من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج3

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج3 | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

672 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

من ضياع الأمانة: تصدر أهل الجهل للفتوى والعلم

هل الصحابة كانوا يفعلون مثل هذا؟! لا. القرآن عند الصحابة كان غاليًا.. هذه هي الأمانة.. أن تعظم كلام الله عز وجل الذي أنت تأخذ منه الأحكام والآداب، الذي هو رائدك إلى الجنة، فإذا وجدت مثل هذه الخيانات في شتى المجالات، في الأحكام الشرعية، وفي التوحيد، وفي الآداب، وفي السلوك وفي مثل هذه الأشياء فاعلم أن الساعة قد اقتربت.. (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة).

فاللفظ مجمل.. -وأغلب الإشكال يأتي من الإجمال- فلم يقنع هذا الرجل بهذا الإجمال فكرر السؤال مرة أخرى يستفسر، فقال هذا الأعرابي: (كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

إذًا: كل شيء من الخلاف سببه كلام الجاهل في غير فنه، ولله در من قال من علمائنا: لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف، فمثلًا لو أن شخصًا في زماننا لا نشهد له بالعلم ألف كتابًا، وأتى فيه بأقوال شاذة. ثم مر عليه خمسمائة عام فعثر على الكتاب شخص وقال لك: وجدنا مخطوطة لأحد أئمة الإسلام، وأخرج المخطوط وحققه، هذا الشخص الذي هو كان عندنا في زماننا لا يساوي فلسًا، بعد خمسمائة سنة سيبقى شيخ الإسلام.. الإمام العالم العلامة، الحبر الفهامة، البحر، قوي العارضة، شديد المعارضة، ألقاب يضعونها لهؤلاء، فيقوم هذا الرجل الذي ما كان يساوي شيئًا فيصير حجة بعد الزمن الطويل، لماذا؟ لأن كل يوم يمر علينا العلم يتناقص، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من أشراط الساعة أن يرفع العلم، وأن يكثر الجهل، ويكون للقيم الواحد خمسون امرأة).

فهناك مناسبة ما بين كثرة الجهل والنساء، لماذا؟ لأن العلم هذا تبع الرجال، والجهل يكثر في أواسط النساء جدًا أكثر من الرجال بألف درجة، فمن كثرة الجهل بأحكام الشرع أصبح لهذا الرجل خمسون امرأة، يعني: الحكم الشرعي أن الرجل له أربع حرائر فقط، لكنه من شدة الجهل بالأحكام -فهذا أحد المعاني في الحديث- أن الرجل يتزوج خمسين امرأة بسبب الجهل، لأن الكل جاهل والعلم رفع.

والمعنى الثاني: أن هذا يدل على قلة الرجال حتى أن الرجل الواحد تلوذ به خمسون امرأة، فيطعمهن ويرعاهن لعدم وجود من يقوم بحال النساء في ذلك الزمان.

فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله)، فهذا الزمان عندما ترى مفتيًا جاهلًا يتصدر للإفتاء للعوام، كم سيحصل من الشر المستطير بسبب فتوى هذا المفتي، ولا نقصد بهذا المفتي أنه لابد أن يكون له منصبًا رسميًا لا. أي رجل تصدى للإفتاء، والعلماء عندما يقولون: (مذهب العامي مذهب مفتيه) ليس المقصود مفتي البلد، بل مذهب المفتي الذي سأله السائل، فعندما يأتي جاهل يفتي في دين الله عز وجل وهو لم يحط بالمسألة علمًا يضل الناس، والسلف كان لهم كلمة تقال: (إذا زل العَالِم زل بزلته عَالَم).

ومن أكبر وسائل الإضلال عدم التمييز ما بين العالم وشبيه العالم، مثل العالم الجاهل كشخص يلبس فروة أسد وهو جبان، فهو أخذ سمت الأسد ورسمه، لكنه ما أخذ قوة قلبه ولا شجاعته، كذلك المدعون للعلم يلبسون العمامة والزي الذي هو زي العلماء، لكن ليس عندهم علم تحت هذا الزي!

فهذا يذكرني بقصة لطيفة جدًا ذكرها أصحاب الأدب، ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني عن شاعر من طبقة الشعراء الصعاليك، لقبه تأبط شرًا ، هذا لقبه المشهور به، واسمه ثابت بن جابر .. وهذا الشاعر أحد ثلاثة من أشهر طبقة الشعراء الصعاليك منهم الشنفرا صاحب اللامية الرائقة الجميلة الذي أولها:

أميطوا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل

وفي هذه اللامية بيت جميل آخر يقول:

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خالف الخِلى متحول

فـالشنفرا أحد الشعراء الصعاليك، وتأبط شرًا أيضًا أحد الشعراء الصعاليك، لقب بهذا اللقب لأنه كان يمشي في طريق فوجد الغول على هيئة خروف، فأخذه ووضعه تحت إبطه، فلما ذهب به إلى أهله، قالوا له: يا ثابت ! قد تأبطت شرًا، فنفضه فإذا هو الغول، يعني: قصة خرافية، المهم أن تأبط شرًا كان قصيرًا ونحيفًا وذميمًا، ولكنه كان مرعبًا مثل الأسد المفترس، الناس كلها تخاف منه، فقابله رجل ثقفي أحمق، فقال: بم ترعب الرجال يا ثابت وأنت ذميم وضئيل؟

قل لي: ما هو السر الذي معك حتى ترعب به الكل؟ قال له: ليس هناك سر أبدًا، إنما اسمي هو الذي يرعبهم، عندما ألقى الرجل، أقول له: أنا تأبط شرًا ؛ فينخلع قلبه، فآخذ منه ما أريد.. قال له: بهذا فقط! قال له: بهذا فقط.

ففكر الثقفي قليلًا ثم قال له: هل تبيعني اسمك..؟ فقال تأبط شرًا : بكم..؟ فقال الثقفي: بهذه الحلة الجديدة -وكان قد اشتراها في ذلك الوقت- وباسمي، وهو كان يكنى بـأبي وهب قال له: أعطيك القميص هذا الجديد وأعطيك اسمي كذلك، قال له: موافق اخلع، خلع الثقفي القميص الجديد، وتأبط شرًا قام فخلع ثيابه وأعطاها للشنفرا، وبعد ذلك تأبط شرًا قال له: أنت من اليوم تأبط شرًا ، وأنا أبو وهب، فبعد هذه المبادلة كتب تأبط شرًا ثلاثة أبيات إلى امرأة الثقفي الأحمق يقول فيها:

ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شرًا واكتنيت أبا وهــب

فهبه تسم اسمي وسماني اسمـه فأين له صبري على معظم الخطب

وأين له بأس كبأسي وسورتي وأين له في كل فادحة قلبـــي

هو أخذ اسمي، لكن هل أخذ قلبي؟ هل أخذ جرأتي وثباتي على الأحداث؟ لا. ليس المعنى أني أعطيته اسمي أنه أخذ الشجاعة والقوة التي هي رأس المال.

وهذا الرجل الذي أخذ لقب تأبط شرًا ، قام وظهر على مجموعة من الناس وأخذ يقول لهم: أنا تأبط شرًا ، هل يتصور أنه ممكن يقولها كمثل ثابت بن جابر ؟

لا. لأنه يقول لهم: أنا تأبط شرًا، وهو في نفسه خائف، لماذا؟ لأن قلبه ضعيف، فالقوة قوة القلب وليست قوة العضلة، ولذلك قوة العضلات تستمد من القلب فأحيانًا تجد الرجل الثابت القوي عندما تعطيه خبرًا كالصاعقة يسقط على طوله، لماذا خانته رجلاه ولم تحمله عضلاته؟ لأن قلبه ضعيف، فقوة العضلة أصلًا منبعثة من قوة القلب.. فهذا ثابت بن جابر كانت عنده جرأة وشجاعة يدخل مباشرة على الرجل فيقول: أنا تأبط شرًا ، فينخلع قلبه.

فمن أكبر الأشياء التي تهدد العلم عدم تمييز العوام بين العالم وشبيه العالم، فيأتي العامي يذهب إلى شبيه العالم يظنه عالمًا، فيسأله وقد وسدت الفتوى إلى غير أهلها بسبب ضياع الأمانة.

وهذا الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، أول ما سأل سأل على أعلم أهل الأرض، قالوا: نعرف فلانًا عمامته كبيرة وكل ما يقف في الصلاة يبكي هذا أحسن واحد عندنا، وهذا الرجل كان عابدًا ولم يكن عالمًا، فأول ما ذهب إليه سأله، قال له: قتلت تسعة وتسعين نفسًا، قال: لا توبة لك. فقتله فأكمل به المائة، وبعد ذلك دُلَّ على راهب عالم، فقال له: قتلت مائة نفس هل لي من توبة؟ قال: نعم. ومن يحجب عنك باب التوبة، اخرج إلى أرض كذا وكذا وأفتاه بالفتوى الصحيحة.

إذًا: فالعوام الذين دلوه على الراهب لا يعرفون الفرق بين الراهب العالم وبين الراهب العابد، بسبب اشتباه الأزياء واشتباه السمت.

فمن جملة توسيد الأمر إلى غير أهله أن يسأل الناس من له سمت العالم، ولكن ليس بعالم في الحقيقة، فكم من الشر المستطير يكون إذا وجد في بلد من البلدان خمسة عشر واحدًا من هؤلاء المتصدرين للإفتاء. سيضلون الناس، لماذا؟ لأن الأمر وسد إلى غير أهله.

فتوسيد الأمر إلى غير أهله تضييع للأمانة، فإذا كان الأمر كذلك فمن علامات الساعة أن يرفع العلم، وأن يكثر الجهل، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) وفي اللفظ الآخر عند الإمام أحمد قال: (حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله) يصل الجهل بالبشرية أنها ترجع إلى عبادة اللات والعزى كما رواه الإمام مسلم في صحيحه، ولا يعرفون الله.

تقوم الساعة على هؤلاء الذين لا يعرفون شيئًا من دين الله تبارك وتعالى، بسبب أن الأمر وسد إلى غير أهله على سائر العصور، تراكمت هذه النقائص وهذه المحن شيئًا فشيئًا حتى وصلنا إلى الجهل المطبق..

نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
مختصر قصة التتار الجزء الثاني | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة التتار الجزء الثاني


سلسلة مقالات مختصرة تضع أمامنا قصة التتار وكيف بدأت هجماتهم على بلاد المسلمين وكيف تغيرت الأوضاع في بلادنا الإسلامية إثر هذه الهجمات فانهار المدن وانفتحت البوابات وظهرت شخصيات قيادية وقفت في وجه هذا الإعصار التتري الرهيب سنقف على الكثير من الفوائد والعبر والمواقف الفارقة وسنعرف تاريخ أمتنا وما مرت به من محن فالمستقبل لا يصنعه من يجهل الماضي

بقلم: موقع قصة الإسلام
1510
البيت المسلم | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

البيت المسلم


لقد شعرت أن أغلب ما يكون بين الأولاد من عقد وتناكر يرجع إلى اعتلال العلاقة الزوجية وفساد ذات البين فهل المعنويات تغنى عن الماديات إن هناك عناصر أخرى تحف بالبيت أو تخرج منه لها أثر فى سعادته ولننظر إلى هذا الحديث النبوى عن سعد بن أبى وقاص قال رسول الله

بقلم: محمد الغزالي
734
رائدة النسوية بين التنظير والحياة الواقعية | مرابط
النسوية

رائدة النسوية بين التنظير والحياة الواقعية


هذه الرائدة النسوية المتمردة والتي كانت تدعو نساء العالم للتمرد على الرجل كانت تكتب لحبيبها الأمريكي نيلسون ألغرين -في لحظة شفقة وتية وعشق هائم بعد أن هجرها عشيقها الأول جان بول سارتر لبعض الوقت وذهب لمن هي أصغر سنا- وتقول له: سأكون مطيعة لك مثل زوجة عربية.

بقلم: د. عائض الدوسري
352
من مقومات المجتمع المسلم: اتباع السنة | مرابط
فكر تفريغات

من مقومات المجتمع المسلم: اتباع السنة


كان السلف الصالح رضوان الله عليهم ينكرون أشد الإنكار على ما ظهر من بدع في أيامهم كما أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه على بدع في التسبيح فعلها بعض القراء ثم لما ظهرت الفرق المبتدعة وتميز أهل السنة رأينا كيف كانت عقوبتها

بقلم: سفر الحوالي
431
حديث ابن تيمية عن معاوية رضي الله عنه | مرابط
تفريغات

حديث ابن تيمية عن معاوية رضي الله عنه


وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان ولم يتهمهم أحد من أوليائهم ولا محاربيهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمونون عليه في الرواية عنه والمنافق غير مأمون على النبي صلى الله عليه وسلم بل هو كاذب عليه مكذب له

بقلم: عبد المحسن العباد
630
المذاهب والفرق المعاصرة: المرجئة ج2 | مرابط
تفريغات

المذاهب والفرق المعاصرة: المرجئة ج2


وقد تعددت تعبيرات السلف رضوان الله عليهم في نفي الإيمان عمن انتفى عنه العمل فنجد مثلا أن بعضهم يقول: لا يكون كما جاء التعبير عند بعضهم وبعضهم قال: لا ينفع وبعضهم قال: لا يحصل ونحو ذلك من التعبيرات ونقل عن سفيان الثوري أنه قال: الإيمان قول وعمل ونقل عن مالك بن أنس ونافع بن عمر الجمحي وغيرهما من السلف: أن الإيمان قول وعمل

بقلم: عبد الرحيم السلمي
724