حقيقة التوكل على الله تعالى هي أن تبذل ما تقدر عليه من أسباب ومع ذلك تفوض أمرك إلى الله تعالى ثقة في أنه المدبر لكل شيء، وأنه لا خير إلا خيره، وأنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن الله تعالى إن لم يعاملك بفضله وإحسانه فلا أقل من أن يعاملك بعدله، وأما الظلم فسبحانه تعالى أن يدخل تقديره، فإذا تخلف ما يأمله العبد من خيري الدنيا والآخرة فإنما هو لأجل تقصيره وتخاذله عن القيام بما هو في وسعه مما أمره الله به، ولأجل ضعف توكله وثقته في الله تعالى.
فأما دعوى التوكل مع ترك الأسباب فإنما هي في الحقيقة عجز وكسل، وأما الاعتماد على الأسباب دون تفويض الأمور إلى الله وحسن تدبيره، أو مع ضعف تفويض الأمور إليه فإنما هو شرك ينافي توحيد الله تعالى، إما في أصله وإما في كماله، بحسب ما يقوم بقلب العبد من ذلك.
والتوكل على الله تعالى بهذا المعنى والثقة في الله تعالى في أن يختار لعبده ما هو الخير له في أمر دنياه وآخرته قرينان لا يتخلف أحدهما عن الآخر، وكلما قوي توكل المؤمن على ربه زادت ثقثه في الله تعالى حتى لا يصبح يبالي ما يقدر الله له، لعلمه أن الخير هو فيما يختاره الله له.
توكل الأنبياء
وأنبياء الله تعالى هم الذين حققوا هذا المقام كما ينبغي، فكان من تقدير الله لهم أن جعل من عاقبة أمرهم ما هو من آيات الله في تدبيره لخلقه، فكانوا بذلك في مقام الأسوة والقدوة لعباده المؤمنين، وأن من اقتدى بهم واستن بسنتهم فلا شك أن الله يعامله بأن يكون له في عاقبة أمره من جنس ما كان لهم من العاقبة الحسنة، وأن المؤمن إذا استقام على طريقتهم في الثبات على أمر الله تعالى مع تفويض الأمور إليه أثابه الله من الخير والكرامة بما لم يظنه ولم يخطر له على بال.
نموذج إبراهيم عليه السلام
فإبراهيم عليه السلام وهو يساق إلى النار ليحرق فيها لم يكن يخطر له أن تنقلب حرارة النار إلى برد وسلام يناقض طبيعتها، وإنما كان معه الثبات على أمر الله تعالى بإظهار التوحيد وإبطال الشرك مع الثقة في أن عاقبة أمره مع قومه ليست متوقفة على مجرد تدبيرهم وكيدهم وإنما على ما يختاره الله له.
نموذج موسى عليه السلام
وموسى عليه السلام وهو يقود بني إسرائيل للنجاة بهم من ظلم فرعون وقومه لم يكن يعلم والبحر أمامه والعدو خلفه كيف سينجيه الله تعالى، وإنما كان معه الثبات على أمر الله تعالى بإخراج قومه، مع الثقة في الله في أنه سيهديه وقومه إلى طريق النجاة، وحين دب الخوف والخور إلى قلوب بني إسرائيل وهم ينظرون إلى أنه لا نجاة لهم من الهلاك، فهاجوا واعترضوا على موسى عليه السلام بقولهم:" إنا لمدركون "، لكن ذلك لم يزعزع ثقة نبي الله موسى عليه السلام في وعد الله له ولقومه بالنجاة، وإن لم يدرك حينها كيف ستكون، ولم يخطر له حينها أن البحر الذي هو مظنة الغرق والهلاك سيكون طريقا سالكا مأمونا يخرجون منه إلى الضفة الأخرى، ومع هذا الموقف العصيب جاء جوابه وثقته في الله تعالى فخاطب قومه بما يجب عليهم من الثبات على أمر الله وانتظار الفرج منه توكلا عليه وتفويضا للأمور إليه فقال:" كلا إن معي ربي سيهدين ".
نموذج محمد صلى الله عليه وسلم
والنبي ﷺ وهو في الغار ومعه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه في طريقهم للهجرة إلى المدينة النبوية، والمشركون واقفون فوق الغار، وأبو بكر رضي الله عنه يحذر النبيﷺ بأن المشركين لو نظروا إلى موضع أقدامهم لرأوهم، وفي هذا الموقف الحرج يأتي جواب النبيﷺ الواثق في نصر الله لهما فيقول لأبي بكر:" لا تحزن إن الله معنا "، فليس بعد الثبات على أمر الله تعالى لرسوله ﷺ بالهجرة وبذل الأسباب في ذلك مع الثقة في تحقيق موعود الله تعالى إلا طمأنة أبي بكر رضي الله عنه بألا يحزن، لأن الله الذي بيده تدبير كل شيء هو الذي سينجيهم ويخلصهم من كيد أعدائهم، وإن كانوا في غاية القرب منهم، وجاء في الصحيحين أنه قال له:" ما ظنك باثنين الله ثالثهما "، وأما كيف سيكون ذلك، وما الطريقة التي ينجون بها فليست من شأنهم، وإنما هي من تدبير الله وحده.
ثم كان من أمر سراقة في لحاقه بالنبي ﷺ وأبي بكر رضي الله عنه ما كان، وأنه لما رأى أن أقدام فرسه قد ساخت لدعوة النبي ﷺ عليه وقع في قلبه أن الله سيظهر أمره، وطلب من النبي ﷺ أن يتركه يعود ولا يدعو عليه، فكان من شأنه أنه صار يصرف الناس عن أن يطلبوا النبي ﷺ في الجهة التي جاء منها، فانقلب حاله بتدبير الله تعالى من عدو يُخشى بأسه إلى منافح عن النبيﷺ يصد الناس عن إلحاق الأذى به وبصاحبه.