قال صاحب المنازل رحمه الله: (التعظيم معرفة العظمة مع التذلل لها، وهو على ثلاث درجات:
الأول تعظيم الأمر والنهي
وأن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يُعرَّضا لتشدد غال
ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد).
هاهنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي:
(أحدها): الترخص الذي يجفو به صاحبه عن كمال الامتثال
(والثاني): الغلو الذي يتجاوز به صاحبه حدود الأمر والنهي.
فالأول تفريط والثاني إفراط، وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين.
وكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه عن الحد، وقد نهى الله عن الغُلُو بقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ
الحَقِّ} (المائدة: 77).
أنواع الغلو
والغلو نوعان: نوع يخرجه عن كونه مطيعًا، كمن زاد في الصلاة ركعة، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات الكبار التي رُمي بها في المنجنيق، أو سعى بين الصفا والمروة عشرًا، أو نحو ذلك عمدًا.
وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار، كقيام الليل كله، وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)
يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة فإن المسافر يستعين على قطع مسافة السفر بالسير فيها، وقال: (ليُصَلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد) رواهما البخاري. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثًا. وهم المتعمقون المشددون. وفي صحيح البخاري عنه: (عليكم من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا) وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تُبغِّض إلى نفسك عبادة الله) أو كما قال.
توهين الانقياد
وأما قوله: (ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد) يريد أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليه بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد، فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه، كما قيل:
أدرها فما التحريم فيها لذاتها ولكن لأسباب تضمنها السكر
إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى... فسيان ماء في الزجاجة أو خمر
وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة، وقد حمل طائفة من العلماء أن جعلوا تحريم ما عدا شراب العنب معللًا بالإسكار، فله أن يشرب منه ما لم يسكر.
ومن العلل التي توهن الانقياد أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر فيضعف انقياده إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور. وفي بعض الآثار القديمة: (يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا)
وأيضًا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادًا للأمر، وأقل درجاته أن يضعف انقياده له، وأيضًا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلًا وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله، فقال: أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة، فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها، وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده، وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله، فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا لله، وكم عطلت لله من أمر وأباحت من نهي وحرمت من مباح! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها.
المصدر:
ابن القيم، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، 496/2