القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد

القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد | مرابط

الحمد لله، يمنح الحول كل يد تمتد ضارعة في صدق ترجوحوله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين؛ من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه الذين حفظوا للإسلام عزه ومجده، وعلى حملة العلم الذين ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فبلغ فيه كل جهده. وبعد:

 

وظيفة القراءة والفهم

فقد شغلت وظيفة "القراءة" و"الفهم والإفهام" الطاقات الفكرية للأمة الإسلامية، التي ظلت مشدودة بأحاسيسها، وخطراتها الفكرية إلى هذا "النص" قرآنا وسنة، إلى حد لا نظير له؛ حيث تأسست أجواء الفهم والتحليل والتذوق؛ لقراءة هذا النص ومقاربته، بـ"استنطاقه" و"تحليل" إشاراته، و"حراسة" مدلولات ألفاظه، فهما وتأويلا، و"ضبط" علاقة اللفظ بالمعنى، و"تقنين" دلالة المنطوق على المضمون؛ حتى تتفادى كل "تفسير مجاني" أو"تأويل إسقاطي" لهذا النص، ووقوفا ضد "كل من يدعي "قراءة" النص المؤسس للشرعية في الإسلام، بعيدا عن "قوانين التأويل" المتمثلة في طرق الاستنباط، بقواعدها اللغوية والشرعية، وبذلك أصبحت قراءة "النص" في الفكر الإسلامي قراءة تخضع لمنهج مشدود بثوابت: "مرتبطة" باللسان ومقتضياته في فهم الخطاب من جهة، و"محتكمة" إلى الشرع وحدوده من جهة ثانية، مما يؤدي إلى ما سماه الإمام الشافعي -رحمه الله- بـ "عقل المعاني".

 

القراءة الحداثية للنص الديني

ثم كانت الخطورة حينما بدأ نفر من أبناء جلدتنا، من أبناء هذه الأمة، يتناولون القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة، بقراءة عرفت بـ "الحداثية" أو "القراءة الجديدة" للنص الديني، وهي قراءة "تأويلية" تستمد آلياتها من خارج نطاق "التداول الإسلامي"، بل تأتي وفقا للتجربة الغربية في فهم النصوص، واللاهوتية منها خصوصا، فـلا تريد أن تحصل اعتقادا من النص، بقدر ما تريد أن تمارس نقدها عليه، واستخداما لنظريات لغوية حديثة (مثل: البنيوية، والتفكيكية، والسيمائية) وهي قراءات في حقيقتها اقتبست كل مكوناتها من الواقع الحداثي الغربي في صراعه مع الدين، هذا الصراع الذي آل، في الغرب، إلى الاشتغال بالإنسان بعيدا عن الله (الأنسنة) والاهتمام بالعقل خارجا عن الوحي (العقلنة)، ومراعاة للدنيا من غير نظر إلى الآخرة (الأرخنة)، ومن ثم ترتكز دعوتهم على ضرورة معالجة "النص الإسلامي" قرآنا وسنة، داخل "التقليد الكتابي" الذي ينتمي إليه، أي: التقليد اليهودي - المسيحي، مما يعني فعليا إخضاع هذا النص لمناهج النقد والتأويل التي خضعت لها "الدراسات التوراتية والإنجيلية المستحدثة في إطار الفكر الغربي، الذي يصير له عند الحداثيين "مرجعية" غير قابلة للنقاش. وجوهر ما يؤسس هذه "المرجعية" بناؤها على: "التحرر" من سلطة النص الذي تكونت في ظله ثوابت العقل الإسلامي ومحدداته، و"نزع القداسة" عنه، وعلى "القطيعة المعرفية" بينها وبين القراءات التراثية، و"الفوضى التأويلية" التي هي "تفكيك" للهوية، و"ضياع" للمعنى. وهي ملامح ومنطلقات لا تخفى مستلزماتها التطبيقية، ولا عواقبها العلمية التي تنسجم مع فلسفة الحداثة وما بعدها!

 

ومن ثم أفضت تلك القراءة الحداثية للسنة النبوية إلى:

- التشكيك في السنة؛ فهي في الخطاب الحداثي وقراءته التفكيكية لأصوله "مجموعات نصية مغلقة" ذات بنية "تيولوجية- أسطورية" حسب تعبير أركون، قد خضعت"لعملية الانتقاء والاختيار والحذف التعسفية التي فرضت في ظل الأمويين، وأوائل العباسيين، أثناء تشكيل المجموعات النصية"، كما أن هذه "المجموعات النصية" قد تعرضت لعملية النقل "الشفاهي" بكل مشاكلها، ولم تدون إلا متأخرا، وهذا الوجه "الشفاهي" قام به جيل من الصحابة، لا يرتفعون عن مستوى الشبهات، بل تاريخهم تختلط فيه "الحكايات الصحيحة" بـ "الحكايات المزورة"!

- التسوية في الاستشهاد بين السنة، وسائر الخطابات الأخرى، وإخضاعها لـ "سنن القراءة" و"مناهج" الألسنيات الحديثة، وتحليل الخطاب التاريخي ونقده، باعتبارها "نصا تراثيا" شأنها في ذلك شأن بقية النصوص، وهكذا يصبح النص النبوي نفسه موضع "المساءلة" ما إذا كان حجة أم لا، فضلا عن تضمنه رسالة للبشرية، أو كونه هدى وبشرى للعالمين!

- (عقلنة) السنة، واعتبار العقل حاكما وقاضيا عليها، وكذلك اعتبار "الواقع" حاكما على النص، ومتبوعا لا تابعا؛ فسلطة العقل في القراءة الحداثية هي السلطة الوحيدة التي يتعامل على أساسها مع السنة النبوية، بل مع النصوص الدينية كافة.

 

الفوضى التأويلية

ولعل أخطر ما في القراءة الحداثية، هو تلك: "الفوضى التأويلية وأشكلة العلاقة بين النص ولغته"؛ إذ تعتبر القرآن والسنة خطابا لغويا يخضع لآليات التفكيك والقراءة التي طبقت على مختلف النصوص، بما يعرف في العلوم الإنسانية والألسنية بـ"الهرمنيوطيقا" أو"التأويلية الحديثة" أو"نظرية تفسير النصوص"، ومن أهم مبادئ هذه "الألسنية الجديدة": التأويلات "اللامتناهية"، و"أشكلة" العلاقة بين النص المعطى ولغته، فليس لـ "قصد" المؤلف أوالنص مكان في "النظرية التأويلية" الجديدة، باعتبار أن النصوص لا تحمل أي معنى إلا ذلك الذي يصنعه القارئ ويشكله؛ مما يؤدي إلى "فوضى التفسير" و"لا نهائية المعنى" و"نسف محتوى النص" و"إبطال مقصوده"؛ في ظل الغيبات الثلاثة التي تقوم عليها "التأويلية الحديثة": (غيبة المؤلف، وغيبة المرجعية، وغيبة القصدية) وبذلك وحده سيأثر الحداثيون بتأويل النص الديني، قرآنا وسنة، ويتلاعبون بفهمه وتفسيره ومدلوله، في "باطنية" مسرفة لا ترى في "ظواهر" النصوص أكثر من رموز ومؤشرات ومدلولات كوامن بواطن، هي مركز الثقل في النص، وبدل أن يكون الهوى تبعا لمعطيات النص، يكون هوتبعا لهوانا!!

تلك هي "الرؤية" التي تحكمت في الأصول الفكرية، والمنطلقات المنهجية في "القراءة الحداثية"، وإذا نحن دققنا النظر في تلك "القراءة الحداثية" التفكيكية للنص الديني، وما طرحته من "إشكالات" حوله، وخاصة السنة النبوية، كما تقدم، نلاحظ: أن هذه القراءة -على الرغم من ادعاء أصحابها كونها قراءة ليست "تقليدية امتثالية، كما هو سائد في كليات الشريعة، وفي كل الأوساط الإسلامية دون استثناء"- في الحقيقة قراءة لا تنفصل كثيرا عن"الطروحات الاستشراقية المعهودة، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن تلك "القراءة الحداثية" قد وقعت في جملة أخطاء (آفات) منهجية، تفقدها قيمتها كما تفقد النتائج المتوصل إليها مصداقيتها؛ وذلك فيما أسميه بـ"الغيبات الأربع" والتي يمكن تمثلها على النحو التالي:

 

الغيبات الأربع

1. غياب البعد المصدري للنصوص (أزمة القراءة الحداثية مع النص الديني) ولا شك أن غياب "البعد المصدري" للنص الديني، أو"تغييبه" في القراءة الحداثية يعد خطأ منهجيا، بل يمثل "أزمة" و"خطبا" أي خطب؛ إذ النصوص الدينية لا تقبل الانفصال عن قائلها، وعن مراده؛ فالقرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، والحديث هو من الوحي الذي تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأي نظرة إلى كلام الله عز وجل، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، تستبعد "المتكلم" تقع في محاذير كثيرة، ليس أقلها عدم إدراك عظمة مصدر النص الذي يتعامل معه ويبين مراده، فهما وتنزيلا، واستنباطا واستدلالا، ومن ثم إعطاء المشروعية لكل عمليات النقد والتخطئة والمراجعة والتصحيح والتنقيح، وما يستوجب الحكم بالنقص أووجود الخلل والخطأ، وهدم مصداقيته.

2. غياب القراءة الجامعة (القراءة الحداثية المتهافتة للنص الديني)، وهذا واضح في تناولهم لبعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية المشرفة، التي تتحدث عن: حجاب المرأة، وميراثها، ومنزلتها في الإسلام، وإقامة بعض الحدود....وغير ذلك من أوهام وشبهات، مقتطعة من سياقها؛ فكانت قراءتهم لها قراءة "متهافتة" تعتمد آليات خاصة لا يستعان بها على فهم المعنى المراد للنص، ولا تؤيد الأفكار المبثوثة فيه، بقدر ما تجعله وثيقة تخدم مصالح فئة معينة، في ظروف تاريخية معينة، وهذا يخالف شرط القراءة الصحيحة التي تعامل القرآن الكريم، والسنة الشريفة "كاللفظة الواحدة"، وأن كل جزء من هذه اللفظة ينبغي النظر إليه في ضوء علاقته مع الأجزاء الأخرى.

3. غياب الإبداع الموصول (القراءة الحداثية وأزمة المنهج)، وهذه هي مشكلة الحداثة الأولى في مقاربتها النص الديني، وهي الدعوة إلى "ضرورة" قراءة النص الديني خارج "تداوله" أي: خارج نطاق أي قراءة أسبقية تراثية له، في فصل تام بين النص الديني الإسلامي، وكل القراءات الضابطة لفهمه وتفسيره في التراث العربي الإسلامي، وذلك لصالح المنهجية الغربية المسيحية في تحليل الخطاب، وقراءة النصوص؛ فراحوا يسقطون على "النص الديني" الإسلامي كل ما ظفروا به من "آليات القراءة" و"أدواتها" في نتاج الآخرين، وأطلقوا العنان لقراءة النص الديني وفهمه وتحليله، من خلالها.

4. غياب المرجعية اللغوية (القراءة الحداثية والانحراف عن معهود العرب في الخطاب)، ولعل غياب"المرجعية اللغوية" هو الخطأ بل "الخطيئة" الكبرى، ومن "الإصابات" الفكرية البالغة التي وقع فيها الحداثيون في أثناء مقاربتهم النص الديني؛ فمن ضوابط القراءة الصحيحة: أن مقاربة أي نص لغوي تستدعي الوقوف على حدود لغته التي تحمل بلاغه، ومعرفة مقاصد أصحابها في كلامهم، وأن يؤول الكلام بما يوافق "معهود الخطاب المتبادل بين المتكلمين" و"عرف المخاطب" و"عاداته المطردة".

حين يؤول أمر "النص الديني" قرآنا وسنة هذا المآل في قراءات الحداثيين؛ فإن الاحتكام إلى "منهجية" توجه القراءة، وتضبط مسارها، فهما وتفسيرا وتأويلا، وتحمي "النص" من أن يكون مجالا للتزيد والإقحام، أو العبث واللهو، وتمكن من "الفهم" الصحيح لمقاصده، يكون أمرا ضروريا، فمن لم يكن "مقياسه" مضبوطا كل الضبط، فإن المعاني تختلط عليه وتمتزج، ووقع في"التيه" الذي أدخلتنا فيه الحداثة وما بعدها! وهذه "المنهجية" محكومة بأصل عام يمثل "مرجعية" لها، وهو: أن تكون "قراءة" النص الديني الإسلامي على "طريقة العرب في خطابها" و"مسالكها في تقرير معانيها" و"منازعها في أنواع مخاطباتها" و"عادات اللسان العربي في الاستعمال، وخصوصياته في توزيع المعاني على الألفاظ" وأن يفهم وفق مدلوله العربي الذي يتبادر إلى الذهن، من دون لي ولا إغراب، ولا تعطيل لمغزى، أو إقحام لمعنى.

 

لسان العرب وخطابهم

و"معهود العرب في كلامها" و"مهيعها" في "مقاربته" و"تلقيه" أراه يقوم على"الضوابط" الآتية:

أولا: سلطة النص (ضبط العلاقة بين القارئ وفقه النص): والمراد بـ"سلطة النص" هي: قدرته على تحقيق "معنى" ما، يتمتع بقدر من الإلزام، ويقبل التثبيت؛ حتى ينضبط الفهم، ويصح الاستنباط، من خلال المعطيات التي يقدمها "النص" نفسه، ومن ثم فحدود "سلطة" القارئ مع النص -وخاصة النص الديني- تكمن في: "الإصغاء إلى النص" و"اكتشاف دلالاته" و"التفهم لمعناه" ثم "التعبد بمقتضاه"، وقد قننت كتب الأصول والتفسير وشروح الحديث "آليات" القراءة التفسيرية والتأويلية، و"معاييرها" من خلال الضوابط الكفيلة بالارتباط بـ "النص" والفهم عنه، واستثمار معناه، و"الغوص" في أعماق الدلالة "دلالة النص، ودلالة معقول النص" حتى صار "النص" في الفكر الإسلامي أحد "الأحباس" أي: الأوقاف، التي لا يجوز التصرف فيها بحال.

ثانيا: معنى النص (ضبط العلاقة بين نهج الاستباط ومسألة القصد): لا أبعد إذا قلت: إن "فقه البلاغ اللغوي" قائم  في الفكر الإسلامي على البحث عن المعنى الذي يحمله النص؛ فالمفسر "يطلب" المعنى، والنحوي "يوفر الأداة" من أجل الإبانة عنه، والفقيه أو عالم الأصول "يقنن" طريقة الاستنباط منه، ومنهج الفقه فيه، والجميع يبحث عن "الفهم الأوفى" انطلاقا من الظاهرة اللسانية، أوالبلاغ اللغوي! يقول الشاطبي:" فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب؛ لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني الخطاب ابتداء، وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة؛ فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي" الموافقات، (2/88-89). فينبغي العناية بمسألة "القصد" الذي "يؤم"، و"مراد" المتكلم و"غايته" من الكلام.

ومن أهم الأمور التي توقف على "مقصد" الكلام: "القراءة الجامعة" التي تضع الجزئيات في إطار الكليات، وتردف الفروع بأصولها، و"القرائن" و"مقتضيات الأحوال" المحيطة بالنص، واستبصار ما سيق الكلام له، وما تعلق به من معان، وما هدت "القرائن" إليه، أوما منعت منه وصدت عنه، والوقوف على: "عرف المتكلم" و"عادته في خطابه".

ثالثا: مسالك استثمار النص (جدلية العلاقة بين المنطوق والمفهوم): فالمقصود الشرعي يؤخذ من "منطوق" النص كما يؤخذ من "مفهومه"؛ إذ قد يكون المعنى مستنبطا بطريق الفحوى، ولزوميات الكلام، وتداعي المعاني، وهذا معناه، كما يقول الأصوليون: أنه يجب "استثمار" كافة طاقات النص، انطلاقا من اللفظ، وطرق دلالته على المعنى؛ عبارة وإشارة، ودلالة واقتضاء، ومفهوما موافقة ومخالفة. ومعنى ذلك: أن المعاني المستفادة من النص نوعان: "معان هن بنات ألفاظ" تؤخذ من الوضع الأصلي للألفاظ، و"معان هن بنات معان!" تؤخذ من "فحوى الكلام" و"بساط التخاطب"، ويجب عند قراءة النص مراعاة ذلك.

رابعا: التأويل (توجيه النص وإشكالية تعدد المعاني بين "حركة" اللفظ و"منطق" المعنى): قد يحتمل النص "تأويلات مختلفة" فتتعدد فيه "دروب" الفهم، وتتنوع فيه "المعاني"، ولما كان "التأويل" المغرض "انحرافا" بالمقروء، ووقوعا في "التيه" و"الضلال"، فقد تنبه المفسرون القدامى، وعلماء الأصول، وشراح الحديث إلى "التأويل" حين يجور على"المقاصد"، فكان لهم "ضوابط" موصولة في جانب منها بـ "قواعد اللسان"، وفي جانب آخر بـ "منطق المعنى" تقوم على: أن "التأويل" ينبغي أن يكون "منقادا" يعضده مرجح قوي من "دليل" صحيح؛ فإذا لم يكن ثمة دليل فلا يجوز صرف الكلام عن ظاهره، كما يفعل الباطنية قديما وحديثا.

- عدم الخروج عن "سنن" النص في لغته، وعرف استعماله، وتحميله ما لا يحتمله، منطوقا أو مفهوما؛ فكل "تأويل" للنص مقبول "ما لم يخرج من اللسان، فإن خرج فلا فهم ولا علم".

- أن يأتي "التأويل" ضمن العناية بـ "مراد" المتكلم، و"مقاصد" خطابه، والاحتكام فيه إلى "منطق المعنى"، فالتأويل في الفكر الإسلامي ليس "فلسفة" للفهم المفتوح، و"التعري عن مأخذ الكلام" كما في القراءة الحداثية للنصوص، بل هو جهد ذهني مقيد بـ "منطق" النص الشرعي ذاته، و"إرادته" من النص، ويكون جهد "المتأول" التردد بين المعاني المتعددة؛ لمعرفة الحكم استنباطا، وهو ما نبه عليه الإمام ابن تيمية رضي الله عنه في رده على الباطنية في تأويلاتهم بعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: "والتأويل المقبول هو ما دل على مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها (أي: الباطنية) لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار -في عامة النصوص- أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات: القرامطة والباطنية، من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص، وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم، كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب، هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد" (درء تعارض العقل والنقل، 1/201).

 

خصائص النص الديني وقراءة العلماء

وبعد؛ ففي ضوء خصائص النص الديني، قرآنا وسنة، جاءت قراءة علمائنا -رحمهم الله- له، من حيث هو دين الله وشرعه، وحلاله وحرامه؛ فكانت قراءة "مضبوطة" و"واعية" لا قراءة "مفجرة" للنص، "مهدرة" لسياقه ومقاصده، وقد نقل العلامة الونشريسي في ذلك وصية جامعة لمن رام قراءة النص الديني وتأويله، تضبط النظر الفقهي الشرعي، فهما وتعقلا، واستخراجا واجتهادا، وترجيحا وتنقيحا، وتنزيلا وتفعيلا، فقال:" ولا تفت بالنص إلا أن تكون: عارفا بوجوه التعليل، بصيرا بمعرفة الأشباه والنظائر، حاذقا في بعض أصول الفقه وفروعه. واحفظ: الحديث تقوحجتك، والآثار يصلح رأيك، والخلاف يتسع صدرك، واعرف العربية والأصول، وشفع المنقول بالمعقول، والمعقول بالمنقول" (المعيار المعرب، 6/377.).

وهذا من الفقه الثمين جدا، الذي ينبغي أن تربى عليه نفس المسلم، فيتهيب تأويل "النص الديني" دون أن يملك الأدوات التي تؤهله لذلك، وبدونه يصبح "النص الديني" سوقا مفتوحا يدخله من شاء؛ ليستنبط منه ما يشاء، كما في القراءة الحداثية، ومن ثم كانت "إعادة تقويم" الخطاب الحداثي في تعامله مع النص الديني- وهو ما يقوم على بيانه هذا البحث- عملا مشروعا من الناحية "الدينية"، ومن الناحية "المعرفية" أيضا؛ لأنه قد طال زمن الغربة والضلال والتيه، وقديما قالت العرب في كلامها: "من رام التفلت طال منه التلفت، ويوشك أن ترهقه المتاهات، وتتلفه العوائق"! ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 


 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
معنى الثقافة في التاريخ | مرابط
اقتباسات وقطوف

معنى الثقافة في التاريخ


لا يمكن لنا أن نتصور تاريخا بلا ثقافة فالشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتما تاريخه. والثقافة -بما تتضمنه من فكرة دينية انتظمت الملحمة الإنسانية في جميع أدوارها من لدن آدم- لا يسوغ أن تعد علما يتعلمه الإنسان بل هي محيط يحيط به وإطار يتحرك داخله

بقلم: مالك بن نبي
341
مفهوم الهداية | مرابط
اقتباسات وقطوف

مفهوم الهداية


مقتطف ماتع للدكتور سلطان العميري حول مفهوم الهداية والذي يفهمه كثير من المسلمون بشكل خاطئ ويحصرونه في الأمور الدينية فقط بينما يحتاج الإنسان إلى أنواع كثيرة من الهدايات في حياته يوضحها لنا ويسردها بشكل موجز

بقلم: سلطان العميري
569
عداء اليهود للمسلمين الجزء الأول | مرابط
تفريغات

عداء اليهود للمسلمين الجزء الأول


تمكن المسلمون من فتح الأندلس ثم خرجوا منها وليس ذلك بسبب قوة أعدائهم وإنما بتفرق كلمتهم وتجزئهم وانقسامهم فأزال الله سبحانه وتعالى دولتهم وخرجوا من تلك الديار بعد أن عمروها مئات السنين واليوم في وسط بلاد المسلمين تقوم دولة لليهود اغتصبت جزءا من ديار المسلمين في أول الأمر ثم زادت عليه فأخذت فلسطين كلها وأخذت أجزاء أخرى من بلاد المسلمين وهي تطمع غدا في احتلال الأردن وسوريا ومصر والعراق وتصل إلى منابع النفط وإلى المدينة المنورة وإلى خيبر حيث كان يقيم آباؤهم وأجدادهم في الماضي

بقلم: عمر الأشقر
1134
الموقف من آيات الصفات | مرابط
تعزيز اليقين

الموقف من آيات الصفات


وأما ما ورد من آيات الصفات وأحاديثها فالذي يفهم منها هو أن لله جل ذكره مطلق يد ووجه ونحو ذلك مما ورد أما أن يدل على ماهية أو كيفية ونحوها فلا بل لو قيل: إن ملكا من الملائكة له رأس لما فهم منه إلا أن له رأسا فحسب فأما تفصيله فكلا

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
310
الوسائل المعينة على القيام لصلاة الفجر في جماعة ج1 | مرابط
تفريغات

الوسائل المعينة على القيام لصلاة الفجر في جماعة ج1


نريد أن نصلي الفجر في جماعة كل يوم وهناك وسائل تساعدنا على المحافظة على صلاة الفجر والابتكار في هذه الوسائل يا إخواني مفتوح فأي شخص عنده وسيلة توقظ لصلاة الفجر فلينصح بها وبين يديكم مجموعة من الاقتراحات التي قدمها الدكتور راغب السرجاني في محاضرة هامة عن صلاة الفجر

بقلم: د راغب السرجاني
690
الضابط في الأمور المحدثة | مرابط
مقالات

الضابط في الأمور المحدثة


إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه الناس مصلحة نظر في السبب المحوج إليه: فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض زال بموته.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
270