وقد علّق الإمام ابن كثير على الآية الأولى وهي قول المنافقين ومن فيهم شعبة نفاق حين ادلهمت الأزمة الأمنية "ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا" تعليقًا مشبعًا بالبلاغة، حيث قال: أما المنافق فنَجَم نفاقُه، والذي في قلبه شبهة أو حسِيكَة ضَعُف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه؛ لضعف إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال.
وشعب النفاق كما هي شعب الإيمان؛ كلاهما يُعرف بالتوسم في الأمارات والأحوال والآيات والعلامات، كما قال سبحانه وتعالى في سورة محمد "وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ" وأشار النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى بعض أمارات شعب النفاق وشعب الإيمان في الصحيحين، فقال "آية الآيمان حب الأنصار، وآية النفاق بعض الأنصار"
وهذه العلامات والآيات تورث التهمة، فتقوى وتضعف بحسبها، وقد كان الصحابة خلا حذيفة لا يعلمون أسماء المنافقين تعيينًا، بل كان النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يعرف بعضهم، كما قال سبحانه "لا تعلمهم نحن نعلمهم" وإنما كان الصحابة يعلمون كثيرًا منهم بحسب هذه الأمارات، فيكون فيهم متّهم بذلك، ولذلك؛ فإن كعب بن مالك، رضي الله عنه، حين تخلف عن الغزاة في قصته الشهيرة ذكر أنه لم يجد في المدينة إلا من كان متهمًا ومغموزًا بالنفاق، كما في الصحيحين عن كعب أنه قال: فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فطفت فيهم؛ أحزنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق"
أي: مطعونًا عليه في دينه ومتهمًا بالنفاق، كما ذكر غير واحد من شراح الصحيح.
ومن تدبّر شعب النفاق التي ذكرها الله في مواضع متفرقة من القرآن، خصوصًا مطلع البقرة والتوبة والأنفال، ونحوها من السور المدنية؛ علم سر قلق الصحابة من النفاق، فالصحابة لم تكن خشيتهم الأساسية أن يبطنوا الكفر ويظهروا الإسلام، فهذا أمر ظاهر، وإنما كانوا يخشون أن يقع أحدهم في شعبة من شعب النفاق الدقيقة، ولذلك وصف التابعي الجليل ابن أبي مليكة حالهم، فقال كما في صحيح البخاري: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه"
ومما يبين ويوضح أن قلقهم الأساسي لم يكن من النفاق الخالص المحض، وإنما كان من شعب النفاق الخفية، تتمة هذا الأثر، حيث يقول ابن أبي مليكة: ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل"
فتبين أنهم عنوا نقص الإيمان الكامل بما يعارضه من شعب النفاق، وإنما كانت خشيتهم من شعب النفاق؛ لأن شعب النفاق قد تتجارى بالإنسان حتى تهلكه، فيزداد وارد هذه الشعب حتى يضعف المحل عن احتمالها فيخرج منه نور الإيمان والعياذ بالله، كما قال سبحانه وتعالى "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا"
المصدر:
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني