ فيه: وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ [ق: ٤٥].

وقرأ فيه: لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: ٢٢].

وقرأ فيه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: ٢٨].

وقرأ فيه آيات لا تخرج في وصف الرسالة عن معنى هذه الآيات.

 

رجال الدين والكهانة

مرَّ بنا أن فساد رجال الدين كان من أسباب انصراف أتباعهم عن دينهم، ودخولهم أفواجًا في عقيدة المسلمين.

مثل هذا لا يحصل في أمة إسلامية فسد فيها رجال دينها، فما من مسلم يذهب إلى الهيكل ليقول لكاهنه: خذ دينك إليك، فإنني لا أؤمن به، ولا أرى في سيرتك مصداقًا لأوامرك ونواهيك أو أوامره ونواهيه.

كلا. ما من رجل دين يبدو للمسلم أنه صاحب الدين، وأنه حين يؤمن بالله يؤمن به؛ لأنه إله ذلك الرجل الذي يتوسط بينه وبينه، أو يعطيه من نعمته قوامًا لروحه.

وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ ۖ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: ١٣–١٥].

نعم. كلهم فقراء إلى الله، وكلهم لا فضل لواحد منهم على سائرهم إلا بالتقوى، وكلهم في المسجد سواء، فإن لم يجدوا المسجد فمسجدهم كل مكان فوق الأرض وتحت السماء.
 

عقيدة المسلم

إن عقيدة المسلم شيء لا يتوقف على غيره، ولا تبقى منه بقية وراء سره وجهره، ومن كان إمامًا له في مسجده فلن ترتفع به الإمامة مقامًا فوق مقام النبي صاحب الرسالة: النبي الذي يبشر وينذر، ولا يتجبر ولا يسيطر، ويبلغ قومه ما حمل وعليهم ما حملوا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.

ومنذ يسلم المسلم يصبح الإسلام شأنه الذي لا يعرف لأحد حقًّا فيه أعظم من حقه، أو حصة فيه أكبر من حصته، أو مكانًا يأوي إليه ولا يكون الإسلام في غيره.
 

الروح والجسد

كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح، ولا يعاني هذا الفصام الذي يشق على النفس احتماله، ويحفزها في الواقع إلى طلب العقيدة، ولا يكون هو في ذاته عقيدة تعتصم بها من الحيرة والانقسام.

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص: ٧٧].

وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ۚوَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: ٤، ٣].

فإذا كانت العقيدة التي تباعد المسافة بين الروح والجسد تعفينا من العمل حين يشق علينا العمل -فالعقيدة التي توحد الإنسان وتجعله كلًّا مستقلًّا بدنياه وآخرته شفاء له من ذلك الفصام الذي لا تستريح إليه السريرة إلا حين تضطر إلى الهرب من عمل الإنسان الكامل في حياته، وحافز له إلى الخلاص من القهر كلما غلب على أمره، ووقع في قبضة سلطان غير سلطان ربه ودينه.
 

ما لله وما لقيصر

ومن هنا لم يذهب الإسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر؛ لأن الأمر في الإسلام كله لله بَل للهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا [الرعد: ٣١] وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: ١١٥]، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء: ٢٨].

وإنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين وهو قادر على تطويع قيصر لأمر الله، وهذا التطويع هو الذي أوجبته العقيدة الشاملة، وكان له الفضل في صمود الأمم الإسلامية لسطوة الاستعمار وإيمانها الراسخ بأنها دولة دائلة وحالة لا بد لها من تحويل.

وقد أبت هذه العقيدة على الرجل أن يطيع الحاكم بجزء منه ويطيع الله بغيره، وأبت على المرأة أن تعطي بدنها في الزواج لصاحبها وتنأى عنه بروحها وسريرتها، وأبت على الإنسان جملة أن يستريح إلى «الفصام الوجداني» ويحسبه حلًّا لمشكلة الحكم والطاعة قابلًا للدوام.
 

وحدة كاملة

إن هذا الشأن العظيم -شأن العقيدة الشاملة التي تجعل المسلم «وحدة كاملة»- لا يتجلى واضحًا قويًّا كما يتجلى من عمل الفرد في نشر العقيدة الإسلامية. فقد أسلم عشرات الملايين في الصحاري الأفريقية على يدي تاجر فرد أو صاحب طريقة متفرد في خلوته لا يعتصم بسلطان هيكل ولا بمراسم كهانة، وتصنع هنا قدرة الفرد الواحد ما لم تصنعه جموع التبشير ولا سطوة الفتح والغلبة، فجملة من أسلموا في البلاد التي انتصرت فيها جيوش الدول الإسلامية هم الآن أربعون أو خمسون مليونًا بين الهلال الخصيب وشواطئ البحرين الأبيض والأحمر، فأما الذين أسلموا بالقدوة الفردية الصالحة فهم فوق المائتين من الملايين، أو هم كل من أسلم في الهند والصين وجزائر جاوة وصحاري أفريقيا وشواطئها إلا القليل الذي لا يزيد في بداءته على عشرات الألوف.

وينبغي أن نفرق بين الاعتراف بحقوق الجسد وإنكار حقوق الروح، فإن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم إنكار الروحانية ولا الحد من سبحاتها التي اشتهرت باسم التصوف في اللغة العربية أو اشتهرت باسم «الخفيات والسريات» في اللغات الغربية Mysticism.

إذ لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح، وقد أشار القرآن الكريم إلى الفارق بين عالم الظاهر وعالم الباطن في قصة الخضر وموسى عليهما السلام، وذكر تسبيح الموجودات ما كانت له حياة ناطقة وما لم تكن له حياة: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: ٤٤]، وأشار إلى هذه الأشياء بضمير العقلاء، وعلم منه المسلمون أن الله أقرب إليهم من حبل الوريد، وأنه نور السماوات والأرض، وأنه هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: ٣].

وحسب المرء أن يتعلم هذا من كتاب دينه ليبيح لنفسه من سبحات التصوف كل ما يستباح في عقائد التوحيد، ولعله لم يوجد في أهل دين من الأديان طرق للتصوف تبلغ ما بلغته هذه الطرق بين المسلمين من الكثرة والنفوذ، ولا وجه للمقابلة بين الإسلام وبين البرهمية أو بين البوذية مثلًا في العقائد الصوفية. فإن إنكار الجسد في البرهمية أو البوذية يخرجهما من عداد العقائد الشاملة التي يتقبلها الإنسان بجملته غير منقطع عن جسده أو عن دنياه.

وحسب المرء أن يرضي مطالبه الروحية، ولا يخالف عقائد دينه؛ ليوصف ذلك الدين بالشمول، ويبرأ فيه الضمير من داء الفصام.

 


 

المصدر:

  1. عباس محمود العقاد، الإسلام في القرن العشرين، ص23
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عباس-العقاد
اقرأ أيضا
سورة الكهف .. سورة تأديب وتربية | مرابط
مقالات

سورة الكهف .. سورة تأديب وتربية


لا يمكن أن نغفل ما في قصص السورة من التصوير العظيم والسرد البديع لدقائق الوقائع حتى تشعر أنك مرافق لفتية الكهف في كهفهم والصاحب الثالث لصاحب الجنتين وثالث ثلاثة في رحلة موسى ويوشع بن نون -عليهم السلام- وجندي من جنود ذي القرنين وهذا يتجلى في تفاصيل كثيرة يضيق عنها المقام وأتركها لوجدانك!

بقلم: كريم حلمي
247
المسلم وشارة دعم اللوطية | مرابط
فكر الجندرية

المسلم وشارة دعم اللوطية


أي شيء في الدنيا.. أي مصلحة تلك التي تجعل مسلما يلبس إشارة دعم لمن يعملون عمل قوم لوط! أو يداهن في مثل ذلك أو يعتذر عن إغضابه لأهل القرية التي تعمل الخبائث. وكيف لمسلم أن يشاهد ويتابع ويعلق على مبارايات تروج لاستحلال الفواحش والمجاهرة بها .. الله الغني عن الكورة واللي جاب الكورة!

بقلم: حسين عبد الرازق
359
معركة النسيان والتذكر | مرابط
مقالات

معركة النسيان والتذكر


وداء النسيان هذا هو الذي قد يجعل الإنسان إذا نزل به البلاء انهمك في أسباب الدنيا وغفل عن الفرار إلى الله سبحانه وشكاية البث والحزن إليه! ومن ذلك أننا نؤمن بالجنة والنار لكن من آمن بذلك حق الإيمان كأنه رأي عين لم يعص الله سبحانه لكننا نعصي وذلك لأننا ننسى كما اشتكى حنظلة للنبي صلى الله عليه وسلم: عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيرا

بقلم: كريم حلمي
305
أساطير العهد القديم | مرابط
فكر مقالات

أساطير العهد القديم


يشتمل هذا المقال على مجموعة من الأخبار عن عدد بنى إسرائيل حين دخلوا مصر وحين خرجوا منها ويقف المؤلف على قدر من التزوير والتلفيق الموجود في التوراة هنا سنرى أساطير العهد القديم كما وردت في الكتاب وكيف تخالف أخبارهم بدائه العقول

بقلم: محمد الغزالي
1151
استفسارات الحرية | مرابط
مناقشات

استفسارات الحرية


هذا الكتاب الذي سماه مؤلفه فضاءات الحرية وهو دراسة تفصيلية غزيرة مليئة بالمناقشات والحجج والاستشكالات والإيرادات والشواهد والمعطيات حول الخطوط الفاصلة بين الحرية في التصور الإسلامي والحرية في التصور الليبرالي الغربي الحديث فالمؤلف بشكل عام- يبتدئ كل فصل بعرض ميادين الحرية الواسعة في الإسلام في هذا المجال ثم يتبعها بمناطق الاختلاف والتمايز عن الحرية الليبرالية الغربية في هذا الباب

بقلم: إبراهيم السكران
2326
لا تستعجل النتائج | مرابط
اقتباسات وقطوف

لا تستعجل النتائج


إن القرآن يوجه القلوب والعقول ألا تستعجل النتائج فهي لا بد آتية حسب السنة الماضية التي لا تتبدل وأعمار الأفراد ليست هي المقياس والجولة العارضة ليست هي الجولة الأخيرة قد ينتصر الباطل فترة من الوقت ويزدهر ويتمكن ويعلو في الأرض ولكن هذا ليس نهاية القول ولا نهاية المطاف إنه جزء من سنة الله المتشعبة الجوانب

بقلم: محمد قطب
735