الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج4

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج4 | مرابط

الكاتب: علي الصلابي

705 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

20 – الهجرة تضحيةٌ عظيمةٌ في سبيل الله:

كانت هجرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البلد الأمين تضحيةً عظيمةً، عبَّر عنها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله! إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرِجت منك ما خرجتُ» [أحمد (4/305) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108)].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لـمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ قدمها، وهي أوبأ أرض الله من الحمَّى، وكان واديها يجري نجلًا – يعني ماءً آجنًا – فأصاب أصحابَه منها بلاءٌ، وسقمٌ، وصرف الله ذلك عن نبيِّه، قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة، وبلال، في بيتٍ واحدٍ، فأصابتهم الحمَّى، فاستأذنتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدَّة الوعك، فدنوت من أبي بكرٍ، فقلت: يا أبتِ كيف تجدُك؟ فقال:

كلُّ امْرِئ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ    والمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

قالت: فقلت: والله! ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدُك يا عامر؟! فقال:

لَقَدْ وَجَدْتُ المَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ     إنَّ الجَبَانَ حَتْفُهُ مــنْ فَوْقِهِ

كُلُّ امْـــــــرِئ مُجَـــــــــاهِدٌ بِطَـــــــــــوْقِهِ     كالثَّوْرِ يَحْمِي جِلْدَهُ بِرَوْقِهِ

 قالت: فقلت: والله! ما يدري عامر ما يقول. قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمَّى، اضطجع بفناء البيت، ثمَّ يرفع عقيرته، ويقول:

ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيْتَنَّ لَيْلَةً     بِــــــوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِـــــــرٌ وجَـــــلِيْلُ

وهَـــــــلْ أَرِدَنْ يَوْمـــــًا مِيَاهَ مَجَـــــــــنَّةٍ     وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شامَةٌ وَطَفِيْلُ

قالت: فأخبرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اللهمَّ! حبِّبْ إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكَّة، أو أشدَّ، وانقل حُمَّاها إلى الجُحْفَةِ. اللَّهمَّ! باركْ لنا في مُدِّنا، وصاعنا» [البخاري (1889) ومسلم (1376)]. وقد استجاب الله دعاء نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وعُوفي المسلمون بعدها من هذه الحمَّى، وغدت المدينة موطنًا ممتازًا لكلِّ الوافدين، والمهاجرين إليها، من المسلمين على تنوُّع بيئاتهم، ومواطنهم.

 

21 – مكافأة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمِّ معبد:

وقد روي: أنَّها كثرت غنمها، ونمت؛ حتَّى جلبت منها جَلَبًا إلى المدينة، فمرَّ أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أُمَّه! هذا هو الرَّجل الَّذي كان مع المبارك.

فقامت إليه فقالت: يا عبد الله! مَنِ الرَّجل الَّذي كان معك؟ قال: أو ما تدرين من هو؟! قالت: لا! قال: هو نبيُّ الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاها، وفي روايةٍ: فانطلقت معي، وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من أقطٍ، ومتاع الأعراب، فكساها، وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب (الوفاء): أنَّها هاجرت هي وزوجها، وأسلم أخوها خُنَيْس، واستشهد يوم الفتح.

 

22 – أبو أيُّوبٍ الأنصاريُّ رضي الله عنه ومواقف خالدة:

قال أبو أيوب الأنصاريُّ رضي الله عنه: «لـمَّا نزل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي؛ نزل في السُّفْل، وأنا وأمُّ أيوبٍ في العُلْو، فقلت له: يا نبيَّ الله – بأبي أنت، وأمي! إنِّي لأكره وأُعْظِمُ أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظْهَرْ أنت، فكن في العلوِّ، وننزل نحن فنكون في السُّفل، فقال: يا أبا أيوب! إنَّ أرفق بنا، وبمن يغشانا أن نكون في سُفْل البيت.

قال: فلقد انكسر حُبٌّ لنا فيه ماءٌ، فقمت أنا، وأمُّ أيوب بقطيفة لنا، مالنا لحاف غيرها، ننشِّفُ بها الماء؛ تخوفًا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيءٌ، فيؤذيه» [ابن هشام (2/144)].

 

23 – هجرة عليٍّ رضي الله عنه وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر في المجتمع الجديد:

بعد أن أدَّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانات الَّتي كانت عنـده للنَّـاس لحـق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدركه بقُباء بعد وصوله بليلتين، أو ثلاثٍ، فكانت إقامته بقُباء ليلتين، ثمَّ خرج مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الجمعة، وقد لاحظ سيِّدنا عليٌّ مدَّة إقامته بقُباء امرأةً مسلمة لا زوج لها، ورأى إنسانًا يأتيها من جوف اللَّيل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه، فيعطيها شيئًا معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت لها: يا أمةَ الله! مَنْ هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كلَّ ليلةٍ فتخرجين إليه، فيعطيك شيئًا لا أدري ما هو! وأنت امرأةٌ مسلمةٌ لا زوج لك؟ قالت: هذا سهلُ بن حُنيف، قد عرف أني امرأةٌ لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه، فكسرها، ثمَّ جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان عليٌّ رضي الله عنه يأثر ذلك من أمر سهل بن حنيف، حين هلك عنده بالعراق.

 

24 – الهجرة النَّبويَّة نقطة تحوُّلٍ في تاريخ الحياة:

«كانت الهجرة النَّبويَّة من مكَّة المشرَّفة إلى المدينة المنوَّرة أعظم حدثٍ حوَّل مجرى التَّاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة، ومناهجها؛ التي كانت تحياها، وتعيش محكومةً بها في صورة قوانين، ونظمٍ، وأعرافٍ، وعاداتٍ، وأخلاقٍ، وسلوكٍ للأفراد والجماعات، وعقائد، وتعبُّداتٍ، وعلمٍ، ومعرفةٍ، وجهالةٍ، وسفه، وضلالٍ، وهدًى، وعدلٍ، وظلمٍ».

 

25 – الهجرة من سنن الرُّسل الكرام:

إنَّ الهجرة في سبيل الله سنَّةٌ قديمة، ولم تكن هجرة نبيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بدعًا في حياة الرُّسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه، ومسقط رأسه من أجل الدَّعوة حفاظًا عليها، وإيجادًا لبيئةٍ خصبةٍ تتقبلها، وتستجيب لها، وتذود عنها؛ فقد هاجر عددٌ من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم؛ للأسباب نفسها، التي دعت نبيَّنا للهجرة. وذلك: أنَّ بقاء الدَّعوة في أرضٍ قاحلةٍ لا يخدمها؛ بل يعوق مسارها، ويشلُّ حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قصَّ علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرُّسل، وأتباعهم من الأمم الماضية؛ لتبدو لنا في وضوحٍ سنَّةٌ من سنن الله في شأن الدَّعوات، يأخذ بها كلُّ مؤمن من بعدهم؛ إذا حيل بينه وبين إيمانه، وعزَّته، واستُخفَّ بكيانه، ووجوده، واعتُدِيَ على مروءته وكرامته.

هذه بعض الفوائد، والعبر، والدروس، وأترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها، ويستنبط سواها من الدُّروس، والعبر، والفوائد الكثيرة النَّافعة من هذا الحدث العظيم.

 


 

المصدر:

الموقع الرسمي للدكتور علي الصلابي

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#السيرة-النبوية
اقرأ أيضا
أثر الإيمان في بناء الأمم ج2 | مرابط
تفريغات

أثر الإيمان في بناء الأمم ج2


محاضرة هامة عن عن أثر الإيمان في بناء الأمم والأفراد -والكلام القادم- سيكون عن أسباب انهيار الأمم ولماذا تنهار أمم وشعوب ولماذا تبقى غيرها فالأمر يحتاج إلى وقت طويل ولكن خطورة الأمر وأهميته هي التي تجعلنا نتحدث عنه بما يفتح الله تبارك وتعالى به علينا

بقلم: د سفر الحوالي
429
ليلة في بيت النبي الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الثالث


إن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الضرب إلا للإصلاح والرسول عليه الصلاة والسلام قيد الضرب الذي جاء مطلقا في كتاب الله في قوله تعالى: واضربوهن النساء:34 فالضرب هذا يحتمل أن يكون ضربا شديدا وأن يكون ضربا خفيفا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اضربوهن ضربا غير مبرح أي: غير شديد فهذا الضرب مطلق في كتاب الله وقيد بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام فعلى الزوج أن يضرب ضرب المحب لا ضرب المنتقم إذ المقصود بالضرب هو الإصلاح

بقلم: أبو إسحق الحويني
794
الابتلاء بالشدة والضر | مرابط
اقتباسات وقطوف

الابتلاء بالشدة والضر


فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون أحدا سواه وتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل له من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
458
الحكمة من جعل الصلاة على النبي تفريجا للكربات | مرابط
تعزيز اليقين

الحكمة من جعل الصلاة على النبي تفريجا للكربات


لقد خلق الله النبي صلى الله عليه وسلم وصنعه على عينه واصطفاه اصطفاء جديرا بأن يكون له ما لم يكن لغيره لا من جهة خصه بإعلاء اسم الله تعالى وإظهار دينه والعمل بشريعته فقط.. بل أيضا من جهة المحبة واللطف والعناية التي لا توازيها محبة ولطف وعناية..

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
374
مناظرات مع رستم قائد الفرس | مرابط
مناظرات

مناظرات مع رستم قائد الفرس


عندما طلب رستم ملك الفرس أن يرس له سعد رضي الله عنه بعض الرسل يجيبونه عما يسأل عنه ومن هنا أرسل سعد المغيرة بن شعبة ثم أتبعه بربعي بن عامر ثم حذيفة بن محن وأخيرا المغيرة بن شعبة مرة أخرى وفي كل مرة كان يدور حوار يشبه المناظرة بينهم وبين رستم وهذا تفصيل ما دار

بقلم: ابن كثير
2079
الانتفاع بالقرآن الكريم | مرابط
اقتباسات وقطوف

الانتفاع بالقرآن الكريم


كثيرا ما يحدث أن يقرأ المسلم القرآن الكريم ويشعر أنه لا ينتفع به وهذا لوجود عدد من الحوائل التي تمنع ذلك وبين يديكم نصيحة غالية من الإمام ابن القيم منتقاة من كتاب الفوائد يضع أمامنا طريقا لاحبا للانتفاع بالقرآن الكريم فإذا أردت أن تنتفع بالقرآن اقرأ هذه النصيحة النفيسة وتمسك بها

بقلم: ابن القيم
816