براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثاني

براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1887 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ابن خزيمة ليس وحده:

أصول العقائد التي قررها ابن خزيمة في كتابه ليست خاصة به وحده, بل هي في مجملها العقيدة التي عليها أئمة الهدى من العلماء المتبوعين قبله, كالأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري وابن عيينة والبخاري، وغيرهم كثير, وهو في كتابه لم يكن يريد أن يؤسس عقيدة خاصة به, وإنما كان يريد أن يشرح العقيدة التي أجمع عليها العلماء قبله، وتلقاها هو عنهم؛ ولهذا فقد كان حريصا على التأكيد على إجماعهم في عدد من المواطن, ومن ذلك قوله: "فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر، مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه؛ نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا, من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عز ربنا عن أن يشبه المخلوقين, وجل ربنا عن مقالة المعطلين"[1].

وكذلك فعل في صفة السمع والبصر واليدين والاستواء على العرش والعلو وغيرها, فهو في كل هذه الصفات يؤكد على الإجماع فيها بين أئمة السلف.

ونحن إذا رجعنا إلى الكتب المسندة التي اهتمت بجمع مقالات أولئك العلماء نجدها متطابقة مع ما ذكره ابن خزيمة في الجملة, ولم تختلف عنه في أصول العقائد, وكذلك الحال في الأئمة الذين عاصروا ابن خزيمة أو جاؤوا بعده, كالصابوني، وعبد الله ابن الإمام أحمد، والدارقطني، وابن عبد البر، والسمعاني، والأصفهاني، وابن جرير الطبري, وقبلهم البخاري, كل هؤلاء قرروا ما قرره ابن خزيمة في صفات الله, ولم يختلفوا عنه في شيء منها.

 وهذا ما أدركه الكوثري, ولهذا جعلهم كلهم مندرجين ضمن المجسمة والمشبهة بكل وضوح، حيث يقول: "فدونك كتاب الاستقامة لخشيش بن أصرم، والكتب التي تسمى السنة لعبد الله وللخلال، ولأبي الشيخ، وللعسال، ولأبي بكر بن عاصم، وللطبراني، والجامع، والسنة والجماعة لحرب بن إسماعيل السيرجاني، والتوحيد لابن خزيمة، ولابن منده، والصفات للحكم بن معبد الخزاعي، والنقض لعثمان بن سعيد الدارمي، والشريعة للآجري، والإبانة لأبي نصر السجزي، ولابن بطة، ونقض التأويلات لأبي يعلى القاضي، وذم الكلام والفاروق لصاحب منازل السائرين.. تجد فيها ما ينبذه الشرع والعقل في آن واحد، ولا سيما النقض لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسم, فإنه أول من اجترأ من المجسمة بالقول إن الله لو شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته، فكيف على عرش عظيم!!"[2].

فإذا كان كتاب ابن خزيمة يعد كتاب تشبيه وشرك لأجل ما فيه من إثبات الصفات، وإجراء نصوصها على ظاهرها؛ فإن هذا الحكم ليس خاصا به, بل هو شامل لكل من جرى على طريقته وسار على منهاجه وتوافق معه, وهم عدد كبير جدا من العلماء المشهورين من جميع المذاهب: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.

وهذا الوضوح في الحكم من قبل أئمة المذهب الأشعري يؤكد بقوة على أنهم يرون أن الخلاف بينهم وبين أئمة أهل السنة ليس خلافا لفظيا فحسب, وإنما هو خلاف منهجي حقيقي.

 

الأمر الرابع: موقفهم من كتاب إثبات الحرف والصوت للسجزي:

ألف أبو نصر السجزي كتابا في إثبات الحرف والصوت, وقرر فيه مذهب أهل السنة والجماعة, وقد رد عليه الجويني في كتاب مستقل، بالغ في الهجوم على السجزي وفي وصفه بالجهل وسخافة العقل, وقد نقل تقي الدين السبكي شيئا من ذلك الكتاب, فقال ذاكرا قدوته في الرد على المبتدعة: "وها أنا أذكر مجامع ما تضمنته القصيدة -نونية ابن القيم- ملخصا من غير نظم، وناظمها أقل من أن أذكر كلامه، لكني تأسيت في ذلك بإمام الحرمين في كتابه المسمى بنقض كتاب السجزي، والسجزي هذا كان محدثا له كتاب مترجم بمختصر البيان، وجده إمام الحرمين حين جاور بمكة شرفها الله، اشتمل كتاب السجزي هذا على أمور: منها أن القرآن حروف وأصوات.

قال إمام الحرمين: وأبدى من غمرات جهله فصولا وسوى على قصبة سخافة عقله نصولا، ومخايل الحمق في تضاعيفها مصقولة، وبعثات الحقائق دونها معقولة.

وقال إمام الحرمين أيضا: وهذا الجاهل الغر، المتمادي في الجهل المصر، يتطلع إلى الرتب الرفيعة بالدأب في المطاعن في الأئمة والوقيعة.

وقال إمام الحرمين أيضا: صدر هذا الأحمق الباب بالمعهود من شتمه، فأف له ولخرقه، فقد -والله- سئمت البحث عن عواره وإبداء شناره.

وقال الإمام أيضا: وقد كسا هذا التيس الأئمة صفاته. وقال الإمام أيضا: أبدى هذا الأحمق كلاما ينقض آخره أوله في الصفات، وما ينبغي لمثله أن يتكلم في صفات الله -تعالى- على جهله وسخافة عقله.

وقال الإمام أيضا: قد ذكر هذا اللعين الطريد المهين الشريد فصولا، وزعم أن الأشعرية يكفرون بها، فعليه لعائن الله تترى، واحدة بعد أخرى، وما رأيت جاهلا أجسر على التكفير، وأسرع إلى التحكم على الأئمة من هذا الأخرق.

وتكلم السجزي في النزول والانتقال والزوال والانفصال والذهاب والمجيء، فقال الإمام: ومن قال بذلك حل دمه، وتبرم الإمام كثيرا من كلامه معه"[3].

ونقل الكوثري عن أبي جعفر اللبلي الأندلسي أنه قال في فهرسته: "وكذلك اللعين المعروف بالسجزي فإنه تصدى أيضا للوقوع في أعيان الأئمة وسرج الأمة، بتأليف تالف، وهو على قلة مقداره، وكثرة عواره ينسب أئمة الحقائق وأحبار الأمة وبحور العلوم إلى التلبيس والمراوغة والتدليس، وهذا الرذل الخسيس أحقر من أن يكترث به ذما، ولا يضر البحر الخضم ولغة كلب"[4].

وما قرره السجزي في رسالته من إثبات الحرف والصوت ليس خاصا به, بل هو الذي يقرره أئمة أهل السنة في مؤلفاتهم المشهورة, فالحكم عليه بالبدعة والخروج من السنة ليس خاصا به, بل هو شامل لكل من وافقه وقرر مثلما قرر.

وهذا الحكم يؤكد بوضوح على أن أئمة المذهب الأشعري يعدون الخلاف بينهم وبين أئمة أهل السنة خلافا حقيقيا ومنهجيا، وليس مجرد خلاف لفظي فحسب.

 

الأمر الخامس: موقفهم من ابن تيمية وابن القيم وغيرهما:

حين قام ابن تيمية بنصرة مذهب أهل السنة في العقائد، وشرع في تأليف الكتب المطولة والمختصرة في شرحه وبيانه؛ أدرك علماء الأشاعرة في زمنه أن ما يقوم به مخالف ومناقض لأصولهم وعقائدهم؛ ولهذا سعوا إلى منعه والتضييق عليه, وقد جرت بينه وبينهم مناظرات شهيرة حول بعض تلك المؤلفات.

ومن أشهرها: المناظرة حول العقيدة الواسطية, فقد قرر ابن تيمية في هذه العقيدة جملا مختصرة كلية مما كان عليه أئمة أهل السنة من الاعتقاد, ولم يذكر شيئا خاصا به, وكان واثقا من موافقته لما كان عليه السلف, ولهذا تحدى علماء الأشاعرة في زمنه فقال لهم: "قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة"[5].

ومع ذلك فقد كان علماء الأشاعرة مدركين أن ما هم عليه متناقض مع ما جاء في تلك العقيدة، وخاصة في باب الأسماء والصفات، وباب الإيمان وغيرها.

وكذلك المناظرة التي كانت حول العقيدة الحموية, التي ألفها ابن تيمية ليثبت الصفات الاختيارية وصفة الاستواء, فقد أدرك علماء الأشاعرة أن ما جاء في هذه العقيدة مناقض لما هم عليه, ولهذا سعوا إلى مناظرته والتضييق عليه، وألف بعضهم كتبا في نقض ما جاء فيها.

ولم يكتف بعضهم بالرد عليه، بل تجاوز ذلك إلى حبسه ومنعه من الإفتاء, بل تجاوز بعضهم ذلك إلى الحكم بتكفيره والحكم عليه بالخروج من الإسلام، وبوجوب قتله.

وأما ابن القيم فهو أيضا لم يسلم من معارضة علماء الأشاعرة له، ولا من تضييقهم؛ فإنه حين ألف النونية، وقرر فيها عقيدة أئمة أهل السنة, بادر بعض علماء الأشاعرة إلى الرد عليه، وإلى نقض ما جاء فيها, وعدها عقيدة بدعية خارجة عن السنة, كما صنع السبكي الأب في كتابه "السيف الصقيل".

وممن هاجمه علماء الأشاعرة وضيقوا عليه: الإمام عبد الغني المقدسي؛ فإنه كان متبعا للإمام أحمد ومعجبا به جدا, وكان يحدث في مسجد دمشق، ويقرر في باب الصفات والقرآن ما كان عليه أئمة أهل السنة, من أنها تثبت من غير تحريف ولا تشبيه, كما هو ظاهر وجلي في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد), فقام عليه بعض علماء الأشاعرة في زمنه، وشكوه إلى الأمير، وحكموا عليه بالكفر وأفتوا بقتله[6].

وهذه المواقف تؤكد بوضوح على أن علماء الأشاعرة مدركون أن الخلاف بينهم وبين أئمة أهل السنة خلاف حقيقي منهجي، وليس مجرد خلاف لفظي فحسب.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. التوحيد (26).
  2. مقدمته لكتاب: الأسماء والصفات للبيهقي.
  3. السيف الصقيل (25).
  4. المرجع السابق 26- حاشية.
  5. مجموع الفتاوى (3/169).
  6. انظر القصة بطولها: سير أعلام النبلاء، الذهبي (21/458-364).

 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأشاعرة #الأشعرية
اقرأ أيضا
أثر الخلوات | مرابط
اقتباسات وقطوف

أثر الخلوات


إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذرا من عقابه أو رجاء لثوابه أو إجلالا له فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودا هنديا على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.

بقلم: ابن الجوزي
415
صراع الهوى والإيمان | مرابط
اقتباسات وقطوف

صراع الهوى والإيمان


المؤمن يتصارع إيمانه وهواه فقد يطيف به الشيطان فيغفله عن قوة إيمانه فيغلبه هواه فيصرعه وهو حال مباشرة المعصية ينازع نفسه فلا تصفو له لذتها ثم لا يكاد جنبه يقع على الأرض حتى يتذكر فيستعيد قوة إيمانه فيثب يعض أنامله أسفا وحزنا على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه عازما على أن لا يعود لمثل تلك الغفلة.

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
236
ربط النفوس بالله | مرابط
تعزيز اليقين

ربط النفوس بالله


من أعجب مواضع القرآن في ربط النفوس بالله وعمارتها بربها ولا أظن أن ثمة دلالة أكثر من ذلك على هذا الأمر: صلاة الخوف حال الحرب هذه الشعيرة تسكب عندها عبرات المتدبرين

بقلم: إبراهيم السكران
233
الانكسار أمام الثقافة الغربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الانكسار أمام الثقافة الغربية


شهدت بلادنا ظهور العديد من التيارات الإصلاحية التي زعمت أنها تحاول الوصول إلى سبل التقدم والنهضة وطريق النجاة لبلادنا ولكن سعيها في النهاية أوصلها إلى الشواطئ الغربية فبدأت محاولات التوفيق بين الإسلام وبين الثقافة الغربية بكل شكل ممكن وبدأت محاولات الإصلاح تحت ضغط هذه الثقافة فأدت في النهاية إلى صورة مشوهة مزعومة للإسلام

بقلم: فتحي عبد الكريم ومالك بن نبي
2026
شبح الحروب الصليبية الجزء الثاني | مرابط
تاريخ مقالات

شبح الحروب الصليبية الجزء الثاني


إذا أردنا أن نقف على الأسباب الحقيقية للعداء البغيض الذي تحمله أوروبا ويحمله الغرب تجاه الإسلام علينا أن نرجع عدة خطوات إلى الخلف إلى الماضي الذي شكل معالم المدنية الأوروبية وتشربه الرجل الأبيض وتوارثه مع مرور الوقت سنقف هنا أمام الحروب الصليبية لندرك أثرها على الهوية الأوروبية فيما يخص الإسلام كما يقول الكاتب: إن الشر الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح ولكنه كان قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء شرا ثقافيا لقد نشأ تسميم العقل الأوروبي عما شوهه قادة الأوروبيين من تعاليم الإسلام ومثله ال...

بقلم: محمد أسد
2081
قواعد السلف في مؤلفاتهم | مرابط
مقالات

قواعد السلف في مؤلفاتهم


أحب أن يعلم من لم يكن يعلم أن أسلافنا -رضي الله عنهم- وغفر لهم منذ ألفوا كتبهم وضعوا لها قواعد يعرفها أهل هذا العلم ويجهلها من جنح عن أصولهم وعمى عليه طريقهم. فهم منذ بدأوا يكتبون أسسوا كتبهم على إسناد الأخبار إلى رواتها وبرئوا من عهدة الرواية بهذا الإسناد ولم يبالوا بعد ذلك أن يكون الخبر صحيحا أو ضعيفا أو زائدا أو ناقصا أو موضوعا مكذوبا لأنهم كانو يعلمون حال الرواة ومنازلهم من الصدق والكذب ومن الورع والاستخفاف ومن الأمانة والهوى.وكأنهم أرادوا بهذا أن يجعلوا كتبهم في التاريخ وغير التاريخ سج...

بقلم: محمود شاكر
208