براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثاني

براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

2140 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ابن خزيمة ليس وحده:

أصول العقائد التي قررها ابن خزيمة في كتابه ليست خاصة به وحده, بل هي في مجملها العقيدة التي عليها أئمة الهدى من العلماء المتبوعين قبله, كالأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري وابن عيينة والبخاري، وغيرهم كثير, وهو في كتابه لم يكن يريد أن يؤسس عقيدة خاصة به, وإنما كان يريد أن يشرح العقيدة التي أجمع عليها العلماء قبله، وتلقاها هو عنهم؛ ولهذا فقد كان حريصا على التأكيد على إجماعهم في عدد من المواطن, ومن ذلك قوله: "فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر، مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه؛ نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا, من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عز ربنا عن أن يشبه المخلوقين, وجل ربنا عن مقالة المعطلين"[1].

وكذلك فعل في صفة السمع والبصر واليدين والاستواء على العرش والعلو وغيرها, فهو في كل هذه الصفات يؤكد على الإجماع فيها بين أئمة السلف.

ونحن إذا رجعنا إلى الكتب المسندة التي اهتمت بجمع مقالات أولئك العلماء نجدها متطابقة مع ما ذكره ابن خزيمة في الجملة, ولم تختلف عنه في أصول العقائد, وكذلك الحال في الأئمة الذين عاصروا ابن خزيمة أو جاؤوا بعده, كالصابوني، وعبد الله ابن الإمام أحمد، والدارقطني، وابن عبد البر، والسمعاني، والأصفهاني، وابن جرير الطبري, وقبلهم البخاري, كل هؤلاء قرروا ما قرره ابن خزيمة في صفات الله, ولم يختلفوا عنه في شيء منها.

 وهذا ما أدركه الكوثري, ولهذا جعلهم كلهم مندرجين ضمن المجسمة والمشبهة بكل وضوح، حيث يقول: "فدونك كتاب الاستقامة لخشيش بن أصرم، والكتب التي تسمى السنة لعبد الله وللخلال، ولأبي الشيخ، وللعسال، ولأبي بكر بن عاصم، وللطبراني، والجامع، والسنة والجماعة لحرب بن إسماعيل السيرجاني، والتوحيد لابن خزيمة، ولابن منده، والصفات للحكم بن معبد الخزاعي، والنقض لعثمان بن سعيد الدارمي، والشريعة للآجري، والإبانة لأبي نصر السجزي، ولابن بطة، ونقض التأويلات لأبي يعلى القاضي، وذم الكلام والفاروق لصاحب منازل السائرين.. تجد فيها ما ينبذه الشرع والعقل في آن واحد، ولا سيما النقض لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسم, فإنه أول من اجترأ من المجسمة بالقول إن الله لو شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته، فكيف على عرش عظيم!!"[2].

فإذا كان كتاب ابن خزيمة يعد كتاب تشبيه وشرك لأجل ما فيه من إثبات الصفات، وإجراء نصوصها على ظاهرها؛ فإن هذا الحكم ليس خاصا به, بل هو شامل لكل من جرى على طريقته وسار على منهاجه وتوافق معه, وهم عدد كبير جدا من العلماء المشهورين من جميع المذاهب: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.

وهذا الوضوح في الحكم من قبل أئمة المذهب الأشعري يؤكد بقوة على أنهم يرون أن الخلاف بينهم وبين أئمة أهل السنة ليس خلافا لفظيا فحسب, وإنما هو خلاف منهجي حقيقي.

 

الأمر الرابع: موقفهم من كتاب إثبات الحرف والصوت للسجزي:

ألف أبو نصر السجزي كتابا في إثبات الحرف والصوت, وقرر فيه مذهب أهل السنة والجماعة, وقد رد عليه الجويني في كتاب مستقل، بالغ في الهجوم على السجزي وفي وصفه بالجهل وسخافة العقل, وقد نقل تقي الدين السبكي شيئا من ذلك الكتاب, فقال ذاكرا قدوته في الرد على المبتدعة: "وها أنا أذكر مجامع ما تضمنته القصيدة -نونية ابن القيم- ملخصا من غير نظم، وناظمها أقل من أن أذكر كلامه، لكني تأسيت في ذلك بإمام الحرمين في كتابه المسمى بنقض كتاب السجزي، والسجزي هذا كان محدثا له كتاب مترجم بمختصر البيان، وجده إمام الحرمين حين جاور بمكة شرفها الله، اشتمل كتاب السجزي هذا على أمور: منها أن القرآن حروف وأصوات.

قال إمام الحرمين: وأبدى من غمرات جهله فصولا وسوى على قصبة سخافة عقله نصولا، ومخايل الحمق في تضاعيفها مصقولة، وبعثات الحقائق دونها معقولة.

وقال إمام الحرمين أيضا: وهذا الجاهل الغر، المتمادي في الجهل المصر، يتطلع إلى الرتب الرفيعة بالدأب في المطاعن في الأئمة والوقيعة.

وقال إمام الحرمين أيضا: صدر هذا الأحمق الباب بالمعهود من شتمه، فأف له ولخرقه، فقد -والله- سئمت البحث عن عواره وإبداء شناره.

وقال الإمام أيضا: وقد كسا هذا التيس الأئمة صفاته. وقال الإمام أيضا: أبدى هذا الأحمق كلاما ينقض آخره أوله في الصفات، وما ينبغي لمثله أن يتكلم في صفات الله -تعالى- على جهله وسخافة عقله.

وقال الإمام أيضا: قد ذكر هذا اللعين الطريد المهين الشريد فصولا، وزعم أن الأشعرية يكفرون بها، فعليه لعائن الله تترى، واحدة بعد أخرى، وما رأيت جاهلا أجسر على التكفير، وأسرع إلى التحكم على الأئمة من هذا الأخرق.

وتكلم السجزي في النزول والانتقال والزوال والانفصال والذهاب والمجيء، فقال الإمام: ومن قال بذلك حل دمه، وتبرم الإمام كثيرا من كلامه معه"[3].

ونقل الكوثري عن أبي جعفر اللبلي الأندلسي أنه قال في فهرسته: "وكذلك اللعين المعروف بالسجزي فإنه تصدى أيضا للوقوع في أعيان الأئمة وسرج الأمة، بتأليف تالف، وهو على قلة مقداره، وكثرة عواره ينسب أئمة الحقائق وأحبار الأمة وبحور العلوم إلى التلبيس والمراوغة والتدليس، وهذا الرذل الخسيس أحقر من أن يكترث به ذما، ولا يضر البحر الخضم ولغة كلب"[4].

وما قرره السجزي في رسالته من إثبات الحرف والصوت ليس خاصا به, بل هو الذي يقرره أئمة أهل السنة في مؤلفاتهم المشهورة, فالحكم عليه بالبدعة والخروج من السنة ليس خاصا به, بل هو شامل لكل من وافقه وقرر مثلما قرر.

وهذا الحكم يؤكد بوضوح على أن أئمة المذهب الأشعري يعدون الخلاف بينهم وبين أئمة أهل السنة خلافا حقيقيا ومنهجيا، وليس مجرد خلاف لفظي فحسب.

 

الأمر الخامس: موقفهم من ابن تيمية وابن القيم وغيرهما:

حين قام ابن تيمية بنصرة مذهب أهل السنة في العقائد، وشرع في تأليف الكتب المطولة والمختصرة في شرحه وبيانه؛ أدرك علماء الأشاعرة في زمنه أن ما يقوم به مخالف ومناقض لأصولهم وعقائدهم؛ ولهذا سعوا إلى منعه والتضييق عليه, وقد جرت بينه وبينهم مناظرات شهيرة حول بعض تلك المؤلفات.

ومن أشهرها: المناظرة حول العقيدة الواسطية, فقد قرر ابن تيمية في هذه العقيدة جملا مختصرة كلية مما كان عليه أئمة أهل السنة من الاعتقاد, ولم يذكر شيئا خاصا به, وكان واثقا من موافقته لما كان عليه السلف, ولهذا تحدى علماء الأشاعرة في زمنه فقال لهم: "قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة"[5].

ومع ذلك فقد كان علماء الأشاعرة مدركين أن ما هم عليه متناقض مع ما جاء في تلك العقيدة، وخاصة في باب الأسماء والصفات، وباب الإيمان وغيرها.

وكذلك المناظرة التي كانت حول العقيدة الحموية, التي ألفها ابن تيمية ليثبت الصفات الاختيارية وصفة الاستواء, فقد أدرك علماء الأشاعرة أن ما جاء في هذه العقيدة مناقض لما هم عليه, ولهذا سعوا إلى مناظرته والتضييق عليه، وألف بعضهم كتبا في نقض ما جاء فيها.

ولم يكتف بعضهم بالرد عليه، بل تجاوز ذلك إلى حبسه ومنعه من الإفتاء, بل تجاوز بعضهم ذلك إلى الحكم بتكفيره والحكم عليه بالخروج من الإسلام، وبوجوب قتله.

وأما ابن القيم فهو أيضا لم يسلم من معارضة علماء الأشاعرة له، ولا من تضييقهم؛ فإنه حين ألف النونية، وقرر فيها عقيدة أئمة أهل السنة, بادر بعض علماء الأشاعرة إلى الرد عليه، وإلى نقض ما جاء فيها, وعدها عقيدة بدعية خارجة عن السنة, كما صنع السبكي الأب في كتابه "السيف الصقيل".

وممن هاجمه علماء الأشاعرة وضيقوا عليه: الإمام عبد الغني المقدسي؛ فإنه كان متبعا للإمام أحمد ومعجبا به جدا, وكان يحدث في مسجد دمشق، ويقرر في باب الصفات والقرآن ما كان عليه أئمة أهل السنة, من أنها تثبت من غير تحريف ولا تشبيه, كما هو ظاهر وجلي في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد), فقام عليه بعض علماء الأشاعرة في زمنه، وشكوه إلى الأمير، وحكموا عليه بالكفر وأفتوا بقتله[6].

وهذه المواقف تؤكد بوضوح على أن علماء الأشاعرة مدركون أن الخلاف بينهم وبين أئمة أهل السنة خلاف حقيقي منهجي، وليس مجرد خلاف لفظي فحسب.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. التوحيد (26).
  2. مقدمته لكتاب: الأسماء والصفات للبيهقي.
  3. السيف الصقيل (25).
  4. المرجع السابق 26- حاشية.
  5. مجموع الفتاوى (3/169).
  6. انظر القصة بطولها: سير أعلام النبلاء، الذهبي (21/458-364).

 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأشاعرة #الأشعرية
اقرأ أيضا
موافقة الغرب باسم الإسلام | مرابط
مناقشات المرأة

موافقة الغرب باسم الإسلام


إن المؤلف يلح في كتابه على خروج المرأة من بيتها وانخراطها في العمل العام المختلط من أجل تقدم المجتمع وازدهاره ومن أجل المصلحة العامة وهذا كله وهم فقد خرجت المرأة في غالب دولنا إلى الشارع العام واختلطت بالرجال وأظهرت زينتها كما يدعو إليه المؤلف فما هي النتيجة زاد تأخرنا وانحطاطنا وإذلالنا ن قبل الشراذم

بقلم: د عادل بن حسن الحمد
480
استحضار عظمة القرآن الكريم | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات

استحضار عظمة القرآن الكريم


لك أن تتصور أن الذي خلقك وصورك وأنطقك وجعلك قابلا للتفكير والتأمل وجعل لديك هذه القدرة العقلية والقدرة على المقارنة والتحليل والنظر إلخ الذي أودع فيك هذه البصمة التي تختلف عن بصمة أخيك وأمك وأبيك وابنك وزوجتك إلخ والذي جعل فيك هذا المستودع من الخلايا والجينات والأعصاب واللحم والعظام والمفاصل إلخ هذا الذي أبدع هذا النظام كله والنظام الكوني: هو الذي أنزل هذا القرآن الكريم

بقلم: أحمد يوسف السيد
537
الخوف من البلاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الخوف من البلاء


والحقيقة أن من خالط الإيمان بشاشة قلبه فإنه سوف يجني أولى ثمرات إيمانه في الدنيا بتذوق طعم الحياة بنكهة مختلفة لأن نظرته للأشياء من حوله ستكون أكثر شمولا للزمان والمكان والأحوال فينشأ عن ذلك طمأنينة النفس وسكينة القلب وهدأة البال فلا يجزع عند البلاء مع الجازعين ولا يتسخط عند المصيبة مع المتسخطين لأنه موقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه

بقلم: د. جمال الباشا
431
التحدي الأعظم ج1 | مرابط
تعزيز اليقين

التحدي الأعظم ج1


جوانب الإعجاز في القرآن الكريم لا تكاد تنقضي وكلما تأملته وتدبرته ظهرت لك تفاصيل إعجازية لم تعلم عنها من قبل سواء في لغته أو بنائه أو محتواه العلمي أو تنبؤاته إلخ وهذا الأمر ليس محصورا على العرب والمسلمين وإنما متاح لكل من يتدبر بل إن من أشهر الآيات المعبرة عن هذا الجانب قوله تعالى في سورة فصلت: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ۗ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد 53 ومن السياق يتضح أن الآية تتحدث عن الكفار والحاصل فعلا هو أن الإعجاز العلمي في العصور المتأخرة يقوم غا...

بقلم: موقع هداية الملحدين
1433
صناعة الثقافة | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

صناعة الثقافة


إن أدورنو يرى أن الفرد في المجتمع أصبح يوصم بالجهل ليس فقط لأنه لا يملك القدرة على الكلام على الطراز الحديث بل لأنه لا يسير على هذا الطراز فأصبح مجرد عدم السير مع الموضة التي تفرض على المجتمع والتي يظن أنه هو الذي فرضها أصبح جهلا

بقلم: محمد علي فرح
611
شبهة: كل المخلوقات طائعة لله ومع ذلك نجد أن البشر لا يطيعون | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: كل المخلوقات طائعة لله ومع ذلك نجد أن البشر لا يطيعون


تقول الشبهة: جاء في القرآن أن كل المخلوقات في السموات والأرض طائعة وقاتنة لله تعالى فكيف يستوي ذلك مع ما نجده في حال الإنسان حيث نجد حالات كثيرة من عدم الطاعة من جانب البشر والمقال الذي بين يدينا يفند هذه الشبهة ويرد عليها ويوضح الخطأ فيها

بقلم: محمد عمارة
1588