تحديد المنهجية في انتقاء الكتب

تحديد المنهجية في انتقاء الكتب | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

703 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

ما هو السبيل إلى الانتفاع بالكتب وهي كثيرة؟ لأنك إذا دخلت في الكتب على غير منهج تفارق عليك أمرك، فأفضل وسيلة بعدما تأخذ قدرًا من العلم وهذا كلام موجه إلى من انتهى من الفرض العيني ويريد أن يتخصص، يعني كلامنا ليس للذين يطلبون الفرض العيني، فأفضل وسيلة أن تأتي لكل فن من الفنون بأفضل كتابٍ وأشده تحريرًا، وتبدأ تخدم هذا الكتاب وتقرؤه بتمعن، فافترض مثلًا أنك تبنيت كتابًا فقهيًا، فتأخذ -على سبيل المثال- نيل الأوطار، أو سبل السلام -وله متن أيضًا- على أساس أنه من أقصر الكتب وأفضلها.

 

سبل السلام

فكيف تنتفع بكتاب سبل السلام؟ الذي يعتمد فقه الدليل، فيأتي لك بالدليل ثم يأتي لك بالفوائد المستنبطة منه؟ عليك أن تفعل الآتي: فمثلًا أول حديث في كتاب سبل السلام، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).

فيبدأ يأتي لك بكلام أبي بكر ابن العربي، فيقول لك: وهذا من محاسن الفتيا، الذي يسميه العلماء الجواب الحكيم، وهو أن يزيد المفتي في كلامه على حاجة السائل، فأنت تحرر هذا الكلام في دفتر خارجي: أن يزيد المفتي على حاجة السائل في الجواب، ثم تبدأ بجمع أدلة وأحاديث تقابلك تحت هذا المعنى، وكل حديث يقابلك أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد للسائل في الجواب، تأخذه وتضعه في مكانه، وهذا لا يتأتى لك بمرة أو مرتين أو ثلاث، ولكن تظل طيلة عمرك وأنت تجمع في هذا الشيء، فقد تمر عليك عشر سنوات ولم تجمع سوى عشرة أدلة فقط؛ لأن قراءتك متناثرة متنوعة، فكلما وقفت على فائدةٍ تنفعك في هذا الموضع وضعتها، ولعلكم جربتم كم من الفوائد مرت عليكم واستملحتموها لكن حرتم أين تضعونها، فيقول أحدكم: ما مكانها حتى أستحضرها إذا أردتها، لكن لما لم يكن لك منهج في الكتب فقدت الفائدة، فإذا احتجتها ندمت عليها، وقلت: ليتني كتبتها، لكن إذا كتبتها فلن تنتفع بها إذا لم يكن لك منهج.

 

أدب المفتي والمستفتي

فتنظر في كل الاعتراضات على كل حكم من الأحكام في الكتب الفقهية، أي: عندما تقرأ كتاب أدب المفتي والمستفتي تجد قول العلماء: لا ينبغي للمفتي أن يزيد على حاجة السائل في الجواب، ويجعلون هذا من سوء الأدب، فأنت تفاجأ بهذا الكلام، إذا سبق عند كلام أبي بكر بن العربي أن الزيادة في الجواب على سؤال المستفتي من الجواب الحكيم.

فإياك أن ترد كلام الفقهاء وتقول: لا. هذا الكلام بخلاف القاعدة، وعندنا الأحاديث ترد هذا الكلام، فالمسألة أهون من ذلك، فلو أنك تمعنت قليلًا لعلمت أنه لا منافاة بين هذا ولا ذاك.

فعليك أن تبحث عن جواب تخرج به قول الفقهاء الذين يمنعون، وتجمع بينه وبين قول أبي بكر بن العربي والأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في الجواب عن حاجة السائل؛ لأنه قال للسائل لما سأله عن ماء البحر، قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، مع أن الرجل لم يسأل: هل ميتة البحر حلال أم لا؟ لكنه زاده حل ميتة البحر؛ لأنه إذا كان استشكل على السائل طهورية ماء البحر فاستشكاله لميتته أولى وأشد، فلعله يستشكل ميتته وهو رجل يركب البحر، فيحتاج إلى أن يصطاد، فيقول: إن هذا داخل في جملة الميتة فلا آكله.

إذًا: النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال له هذا الحكم ليستحضره وينتفع به، فيحمل كلام العلماء على أن الزيادة في الجواب تشوش على السائل -يعني: لا تنفعه- وإنما تشوش عليه، كأن يسأل عن مسألة من المسائل: كالقراءة خلف الإمام، أو التكبيرات الانتقالية يرفع فيها أم لا، أو النزول على الركبتين واليدين، فيقول له المفتي: فيها أقوال: أما القول الأول: فقد قال فلان وفلان وعلان، واعترضوا عليه بكذا، ولم يكن ذاك الدليل صريحًا في المسألة.. والقول الثاني: فيه وفيه، فالرجل في الأخير لا يفهم شيئًا، ويقول: ثم ماذا؟!! يعني: أقرأ أو لا أقرأ؟ أرفع أو لا أرفع؟ لأنه ما استطاع أن يحصِّل جوابًا من خلال هذه الأجوبة الكثيرة.

فهذا هو الذي يمنع منه المفتي، فإذا زاد زيادةً تشوش على السائل فلا ينبغي له أن يزيد، وعلى هذا ينزل كلام العلماء الذين منعوا المفتي من أن يزيد.

 

علم الحديث

فعندما تتبنى تفصيل الكتب بهذه الطريقة تكون فقيهًا ضليعًا، فكل مسألة لها عندك أدلة كثيرة، بخلاف ما إذا اقتصرت على الدليل الوارد في كتاب الأصول، فلو سلمنا أنك قابلت رجلًا أمهر منك في هذا العلم، فقال لك مثلًا في علم الحديث: نريد أن نعرف الفرق بين الشذوذ وزيادة الثقة، فتقول له: نعم، هناك فرق، وتضرب له مثالًا أو مثالين فيهدم لك هذه الأمثلة، ويقول لك: ليس لك فيها حجة لكذا وكذا وكذا.. هات أمثلة أخرى، فتقف أنت عند هذا الحد!!

لماذا؟ لأنك لا تحفظ إلا الموجود في الكتب، بخلاف ما إذا كنت تبنيت هذا المنهج، وكلما مررت بحديث ووصفه العلماء بالشذوذ وضعته بجانب، فيصير عندك في بحث الشاذ مائة أو مائتين مثلًا، فإذا هدم لك دليلًا أتيته بثانٍ وثالث ورابع وخامس وسادس.

أضف إلى ذلك أنه بكثرة الأمثلة يتضح الفرق، ولذلك أكثر الذين يخطئون في التفريق ما بين الشذوذ وزيادة الثقة بسبب أنهم لم يمارسوا ذلك عمليًا، والفرق بين المفهومين دقيق جدًا يحتاج إلى كثرة أمثلة لكي يتضح.

مثاله: حديث التحريك بالسبابة في التشهد، فالبعض يقول: يحركها وآخرون يقولون: لا يحركها، هذه هي المخالفة؛ إنما هل زائدة خالف فعلًا، أم تفرد؟

الواقع أنه تفرد، ولذلك ابن خزيمة رحمه الله لما روى هذا الحديث في صحيحه، قال: (خبرٌ تفرد به زائدة ) ولم يقل: شذ؛ لأن هناك فرقًا بين التفرد والشذوذ، فمطلق التفرد ليس لعلة، وإنما ينظر في حال المتفرد: فإن كان ثقة ثبتًا أمينًا يقبل تفرده، وإن كان ضعيفًا يرد عليه تفرده، مثل حديث عبيد الله العمري الضعيف في أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الرجل يجد البلل في ثوبه ولا يذكر احتلامًا، أو الرجل يذكر احتلامًا ولا يجد بللًا، وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأى بللًا ولم يذكر احتلامًا يغتسل، وإذا ذكر احتلامًا ولم يجد بللًا لا يغتسل)، فجعل مناط الأمر رؤية البلل.

فتفرد عبيد الله العمري بهذا التفصيل: (إذا رأى البلل وإذا لم يره)، في حين أن الذين رووا هذا الحديث لم يذكروا هذا، فهو تفرد بهذا التفصيل فيرده العلماء عليه، دليل على أنه ضعيف.

إذًا: التفرد ليس بعلة، فـابن خزيمة لاحظ هذا، فلم يقل: شذّ، وإنما قال: تفرد.

مثاله: حديث رواه جماعة منهم الطفيل بن سعيد وعمرو بن علي الفلاس وغيرهم عن حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بإناء رحراح -والرحراح هو الواسع- فوضع يده عليه، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه)، قلت: إنه روى جماعة عن حماد بن زيد، فقالوا: (بإناء رحراح)، روى هذا الحديث أيضًا أحمد بن عبدة عند ابن خزيمة عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس ؛ لكنه قال: (في إناء زجاج) ولم يقل: (رحراح)، قال الحافظ ابن حجر: حكم جماعة من الحذاق على أحمد بن عبدة أنه صحفه، أي: رحراح وزجاج حصل فيه تصحيف.

ابن خزيمة رحمه الله لم يسلك هذا المسلك؛ لأن الجمع أولى من الترجيح، فلا نرجح إلا مع عدم إمكان الجمع، فقال ابن خزيمة: والرحراح هو الواسع من إناء الزجاج لا العميق منه، فجمع بين الروايتين، فما هو المانع، فيحمل على أن هؤلاء رووا هذا الحديث، فقالوا: (رحراح) فذكروا صفته، أما أحمد بن عبدة فذكر جنسه، فهو إناء زجاجٍ رحراح، وهذا أولى من توهين الثقة لغير حجة، فنحن هنا لا نستطيع أن نقول: إنه شذ، لكن نقول: إنه تفرد بقوله: زجاج، ولا منافاة بين هذه الرواية وبين رواية الذين قالوا رحراح؛ لإمكان الجمع بينهما.

كذلك حديث زائدة بن قدامة عندما قال: يحركها، وهم قالوا: يشير بها، فالجمع بين الروايات المتناثرة يلزمه على الأقل إتقان بحث التعارض والترجيح لأصول الفقه؛ لأن هذه المتون تحتاج إلى قوانين لضبط الفهم والاستنباط، إذ حققت أن زائدة ثقة ثبت كان يعيد السماع ثلاث مرار، لم يغمزه أحدٌ قط بوهن، فإن لم تقبل زيادة هذا فمن الذي تقبل زيادته، فهنا: هل هناك منافاة بين الذين قالوا: يشير، وبين زائدة عندما قال: يحركها، لا؛ لأن الإشارة تجامع التحريك غالبًا، ولا نقول: دائمًا، لماذا؟ لأن الإنسان قد يشير ولا يحرك، فمثلًا لو سأل سائل: أين فلان؟ تقول: هو ذاك، فأشرت ولم تحرك، لكن الإشارة تجامع التحريك غالبًا، وإن أبيت أنها تجامع التحريك غالبًا فهي تجامع التحريك، ذلك أنك إذا أشرت ولم تحرك راح المعنى الذي تريده من الإشارة، فإنك إذا قلت لرجلٍ: تعال! تشير إليه، فماذا عساك أن تفعل، تقول: تعال! وتحرك عندما تشير، ولا يتصور أنك لو قلت له: تعال! أنك لا تحرك، فما يفهم الذي تريد إلا إذا قرنته مع الإشارة بالتحريك، وإذا قلت: اخرج! أو قم! أو تعال! لا بد من التحريك في هذه المسائل.

فالإشارة لا تنافي التحريك، فما هو المانع أن يكون هؤلاء ذكروا الإشارة أنه إذا جلس في التشهد أشار بالسبابة، ثم ذكر زائدة بن قدامة التحريك، ولا منافاة بين هذا وذاك، فهذا الجمع أولى من أن نواسي زائدة بن قدامة وهو ثقة ثبت لا مجال لتوهيمه.

إذًا عندما تورد مثل هذه الأمثلة، وتجمع كل ما مر بك من الأمثلة على هذه المسألة وتضعه في مكانه، فيصير عندك بكثرة الجمع قناعة أن الشذوذ لابد أن تتوفر فيه المخالفة، والمخالفة لا تتأتى مع إمكان الجمع، فلو أنك وأنت تقرأ كتب الأصول كان هذا في ذهنك، وكل فائدة تقرؤها في الكتب توظفها لهذه الفنون؛ ستخرج بعد سنة أو سنتين أو ثلاث وعندك مثل هذا الكتاب مجلدات، وما يتمكن طالب العلم من تحصيل مراده إلا بالتفصيل والإسهاب؛ لأن أكثر الخلل في الفهم يأتي بسبب الإجمال.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الحويني #انتقاء-الكتب
اقرأ أيضا
مسائل حول الطلاق والسكنى | مرابط
المرأة

مسائل حول الطلاق والسكنى


أحكام الطلاق والعدد والسكنى أحكام لله لا يجوز الخروج عنها مهما بلغت البغضاء بين الزوجين فأمر الله وحده فوق ذلك كله ومن خالف تلك الحدود من الزوجين فظلمه على نفسه فالله لم يشرع الأحكام إلا لمنفعته ولو جهل ذلك أو غابت عنه حكمته وبيان ذلك في قوله تعالى: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا

بقلم: عبد العزيز الطريفي
243
من آثر الدنيا واستحبها | مرابط
اقتباسات وقطوف

من آثر الدنيا واستحبها


كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق

بقلم: ابن القيم
919
حين يكون الرد على النسوية سببا في انتشارها | مرابط
النسوية

حين يكون الرد على النسوية سببا في انتشارها


مع انتشار موجة النسوية وما تحمله من أفكار مخالفة للشريعة فإن من الواجب على المصلحين أن يعتنوا بمقاومة هذه الموجة ويبنوا أسوار الوقاية من أضرارها وينقضوا أصولها ويكشفوا زيف شعاراتها بالحجة والبرهان. غير أن بعض من يقاوم هذه الموجة يتعامل بطريقة تزيد من انتشارها بدلا من تقليصها وهذا ما يوضحه الكاتب في مقال موجز.

بقلم: أحمد يوسف السيد
822
الطاقة الذهنية | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

الطاقة الذهنية


الإنسان يملك كمية معينة من وقود التفكير وينبغي للمرء أن يكون حاذقا في صرف طاقته الذهنية في المواد المجدية يقول ابن القيم في فصل عقده في كتابه الفوائد في بيان هذا المفهوم أصل الخير والشر من قبل التفكير فإن الفكر مبدأه الإرادة

بقلم: إبراهيم السكران
457
مقصود القصص القرآني | مرابط
اقتباسات وقطوف

مقصود القصص القرآني


مما صد أكثر هذه الأمة عن تفهم القرآن ظنهم أن الذي فيه من قصص الأولين وأخبار المثابين والمعاقبين من أهل الأديان أجمعين أن ذلك إنما مقصوده الأخبار والقصص فقط كلا وليس كذلك إن ذلك إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه بمشابهة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحوال والآثار

بقلم: فخر الدين أبو الحسن الحرالي
368
الحداثة الداروينية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحداثة الداروينية


والحداثة الداروينية لها أثرها علي نسيج المجتمع وعلي منظوماته الحاكمة ولنذكر بعض الظواهر الاجتماعية السلبية المختلفة: تآكل الأسرة تراجع التواصل بين الناس الأمراض النفسية تزايد الإحساس بالاغتراب والوحدة والغربة ظهور الإنسان ذي البعد الواحد هيمنة النماذج الكمية والبيروقراطية علي الإنسان تزايد العنف والجريمة يعد قطاع السجون هو أسرع القطاعات توسعا في الاقتصاد الأمريكي

بقلم: عبد الوهاب المسيري
564