يقول الدكتور محمد عبد الله دراز:
و[حوادث] أخرى كان يجيئه -أي الرسول صلى الله عليه وسلم- القول فيها على غير ما يحبه ويهواه، فيخطّئه في الرأي يراه، ويأذن له في الشيء لا يميل إليه، فإذا تلبث فيه يسيرًا تلقّاه القرآن بالتعنيف الشديد، والعتاب القاسي، والنقد المُر، حتى في أقل الأشياء خطرًا ..
"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ"
"وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ"
"عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ"
"مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ"
"مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"
"أَمَّا مَنِ استغنى فَأَنتَ لَهُ تصدى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى"
أرأيت لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وُجدانه، معبرة عن ندمه ووخز ضميره حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه.. أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع؟ ألم يكن له في السكوت عنها ستر على نفسه، واستبقاء لحرمة آرائه؟ بلى إن هذا القرآن لو كان يفيض عن وجدانه لكان يستطيع عند الحاجة أن يكتم شيئًا من ذلك الوجدان، ولو كان كاتما شيئًا لكتم أمثال هذه الآيات، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه "وما هو على الغيب بضنين"
العتاب في آية الأنفال
وتأمل آية الأنفال المذكورة، تجد فيها ظاهرة عجيبة، فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد بدئت بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها وتطييب النفوس بها، بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها، فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام -لو كان عن النفس مصدره- يمكن أن يصدر عنها آخره ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستسحان؟
كلا، وإن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضرابا عن الأول ماحيا له، ولرجع آخر الفكر وفقا لما جرى به العمل، فأي داع دعا إلى تصوير ذلك الخاطر الممحو وتسجيله على ما فيه من تقريع علني بغير حق؟ وتنغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالا طيبة؟ إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن -ها هنا- ألبتة شخصيتين منفصلتين، وأن هذا صوت سيد يقول لعبده: لقد أسأت، ولكني عفوت عنك وأذنت لك.
وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي وقع العتاب عليها لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه عليه السلام كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إثما اختار أقربهما إلى رحمة اهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشبه في دين الله، لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحا، أو جاوزه خطأ ونسيانا، بل كل ذنبه أنه مجتهد بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرا فتخير، هبه مجتهدا أخطأ باختيار خلاف الأفضل.. أليس معذورا ومأجورا؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية وإنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية.
هل ترى في ذلك ذنبا يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟
الصلاة على المنافين
توفي عبد الله بن أبي كبير المنافقين، فكفنه النبي في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر، رضي الله عنه، أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني ربي، فقال "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة" وسأزيده على السبعين، وصلى عليه..
فأنزل الله تعالى "ولا تصلي على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره" فترك الصلاة عليهم -اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين وانظرا ماذا ترى؟- إنها لتمثل لك نفس هذا العبد الخاضع وقد اتخذ من القرآن دستورًا يستملي أحكامه من نصوص الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر النص الأول تخييرا له بين طريقين فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم والرحمة، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع.
وهكذا كلما درست مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن في هذه المواطن أو غيرها تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضة ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن، معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض بل تصدع بالبيان فرقانا بين الحق والباطل، وميزانا للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، رضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا؛ إذ لا تزيدها طاعة الطائعين ولا تنقصها معصية العاصين، فترى بين المقامين ما بينهما.. وشتان بين سيد ومسود، وعابد ومعبود.
المصدر:
- د. محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم، ص 96