فن أصول التفسير ج5

فن أصول التفسير ج5 | مرابط

الكاتب: مساعد الطيار

647 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

قوله تعالى والطور

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فنبتدئ الآن بالتطبيق على ما أخذنا سابقًا، وسنأخذ سورة الطور، نبتدئ بقوله سبحانه وتعالى:  وَالطُّورِ [الطور:1]. فنقول: سورة الطور أولًا، هل هي مكية أو مدنية؟ مكية. ‏

اسم سورة (الطور)
والاسم المشهور لها سورة الطور؛ وسبب التسمية: أنه ذكر في مبدئها الطور، وفي بعض التفاسير يسمونها سورة (والطور)، وهذا حكاية لأول السورة، وهذا يندرج على كثير من السور، حيث يسميها بعض العلماء، أو بعض الناس بحكاية أولها، مثلًا: يقولون: سورة (لم يكن)، سورة: (تبارك الذي بيده الملك)، وهكذا.

لكن هل هذا الاسم (الطور) وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ورد عن الصحابة، أو هو وارد عمن هو دون الصحابة؟ فإن كان واردًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يبحث فيه عن الحكمة من هذه التسمية، يعني: ما علة هذه التسمية؟ كوننا نقول: علة هذه التسمية أنه ذكر فيها الطور، هذا لا يكفي، هذه علة ظاهرة، لكن ما هي العلة الخفية في اختيار هذا الاسم لهذا السورة ذات الموضوعات المتعددة؟

نوع الكلام في قوله تعالى: (والطور)
لو رجعنا إلى قوله:  وَالطُّورِ [الطور:1]، هل هو من باب الإخبار، أو من باب الإنشاء؟ هو قسم، فيكون من باب الإنشاء، وهنا فائدة نتنبه إليها ونحن نقرأ في بداية السور، فهناك بدايات تدخل في باب الإنشاء، وبدايات تدخل في باب الخبر، فمثلًا قوله سبحانه وتعالى:  الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، هل هو من باب الإنشاء، أو من باب الخبر؟ وقع خلاف بين العلماء في كون هذه الجملة إنشائية (طلبية) معناها: قولوا:  الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، أو هي إخبار بأن الحمد ثابت لله رب العالمين؟

فالمقصد من هذا ننتبه إلى هذه الفائدة في بدايات السور.

الواو في قوله تعالى: (والطور)
أيضًا مسألة أخرى في قضية بدايات هذه السورة بالذات، الواو هذه نسميها واو القسم.

أيضًا نسأل: ما هي السور التي ابتدأت بالقسم؟ وما هي أنواع المقسم به؟ فعندنا هنا أقسم بالطور، فلو أردنا أن نأخذ نظائر لهذه السورة من جهة الابتداء، نجد مثل:  وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، مثل:  وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1]، مثل:  وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، مثل:  وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]، مثل:  وَالْفَجْرِ [الفجر:1].

إذًا نلاحظ أن عندنا نظائر لهذه السورة من جهة القسم، ومفيد جدًا لتالي القرآن أن يتأمل ما هي النظائر في الخبر والإنشاء؟ ما هي النظائر في قضية القسم؟ يعني ما هي السورة التي ابتدئ بها بالقسم؟ ما هي السورة التي ابتدئ بها بالحمد؟ ما هي السورة التي ابتدئى بها بالأحرف المقطعة.. وهكذا.

فإذًا هذا أيضًا مجال من مجالات النظر والتأمل والتدبر.

المراد بالطور
نأتي إلى الطور ما المراد به؟

طبعًا هناك خلاف بين العلماء على قولين: بعضهم قال: إن الطور هو مطلق الجبل، وبعضهم قال: الطور هو الجبل الذي عليه نبات، ومعنى ذلك أنهم متفقون جميعًا على أنه جبل، لكن اختلفوا هل هو مطلق الجبل أو جبل خاص، وهو الذي يكون عليه النبات؛ لأنه ليس كل جبل ينبت؟

والظاهر والله أعلم أنه مطلق الجبل، والذين خصوه بأنه الجبل الذي ينبت كأنهم أرادوا أن يشيروا إلى الجبل الذي كلم الله سبحانه وتعالى عليه موسى: ولو سألتك: ما الدليل على كون الطور هو الجبل مطلقًا؟

قال تعالى:  وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سيناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون:20]، هذه الآية فيها دلالة على أن الطور هو الذي ينبت، يعني: يكون فيه نبات، لكن أنا أريد دليلًا على أن الطور هو مطلق الجبل، سواء كان فيه نبات، أو لم يكن فيه نبات.

الجواب: قوله تعالى:  وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:63]، وفي الآية الأخرى:  وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [الأعراف:171]، فمرة قال: الجبل، ومرة قال: الطور، فهذا نستدل به على أن الطور هو مطلق الجبل.

لكن كيف استطعنا أن نستدل من القرآن؟ الجواب: أنه عبر عن الحدث الواحد مرةً بالجبل، ومرة بالطور، فدل هذا على أن الطور هو مطلق الجبل، فإذًا الطور مطلق الجبل، وكذلك الطور ما يكون فيه نبات، لكنه ليس خاصًا به.

أيضًا لو قلت لك: تأمل الآيات التي ورد فيها لفظ: الطور، نجد قوله:  وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سيناءَ [المؤمنون:20]، وقوله:  وَطُورِ سِينِينَ [التين:2]، الذي هو طور سيناء، والطور أيضًا ورد في مواطن أخرى مثل: جانب الطور، مع موسى عليه السلام، وفي البقرة قال:  وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:63]، وفي سورة النساء:  وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النساء:154]، وقوله:  وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ [مريم:52]، وقوله:  يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ [طه:80].

إذًا لفظة: الطور الواردة في القرآن، وردت في شمال الجزيرة، ووردت في قصة موسى عليه السلام، وهنا نلاحظ أن أغلب استخدامات الطور مع موسى عليه السلام، وأيضًا في الجهة الشمالية من جزيرة العرب، فهل يمكن أن نستنتج ونستنبط أن هذه اللفظة هي مما كان ينطق في ذلك العصر أكثر من نطق الجبل؟ فبعض الألفاظ تكون في منطقة أكثر من منطقة، فكانت في ذلك الوقت نطقها أكثر من نطق الجبل عندهم، فكان يستخدم الطور أكثر من هذا، ولهذا عندما تتأمل في جغرافية هذه المنطقة وتقرأ في بعض ما كتب في الدراسات القديمة عن هذه المنطقة، تجد بعض المناطق مثل: طور زيتا، يعني الذي هو طور الزيت، وطور سيناء أيضًا، وهناك مجموعة من الأسماء كلها تبدأ بالطور، فهذا كأن فيه إلماحًا بهذا، وهذه مسألة ظنية، وليست يقينية، لكن من أين أخذناها؟ أخذناها من نظام القرآن فقد استخدم هذه اللفظة فقط في قصة موسى عليه السلام، واستخدمها أيضًا فيما يتعلق بشمال الجزيرة العربية.

وهنا أريد أن ألفت انتباهكم إلى أمر ملاحظ، وهو أن القرآن يستخدم ألفاظًا مع أقوام أو أشخاص ولا يستخدمها في مكان آخر، مع أنها قد تكون فيها غرابة، مثل الآية التي ذكرناها في قصة سليمان عليه السلام:  تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ [سبأ:14]، لم ترد في القرآن إلا مع سليمان، وكأنه والله أعلم! أن هذا اللفظ هو الذي كان يستخدم للدلالة على العصا أكثر من استخدام العصا، مع أن لفظ العصا أكثر وأشهر، ولهذا في قصة موسى:  وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [القصص:31]، ومع سليمان قال: (مِنسَأَتَهُ)، فهذه مسألة تاريخية مرتبطة بالتاريخ واللغة وتحتاج إلى إثبات.

كذلك أيضًا في قصة يوسف تجد أن لفظة (حاش لله) ما وردت إلا في قصة يوسف، في كلام النسوة في أول الأمر لما رأينه، وفي آخر الأمر لما برأنه، قال تعالى:  فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31]، وهناك قلنا:  قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف:51].

كذلك لفظة (اليم) استخدمت مع يونس عليه السلام، واستخدم مع موسى عليه السلام، مع أن النهر والبحر أشهر من لفظة اليم، فقصدي هو أن نلتفت إلى هذه الفائدة.

قد يقول قائل: هل كان هؤلاء يتكلمون بنفس الألفاظ؟ هذه مسألة لا أريد أن ندخل فيها، ولكن من أراد الاستزادة فيها فقد كتبت فيها مقالة موجودة في ملتقى التفسير، بعنوان: اللغة الأم لغة الاشتقاق.

وأنا عندي أيضًا في هذا أن هذه اللغات التي كان ينطق بها أولئك، هي اللغة التي استقرت بلغة العرب، مات منها ألفاظ، وبقيت ألفاظ، والقرآن دلنا على كثير من هذه الألفاظ التي كانت موجودة عندهم بهذه الطريقة، مثلًا اسم سرية إبراهيم عليه السلام التي ولدت إسماعيل عليه السلام، من أين جاءت؟ جاءت من مصر، وإبراهيم لما ذهب إلى مصر ما كان يحتاج إلى ترجمان، كحالنا اليوم فيمن يذهب من الجزيرة إلى مصر ما يحتاج إلى ترجمان، اللغة واحدة، وإن كان النطق قد يختلف إلى لهجات.

إذًا ما اسم السرية التي أخذها وصارت زوجة له؟ هاجر، وهاجر اسم عربي، والأسماء لا تتغير، قد يحور فيها، لكن ما تتغير! فاسمها عربي صريح جدًا، وكذلك زوجة فرعون اسمها آسيا بنت مزاحم، فقصدي من ذلك أن ننتبه إلى هذا الملحظ، ونحن نقرأ في القرآن. لما قال الله سبحانه وتعالى:  وَالطُّورِ [الطور:1]، هل هناك تقييد بجبل محدد من الجبال أو هي لفظة مطلقة؟

لم يقيد، فالأصل إطلاق ما أطلقه الله، لكن بعض المفسرين قد يقول: الطور: هو طور سيناء، من أين جاء بطور سيناء؟ السياق في الآية موجود عنده، أو آيات أخرى استدل بها، لكن من حيث العموم نحن بالنسبة لنا ما دام أنه أطلق فنحن نطلق، فإذًا نقول: الطور مطلق الجبل، مثل طور سيناء، لكي ندخل قول من قال: بأن المراد طور سيناء، لكن ما هناك دليل قوي يجعل المراد طور سيناء دون غيره من الطور. فإذًا نتعامل مع أقوال السلف المتقدمين بذكر الإطلاق، ثم نذكر أمثلة مما ذكروه، مثل: طور سيناء.

القسم في (الطور)
هل ورد القسم بالطور في غير هذا الموطن؟ نعم وردت في قوله تعالى:  وَطُورِ سِينِينَ [التين:2]، فذكر الطور هنا مقيدًا، وهناك أطلق، فلفظة الطور وقع القسم عليها مرة مطلقةً، ومرة مقيدة.

 

قوله وكتاب مسطور

قال:  وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، هذا قسم آخر. ‏

القسم بالكتاب
وهل وقع القسم بالكتاب في غير هذا الموطن؟

نعم،  وَالْكِتَابِ المُبِينِ [الزخرف:2]، لكن:  وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، و وَالْكِتَابِ المُبِينِ [الزخرف:2]، هل بينهما فرق؟ هناك فرق، فـ: (وَالْكِتَابِ المُبِينِ) مقيد (وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)، مطلق، ليس محددًا ومعينًا أنه الكتاب الفلاني، أما:  وَالْكِتَابِ المُبِينِ [الزخرف:2]، فمعروف أن المراد به القرآن؛ لأن الكتاب المبين هو القرآن، أما قوله:  وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، فيحتمل القرآن، ويحتمل التوراة، ويحتمل الإنجيل، ويحتمل زبور داود، ويحتمل صحف إبراهيم، ويحتمل غيرها من الكتب؛ لأنه قال:  وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، ثم سيأتي قيد آخر وهو قوله تعالى:  فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]. فعندنا نوع من الإطلاق، فإذًا إلى الآن لم يتحدد عندنا ما هو الكتاب.

وجوه ذكر القرآن للفظ كتاب
لما قال:  وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، هنا أيضًا من باب الفائدة، يمكن لقارئ القرآن أن ينظر في لفظة الكتاب، ووجوه ذكر القرآن للفظ كتاب، ويسمى علم الوجوه والنظائر، وهذا علم لطيف جدًا، ونحن قد نستخدمه ونحن لا ندري عنه، فعندما نبحث عن لفظة الكتاب مطلقة، يعني: أن الله ذكر الكتاب مطلقًا دون تحديد، أين ذكر الكتاب مطلقًا دون تحديد؟ لا يراد به القرآن، ولا يراد به التوراة، لا يراد به الإنجيل، لا يراد به كوجود كتاب من كتب الله، وإنما مطلق الكتاب، إذا وجدنا أمثلة نسمي هذه الأمثلة نظائر، والكتاب الذي نتكلم عنه، هو المطلق، هذا نسميه الوجه الأول.

الوجه الثاني: أن يراد بالكتاب القرآن، ونأتي بالأمثلة، أو بالنظائر التي ورد فيها أن الكتاب مراد به القرآن.

الوجه الثالث: أن يراد بالكتاب التوراة، ونأتي بالآيات التي ورد فيها إطلاق الكتاب على التوراة، مثل:  قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64]، يراد به التوراة، وأحيانًا يراد به التوراة والإنجيل، فإذًا الكتاب هنا المراد به كتب بني إسرائيل، وهذا الإطلاق على كتب بني إسرائيل، التي هي التوراة والإنجيل، أحيانًا يراد أحدهما، وأحيانًا يراد به الجميع.

إذًا وأنت تقرأ ممكن أن تتأمل وتنظر، كيف وردت هذه اللفظة في القرآن؟ ما الذي يدخل فيها من النظائر، والنظائر هي: الآيات التي وردت على وجه واحد، والأوجه هي المعاني المتعددة في الكلمة الواحدة، يعني مرة الكتاب، قلنا: مطلق الكتاب، هذا معنى، والكتاب القرآن هذا معنى آخر! والكتاب التوراة هذا معنى ثالث، والكتاب التوراة والإنجيل، هذا معنى رابع.. وهكذا، هذه نسميها وجوهًا، والآيات التي في كل وجه إذا تعددت نسميها نظائر.

قد يقول قائل: هل يمكن أن يوجد وجه ليس له إلا آية واحدة، لا يوجد نظائر؟

عندما نقول مثلًا: كذا له وجهان، الوجه الأول كذا، ونظائره كذا، الوجه الثاني كذا، والذي ليس له نظائر يوجد له أمثلة، وابن فارس كتب كتابًا في هذه الفكرة، سماه الأفراد، وفكرة ابن فارس في هذا الكتاب أنه يقول مثلًا: كل بعل في القرآن فهو زوج، إلا قوله تعالى:  أَتَدْعُونَ بَعْلًا [الصافات:125]، فإنه أراد صنمًا، وورد البعل بمعنى الزوج في عدة آيات منها:  وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [هود:72]،  وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة:228]  إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31]، فإذًا البعل ورد بمعنى الزوج في آيات متعددة، وهذه الآيات المتعددة نسميها نظائر.

الوجه الثاني: أن البعل صنم، لكن هل وردت آيات أخرى بأن البعل هو الصنم؟ لم يرد إلا في هذا الموطن:  أَتَدْعُونَ بَعْلًا [الصافات:125]، فإذًا قد ترد بعض الوجوه، ليس لها إلا مثال واحد، فإذا وردت وجوه لها أكثر من مثال سميناها نظائر.

تقييد الكتاب في قوله: (وكتاب مسطور)
وهنا لما قال:  وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، هذا فيه نوع من التقييد؛ لأنه وصف هذا الكتاب بأنه مسطور، لكن هل الإطلاق تقيد بزيادة (مسطور) أو ما زال هناك نوع من الإجمال؟ ما زال هناك نوع من الإجمال، فالتوراة بعد أن سطرها اليهود -لأنها كتبت بالألواح- صارت كتابًا مسطورًا، والقرآن صار كتابًا مسطورًا، والإنجيل صار كتابًا مسطورًا، وهكذا غيرها من الكتب، وأيضًا الكتب التي يكتبها البشر كتب مسطورة، وهناك آية شبيهة بقوله: (وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ) وقع القسم فيها بالمسطور، وهي قوله:  ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1]، لكن اختلفت الصيغة، والذي يسطرون، هو الكتاب المسطور.

لكن هل وردت مادة كتب بمعنى: سطر؟ يعني كتب الكتاب، نقول وردت في قوله تعالى:  فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ [البقرة:79]، وقوله:  فَلْيَكْتُبْ[البقرة:282].

معاني (كتب) و(سطر) الواردة في القرآن
وهل ورد كتب بمعنى آخر غير الكتاب؟ نعم لما قال:  كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، بمعنى فرض، فإذًا وأنت تقرأ القرآن تتأمل هذه الوجوه التي وردت للفظة، أو لأصل اشتقاق مادة كتب.

كذلك أيضًا مسطور، أصل المادة هي سطر، لكن ما هي الاشتقاقات التي وردت من سطر؟ الآن عندنا:  وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، وعندنا  ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ[القلم:1]، هل استخدمت مادة سطر في غير هذا الموطن؟ نعم،  وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [الفرقان:5]، وأساطير أصلها من السطر، وإن كانت أساطير بمعنى أكاذيب وخرافات كما يزعمون، لكنها مأخوذة في النهاية من مادة السطر، يعني كأنه شيء قد سطره الأولون وكتبوه، ثم سميت أساطير.

أيضًا لو تأملت في مادة سطر، هل هناك معنى آخر غير الأساطير في مادة سطر؟ الوجوه: هي تعدد معاني اللفظة في استخدامات القرآن، والنظائر: هي مجموع الآيات في الوجه الواحد، وبعض الوجوه لا يرد لها إلا آية واحدة فقط، وهي التي سماها ابن فارس: الأفراد، هذا معناها باختصار.

ومثال النظائر: كُتب فهي بمعنى فرض وجه، وكُتب بمعنى سطر وجه آخر، ومثالها بمعنى فرض:  كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216]، فنقول: هذه نظائر، معنى كتب في الثانية نظير معنى كُتب في الأولى، أي: متشابه متماثل إلى آخره.

 

قوله تعالى في رق منشور

لو انتقلنا إلى قوله:  فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3].

ورود لفظة (رق) في غير سورة الطور
هل وردت (رق) في غير هذا الموطن؟ ما وردت إلا في مكان واحد، مثل ما ذكرنا:  دَرَاهِمَ [يوسف:20]  تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:22]، ما ورد إلا في موطن واحد،  مِنسَأَتَهُ [سبأ:14]، ما وردت إلا مرة واحدة، فهل ورد الرق في غير هذا الموطن؟

ما ورد إلا في هذا الموطن، فهو من الأفراد في الذكر.

تقييد الكتابة في الرق
لما قال تعالى:  فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]، أضاف قيدًا آخر على هذا الكتاب، أنه يكتب في رق، وهذا هو الغالب على ما كان يكتب، لأن الرقاق هذه هي المشهورة والمتداولة بين جميع الأقوام، يكتبون فيها، وليس كل أحد يستطيع أن يكتب على ورق مثلًا البردة أو غيرها، وليس كل أحد عنده هذا، أما الرق فكثير من الأمم تستخدم الرق. فإذًا هو أشار إلى أن هذا الكتاب مسطور في رق، وهذا الرق منشور، ومعنى منشور مفتوح، نشر الشيء بمعنى فتحه.

نظائر قوله تعالى: (في رق منشور)
نريد الآن أن نربط أيضًا بنظائر المعنى، وليس نظائر الألفاظ، فقوله:  فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]، هل الرق المراد به الصحيفة التي تكتب لكنها تكتب على جلد، وهل ورد في القرآن نظير لهذا المعنى الذي هو النشر، نشر الشيء المقروء؟  وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10]، هذا نظير في المعنى، وليس نظيرًا في اللفظ، فمعنى هذه الجملة نظير معنى هذه الجملة، فقوله: (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) نظير لقوله: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)، هذا نسميه نظائر في المعنى.

وكذلك نظائر الألفاظ، هل تدخل في باب تفسير القرآن بالقرآن؟ بمعنى: هل إذا التبس علينا معنى ففهمناه من خلال آية أخرى، في مثل هذه الألفاظ يدخل، أو هو مجرد إضافة زائدة على قضية بيان المعنى؟ إذا ما استطعنا أن نفهم المعنى من خلال القرآن، وإنما فهمناه من خلال اللغة، فالرق هو الجلد المرقق الذي يكتب عليه، والمنشور هو من مادة نشر، أي: فتح، ولما قلنا:  وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10]، لم يتبين لنا معنى هذه الآية، لكن لما فهمنا معنى:  فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]، قلنا: إذًا هذه الآية نظير معناها هو قوله:  وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10].

الأشياء التي يقع فيها النشر
كذلك نقول: ما هي الأشياء التي يقع فيها النشر؟ يعني: استخدمت مادة النشر في القرآن أكثر من استخدام، كما قال هنا:  فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]  وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير:10]، الذي هو نشر الكتاب، فتح الكتاب، فهل استخدم النشر في غير هذا؟

نعم، في البعث الذي سمي يوم النشور، كما في آية:  وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ [البقرة:259]، على قراءة (كيف ننشرها)؟ وقوله:  ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [عبس:22]، وقوله:  فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا [الزخرف:11]. فاستخدم النشر مرة في نشر الكتاب ومرة في نشر المطر للأرض الميتة، ومرة في نشر الإنسان لبعثه، وهل استخدم النشر في غير هذا؟

نعم في قوله:  وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:47]، يعني: موطنًا للانتشار، غير نشر البعث، يعني الانتشار للعمل. فإذًا هذا الأمر يمكن بالتأمل في هذه الألفاظ والنظر في الآيات التي وردت في هذه المعاني، والنظر في المفردات مجال رحب، واستخداماتها الاشتقاقية، كما استخدمت انشقاقها من القرآن، وما هي الآيات التي وردت بهذه المعاني؟

من باب الفائدة، قد يرد في الآية خلاف في المعنى، فإذا نظرت إليها من هذا المعنى جعلتها في وجه من الوجوه، وإذا نظرت إليها من جهة المعنى الآخر جعلتها في وجه آخر، وهذا ليس فيه إشكال؛ لأن هناك سعة في المعاني، الذي هو من باب توسيع الدلالة وتوسيع المعاني.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أصول-التفسير
اقرأ أيضا
إعادة تفسير الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

إعادة تفسير الإسلام


تعليق: يدور الحديث في هذا المقتطف حول التيار الإصلاحي الذي خرج من مدرسة الإمام محمد عبده والذي انتهى به الحال في النهاية إلى التلبس بمضامين علمانية وإن قيلت بعبارات إسلامية وهذا المقتطف للكاتب والمؤرخ الكبير المهتم بشؤون الشرق: ألبرت حوراني

بقلم: ألبرت حوراني
1967
صناعة الحياة | مرابط
فكر

صناعة الحياة


استثمار النفس وبناء المستقبل وصناعة الحياة كلمات نسمعها كثيرا ولا مشاحة في الاصطلاح ولكن ثمة ملحظ على أغلب من يردد هذه المصطلحات.. وهذا الملحظ هو أنهم يريدون بهذا الإطلاق المعنى المادي الدنيوي الخالص ويغفلون عما هو أهم وهو المستقبل الحقيقي بعد الموت ذلك المستقبل الأبدي الذي لا يفنى.

بقلم: د. طلال بن فواز الحسان
336
القوامة وظلم الزوجة | مرابط
أباطيل وشبهات النسوية المرأة

القوامة وظلم الزوجة


إن نظرة بسيطة تتفحص عالمنا -الذي ما فتيء ينادي ويصرخ بالمساواة العمياء بين الرجل والمرأة- لتكشف لنا عن حقيقة تميز الرجل في مختلف بلدان الداعين إلى المساواة لذلك أسأل القارئ الكريم: كم نسبة الوزيرات إلى الوزراء في دول العالم الذي ينادي بالمساواة بين الجنسين وكم نسبة الملوك والرؤساء من النساء في تلك البلاد وكم نسبة نساء الدولة والبرلمان وقادة الأخزاب إلى الرجال في هذه الدولة

بقلم: منقذ محمود السقار
1957
حين يكون الرد على النسوية سببا في انتشارها | مرابط
النسوية

حين يكون الرد على النسوية سببا في انتشارها


مع انتشار موجة النسوية وما تحمله من أفكار مخالفة للشريعة فإن من الواجب على المصلحين أن يعتنوا بمقاومة هذه الموجة ويبنوا أسوار الوقاية من أضرارها وينقضوا أصولها ويكشفوا زيف شعاراتها بالحجة والبرهان. غير أن بعض من يقاوم هذه الموجة يتعامل بطريقة تزيد من انتشارها بدلا من تقليصها وهذا ما يوضحه الكاتب في مقال موجز.

بقلم: أحمد يوسف السيد
475
تغريدات حول التقوى وآثار الذنوب | مرابط
اقتباسات وقطوف

تغريدات حول التقوى وآثار الذنوب


حفظ الجوارح من المعاصي في أول العمر معين من الله على حفظها في الكبر من أمرين: من أن يختم له خاتمة سوء أو يقع في الخرف والهذيان ومن حفظ الله للطائع في صغره حفظ العقل من البلاء بأنواعه عند الكبر قال ابن عباس: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر

بقلم: عبد العزيز الطريفي
643
الاختلاط هم ووهم | مرابط
فكر مقالات المرأة

الاختلاط هم ووهم


من الأقوال المألوفة التي قد اعتدنا على تداولها وتناقلها حتى غدت من الأشياء الملقاة على قارعة الطريق-كما يقول أديب العربية الرافعي- وبلغ التكثيف بها لحد أن يتوهم بعض الناس أنها من المسلمات الفقهية القول بأن المحرم في الشريعة هو الخلوة لا الاختلاط وأن المجتمع المسلم في نشأته الأولى كان مجتمعا مختلطا يجتمع فيه الرجال والنساء ويسوقون في سبيل ذلك النصوص والأدلة الشرعية المؤيدة له وفي هذا المقال يقف المؤلف على إشكالية الاختلاط وما يسوقه المؤيدون له من أدلة مزعومة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1074