شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1

شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1 | مرابط

الكاتب: محمد ناصر الدين الألباني

612 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

حديثنا في هذه الليلة يبدأ بالحديث الرابع من باب الترغيب في الخوف وفضله، والحديث صحيح كما سيدلكم تخريجه.

قال المؤلف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا، فلما مات فُعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك. ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغُفر له).

وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مت فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله تعالى له) رواه البخاري و مسلم، ورواه مالك و النسائي بنحوه.

هذا الحديث يتضمن من غرائب الحوادث والوصايا التي كانت تقع في الزمن السابق ما قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يقع فيه من الغرائب والعجائب التي إما أنه لم يعد يقع مثلها بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لحكمةٍ أرادها الله، وإما أنه قد يقع شيء منها ولكن لا يبلغنا خبرها؛ لأنه ليس لنا هناك من يستقصي هذه الأخبار إلا الخالق لأصحابها وأصحاب العلاقات بها، ثم هو يوحي بها إلى نبينا المعصوم عليه الصلاة والسلام، ثم هو يبلغها أمته موعظةً وذكرى.

من أجل ذلك أخرج البخاري و مسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار).

الشاهد هو الفقرة الوسطى من هذا الحديث، ألا وهي قوله عليه السلام: ( وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) وإن من خير ما يحدث به أحدنا اليوم عن بني إسرائيل هو ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما صحت الأسانيد بذلك عنه عليه الصلاة والسلام.

فهذا الحديث -كما سمعتم- فيه عجيبة من تلك العجائب، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت ) في رواية أخرى: (لم يعمل خيرًا قط) وفي هذه الرواية الأولى استمر في إسرافه على نفسه، وظلمه لها، حتى حضره الموت، أي: لم يكن من أولئك الذين يقضون شطرًا من حياتهم في الإسراف في الفسق والفجور، ثم قبيل وفاتهم يرجعون إلى الله تبارك وتعالى ويتوبون إليه، هذا الإنسان لم يكن كذلك، وإنما استمر في إسرافه وفي ظلمه لنفسه ومعصيته لربه حتى حضره الموت، لكنه لم يكن من أولئك الناس المغرورين الذين يسيئون العمل ثم يرجون من الله تبارك وتعالى المغفرة، هكذا كثير من المسلمين اليوم مع الأسف الشديد، يتواكلون على مغفرة الله عز وجل، ولا يتعاطون من الأعمال الصالحات ما بها يستحقون مغفرة الله تبارك وتعالى.

فهذا الرجل كان معترفًا بتقصيره وبجنايته على نفسه، ومع ذلك فيبدو من هذه القصة العجيبة أنه كان إيمانه لا يزال حيًا في قلبه، وكان لا يزال فيه شيء استحق به أن ينال مغفرة الله تبارك وتعالى، مع أنه سلك سبيلًا ربما لم يسلكه أحدٌ قبله ولا أحدٌ بعده، ذلك أنه أوصى بهذه الوصية الجائرة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني) ولم يقنع بهذا، ثم قال: (اطحنوني) تصورًا منه أن الحرق قد لا يأتي على عظامه كلها، فيبقى هناك شيء قائم من هذه العظام، فتأكيدًا لما خيل له من وسيلة للنجاة من عذاب الله عز وجل، قال لهم: (اطحنوني) وهذا باعتبار ما كان، كان إنسانًا قويًا، فمات فأمرهم بأن يحرقوه بالنار، ثم أكد لهم ذلك بأن يطحنوه، ثم يأخذوا الحاصل من ذلك الحرق والطحن وهو أن يصبح رميمًا، قال: (ثم ذروني في الريح).

وفي رواية أخرى فيها توضيح كما سمعتم وسيأتي أيضًا: أنه أمر بأن يذَرُّوا، أو يذْروا -روايتان- نصف الرماد هذا في البر ونصفه في البحر، مبالغة في أن يضيع على الله عز وجل في زعمه الضال، قال: (ثم ذروني في الريح) لماذا أوصى بهذه الوصية الجائرة الغريبة؟

حلف وبين فقال: (فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا) أي: من المسرفين على أنفسهم، (فلما مات فعل به) وهنا يظهر نوع من الطاعة من الأولاد للآباء، طاعة متناهية، ولكن يظهر أنه لم يكن عندهم في شرعهم أن مثل هذه الوصية هي وصيةٌ جائرة لا يجوز الإيصاء بها، وإذا ما أوصى بها جائرٌ كهذا فلا يجوز للموصى له أن ينفذها؛ لأنها مخالفة لشريعة الله عز وجل، فتنفيذ هؤلاء الأبناء لوصية أبيهم هذا يحمل على وجه من وجهين:

الأول: أنه ربما لم يكن في شرعهم أن هذا لا يجوز.

الوجه الآخر: أنه إذا كان ذلك في شرعهم فهؤلاء لم يكونوا على علم بذلك، ولذلك بادروا فنفذوا وصية أبيهم هذه.

قال عليه الصلاة والسلام في تمام الحديث: (فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك) بعد أن تفرقت ذرات هذا الإنسان المحرق بالنار والمذرو في الريح وفي البحر، قال لكل من البحر والأرض اليابسة: اجمعي ذرات فلان، وقال لها: كوني فلانًا، فكانت بشرًا سويًا، فقال سبحانه وتعالى مخاطبًا لهذا الإنسان بعد أن أعاده كما كان: (ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له) وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مت فحرقوه ) انتقل من الخطاب إلى الغائب، قال: (إذا مت فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله تعالى له).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
باب الشهوة: تعس عبد الدرهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

باب الشهوة: تعس عبد الدرهم


والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف فيبقى القلب مغمورا فيما يهواه ويخشاه غافلا عن الله رائدا غير الله ساهيا عن ذكره قد اشتغل بغير الله قد انفرط أمره قد ران حب الدنيا على قلبه كما روي في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطي رضي وإن منع سخط

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
425
محاسن الإسلام في الأبواب التي يلج منها المشككون فيه | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

محاسن الإسلام في الأبواب التي يلج منها المشككون فيه


إذا تأملنا في الشبهات المثارة ضد تشريعات الإسلام وأحكامه العملية فإننا نجد أنها تمر -في الغالب- من ثلاثة أبواب: وهي الجهاد والمرأة والحدود وإذا أمعناالنظر في كل باب من هذا الأبواب من جهة مقاصدها التشريعية وتفصيلات الأحكام المتعلقة بها فسنجد فيها من الحكمة والحسن والجمال ما يصح لنا أن نفخر به لا أن نواريه ونخجل منه

بقلم: أحمد يوسف السيد
861
بيان سنن الله في الكون | مرابط
تاريخ تفريغات

بيان سنن الله في الكون


هذا البيان الذي جاء من عند الله تعالى ببيان سننه وببيان المعادلة الواضحة بين الحق والباطل وبيان الفرق الشاسع بين أهل الجنة وأهل النار بيان أي: إيضاح يحتاج الناس إليه فهو علم من علم الله تعالى وهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك هذا بيان للناس.

بقلم: محمد الحسن الددو الشنقيطي
300
واجب الأخوة في الله | مرابط
تفريغات

واجب الأخوة في الله


فالإنسان يجب أن يكون بالنسبة لأخيه مرآة له يريه ويبصره بما يرى على سبيل التناصح فالنصيحة واجبه بيننا أما إن كانت علاقاتنا عاطفية أو أخوية تتجرد عن التناصح وعن تسديد الأخطاء وعن بيان الواجب في الدعوة إلى الله فإننا مع الزمن تتضخم لدينا الأخطاء ولا نستفيد من هذه العلاقة إلا راحة نفسية يجدها الإنسان عندما يرى إخوانه ولا شك أن هذه الراحة مطلوبة

بقلم: سفر الحوالي
399
التوحيد معجزة الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين

التوحيد معجزة الإسلام


أما الغلو في الحرية والتهتك وراء الشهوات البهيمية- فلا تجيزه الشريعة الإسلامية. والدين الإسلامي هو الدين الذي يعمم النظام بين الورى ويقمع النفس عن الهوى ويحرم إراقة الدماء والقسوة في معاملة الحيوان والأرقاء ويوصي بالإنسانية ويحض على الخيرات والأخوة.

بقلم: د. عبد المعطي أمين
338
كذب الفلاسفة | مرابط
مناقشات

كذب الفلاسفة


ولا بد لنا أولا قبل المضي في الحديث أن نبرر هذا الاهتمام بالفلاسفة: لماذا الحديث عن كذب الفلاسفة؟ ولماذا هذا التدقيق والتنقيب عن الخطايا الشخصية لدى هذا الصنف من الناس؟ الجواب يكمن في حقيقة خطرة وجوهرية وهي أن اللغة الفلسفية والخطابات التجريدية توهم بوجودها المستقل عن الذوات التي شيدتها فهي تشعر الدارس لها بنقاء أسطوري وأصالة مزعومة وتكرس قدرا واسعا من اشتغالها التأويلي للبرهنة على عموميتها النظرية وعمق موضوعيتها المعرفية

بقلم: عبد الله الوهيبي
306