قضية اللغة العربية الجزء الثالث

قضية اللغة العربية الجزء الثالث | مرابط

الكاتب: محمود شاكر

2190 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هؤلاء الخمسة

 

قبل كل شيء ينبغي أن نعلم أن حياة هذا العالم العربي الإسلامي، كانت تسير على نمط مألوف معروف، لا يكاد يستنكره أحد: في العقيدة العامة التي تسود الناس، وفي الدراسة في جميع معاهد العلم العريقة، وفي التأليف والكتابة، وفي حياة الناس التي تعيش بها عامتهم وخاصتهم من تجارة وصناعة.. كل ذلك كان نمطًا مألوفًا متوارثًا، فجاء هؤلاء الخمسة، ليحدثوا يومئذ ما لم يكن مألوفًا وشقوا طريقًا غير طريق الإلف.. وبيان ذلك يحتاج إلى تفصيل، ولكني سأشير إليه في خلال ذكرهم إشارة تعين على تصور موضع الخلاف.

 

عبد القادر بن عمر البغدادي

 

1- "البغدادي" .. ولد عبد القادر بن عمر البغدادي ببغداد (1030-1093 هـ - 1683-1620م) وفي الثامنة عشرة من عمره سنة 1048هـ خرج في إتمام طلب العلم، فرحل إلى الشام ثم فارقها بعد سنتين، سنة 1050، قاصدًا مصر، فلقي بها العلماء وتلقى عنهم وصحبهم، واتسع اطلاعه على ذخائر الكتب القديمة التي لم يكن يعني بها علماء زمانه، وفي سنة 1080 هـ، رحل إلى دار الخلافة بالقسطنطينية، لما فيها من ذخائر الكتب العربية التي حازتها، ولقي بها عالما جليلًا، حاز مكتبة عربية من أجل المكاتب وهو الوزير الأعظم أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد، المعروف بكوبرلي، ولا تزال مكتبته باقية بها إلى يومنا هذا، فأقام مع صاحبه سبع سنوات إلى أن عاد إلى مصر سنة 1092 هـ ثم وافاه أجله في أوائل سنة 1093
 
كان طريق البغدادي واضحًا، لم يكن في أيدي طلبة العلم سوى ما ألفوه من كتب الفقه والنحو والبلاغة وحواشيها، فأداه اطلاعه إلى معرفة الضعف الغالب على أهل زمانه، وهجرهم شعر الشعراء الفحول وأخبارهم وتاريخهم.. فعمد إلى ما في كتب النحو التي يعرفونها من شواهد الشعر العربي القديم، جاهليه وإسلاميه، فألف ثلاثة كتب تدور كلها على شرح شواهد الشعر، وضمنها روائع الشعر وأخبار الشعراء، ونوادر التاريخ فكان ذلك مقدمة لبعث التراث الأدبي وإحيائه ووضعه بين أيدي الناس.. تتبين ذلك واضحًا في كتبه الثلاثة "خزانة الأدب، ولب لباب لسان العرب" .. وهو شرح شواهد الكافية للرضى في النحو عدة مجلدات وشرح شواهد الشافية للرضى أيضًا وهو مجلد واحد، وشرح أبيات مغنى اللبيب لابن هشام في عدة مجلدات.

 

المرتضي الزبيدي


2- المرتضى الزبيدي.. ولد محمد بن عبد الرزاق الحسيني ببلدة بلجرام بالهند (1145-1205 هـ / 1732 - 1790م ) درس العربية وسائر العلوم على علماء الهند، ثم رحل إلى الحجاز سنة 1163-1166 ثم فارقها إلى مصر ولقي من بها من العلماء، ونفض ما في مكتباتها من الكتب العتيقة، وبقي بها إلى أن توفى - من سنة 1167 إلى سنة 1205 هـ. ولم يكن طلبة العلم يعرفون من كتب اللغة إلا قليلًا. كالمصباح المنير ومختار الصحاح، ثم القاموس المحيط للفيروزبادي على قلة، وكان الزبيدي محيطا بعلوم كثيرة، فكثر عليه طلبة العلم وأدرك ضعف ما بأيديهم من كتب اللغة، فأراد أن يضع تحت أيديهم كتابا جامعا في اللغة فألف معجمه الكبير "تاج العروس" وهو شرح لقاموس الفيروزبادي جمع فيه ما تفرق في الكتب، وأشار فيه إلى كثير من دواوين الشعر المحفوظة في المكاتب.
 
وألف لهم أيضًا شرحا على كتاب متداول وهو إحياء علوم الدين للغزالي، فذاع صيته وطارت شهرته في الآفاق، ووفدت عليه الوفود من بلاد الإسلام كلها وكاتبه العلماء والملوك من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والعراق والمغرب والجزائر والسودان، فكان تأليفه وكانت دروسه بعثا للتراث اللغوي والديني وإحياء لما خفي منه على الناس.

 

ابن عبد الوهاب


3- ابن عبد الوهاب.. ولد محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي (1115-1206 هـ / 1703-1792م) ببلدة العيينة بنجد، ورحل إلى الحجاز والشام والبصرة، وفتح عينيه على ما يعم نجدا والبلاد التي زارها من البدع التي حدثت، وما غمر العامة والخاصة من الأعمال والعقائد الحادثة، والتي تخالف ما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد، وهي ركن الإسلام الأكبر فلما عاد إلى نجد لم يقنع بتأليف الكتب.
 
ورأى أن خير الطرق هو أن يتجه إلى عامة الناس في نجد، ليردهم عن البدع المستحدثة، ويسلك بهم طريق السلف في العمل والعقيدة، ولم يزل دائمًا في دعوته، يدعو ويعلم ويكتب، حتى استجاب لدعوته أمير بلدة الدرعية بنجد، الأمير محمد بن سعود في سنة 1175 هـ، فمن يومئذ صارت دعوته قوة متحركة فاتحة في قلب جزيرة العرب، وأحدث ظهور هذه القوة رجة شديدة الدوى في جنبات العالم العربي والإسلامي، وتلفت الناس يمينا وشمالا، في الهند ومصر والعراق والشام وتركيا والمغرب، والسودان..  
 
ولشدة وقع هذا الدوى وعنفه، انقسم الناس في أمره بين مؤيد له لصواب ما أتى به، ومعارض له لمناقضته الإلف الذي ألفوه. وكاد العالم الإسلامي كله يتحرك ويندمج بعضه في بعض بكل تراثه الضخم، وبكل موارث حضارته العظيمة، لكن كان قدر الله أغلب، وحصرت اليقظة الإسلامية كلها بلا معين، بين أركان الجزيرة العربية الفقيرة يومئذ، وسدت المنافذ، ومزقت الأوصال وصار الاندماج حلما من الأحلام يراود الأمة العربية الإسلامية إلى يوم الناس هذا.
 
ذلك لأن مغل "مغول" العصر الحديث وتتره كانوا أكثر يقظة وأوضح هدفًا، وأسرع حركة، وأغنى غنى، وأقدر على النهب والسلب والفتك والتدمير، وفي أيديهم دستور حضارتهم الذي وضعه الخبيث مكيافيلي ينير لهم طريق العمل.
 
 

الشوكاني


4- الشوكاني.. ولد محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ببلدة شوكان، من بلاد خولان باليمن، ونشأ بصنعاء، مقر حكم المذهب الزيدي، وهم ينتسبون إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.. وهم يعدّون من فرق الشيعة. تفقه الشوكاني على مذهب الإمام زيد، وبرع في علمه حتى آل إليه القضاء والإفتاء ولكنه عندئذ خلع ربقة التقليد، وانتصب للاجتهاد فزيف ما لا يقوم عليه دليل من الكتاب والسنة، فثار  عليه جماعة من المقلدين في ديار الشيعة، فجادلهم وصاولهم، التزم بعقيدة السلف، وحرم التقليد وذهب في بيانه مذهب الحافظ ابن عبد البر، حيث قال: التقليد غير الاتباع، لأن الاتباع هو أن تتبع قول القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا تعرف وجه القول ولا معناه، وتأبى من سواه وإن تبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافة، وأنت قد بان لك فساد قوله، وهذا يحرم القول به في دين الله.
 
فكان قيام الشوكاني في محيط الشيعة الزيدية، صبحا جديدا يوشك أن يهز قواعد التعصب الذي درج عليه أصحاب المذاهب من أهل السنة، فضلا عن اتباع الفرق المختلفة وعلى رأسها الفرقة الغالية من الشيعة المعروفة باسم الاثنا عشرية، ألمكفرة للصحابة وللأمة كلها، [اختيارها أبا بكر ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنه، دون علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
 
أوجزت القول في هؤلاء الأربعة العظام، ﻷن استجابتهم للتحدي المبهم كانت مقيدة في كتب خلفوها، أو أعمال كان لها دوى لا تزال آثاره باقية إلى اليوم، ولأن بشائر البعث والإحياء في كتبهم وأعمالهم أظهر من أن تخفى على أحد، ولا يكاد يجادل فيها إلا من وقع في شرك الرفض لماضيه كله، أو من يغمض عينيه ويعمد إلى الاستخفاف بها بلا تدبر، بل بالتهور واللجاجة.
 
وإذا كنا بالأمس منذ قرون قلائل صرعى غفلة وفي وسن غالب، وعلى الأبواب عدو مدرب، كان أكثر يقظة، وأسرع حركة، وأغنى عنى، وأقدر على السلب والنهب والتدمير والفتك كما وصفت، فنحن اليوم أيضًا صرعى غفلة أبشع من غفلتنا الأولى، لا نكاد نحس كما أحس أسلافنا، والعدو لا على الأبواب، بل هو متغلغل منتشر يسرح في صميم هذا العالم العربي الإسلامي المترامي الأطراف، وقد تفوق على أسلافه تفوقا لا يكاد يصدق، في اليقظة المفترسة، وفي وضوح الهدف، وفي سرعة الحركة، وفي الغنى الباذخ، وهو أقدر قدرة ضارية على النهب والسلب والتدمير والفتك، ولا يزال بين يديه، بل ملء قلبه وعقله دستور مكيافيلي وقد اتسع وتطور به ونما واستفحل خبثه وتوحشت ضراوته وتشعب شره تشعبا لا يكاد يصدق.
 
لذلك وجدت أن الرجل الخامس الذي اخترت أن أذكره في الخمسة العظام يحتاج خبره إلى تفصيل لم أحتج لمثله وأنا أكتب عن أصحابه الأربعة العظام، فقد جاءوا جميعا يومئذ ليحدثوا شيئًا لم يكن مألوفًا، ولكي يشقوا بأنفسهم طريقا غير طريق الإلف، ولكنه انفرد عنهم بأنه طريقه في عمله كان أخفى من طريقهم، ولأن تقييد عمله باكلتابة كان أشق، ولأن عمله كان تحت بصر العدو وسمعه لم يغفل عنه طرفة عين، ﻹلما انقضّ علينا وظفر بنا، ٍار بنا مسارا يزيد عمله علينا خفاء، بل يفضي إلى ما هو أعظم من الخفاء، أي إلى الطمس الكامل لجميع السبل المؤدية إلى استبانة ما كان من عمله.

 


 

المصدر:

  1. محمود محمد شاكر، جمهورة المقالات، ص1196
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#محمود-شاكر #اللغة-العربية
اقرأ أيضا
الرد على عدنان إبراهيم: فرية تنبؤ النبي أن معاوية يموت على غير ملة الإسلام ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات

الرد على عدنان إبراهيم: فرية تنبؤ النبي أن معاوية يموت على غير ملة الإسلام ج2


يدعي عدنان إبراهيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ بأن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سيموت على غير ملة الإسلام واستند في ذلك على ما رواه البلادري وفي هذا المقال فحص وتمحيص لهذه الفرية ورد عليها وبيان ما فيها من أخطاء وأباطيل

بقلم: أبو عمر الباحث
6411
المجاهرون | مرابط
تفريغات

المجاهرون


إن الله يحب الستر ويكره التحدث بالكلام الفاحش وإن مما يقع بين الرجل وامرأته مع أنه بالحلال لكن لأنه خنا فإنه لا يتحدث به لا يتحدث بأي شيء يثير الشهوات حتى مجرد ذكر الوقاع أنه قد حصل دون تفصيل إذا لم يكن له حاجة كرهه العلماء وعدوه من خوارم المروءة حتى مجرد أن يخبر أنه قد حصل بينه وبين أهله شيء لغير مصلحة شرعية فهو مكروه لأنه من خوارم المروءة

بقلم: محمد المنجد
689
علمانية الحكم الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات العالمانية

علمانية الحكم الجزء الثاني


امتدت العلمانية إلى كل مجالات الحياة تقريبا بداية من الحكم مرورا بالاقتصاد وصولا إلى الأخلاق والشعور بل وحتى عالم الفن والأدب والكتابة اجتاحته العلمانية كذلك وفي هذا المقال يفصل لنا الكاتب سفر الحوالي علمانية الحكم وبداياتها في القرون الوسطى في ظل تمتع الكنيسة بسلطاتها الكبيرة رغم ذلك كان الحكم علمانيا حتى لو كان ظاهريا تحت مظلة الكنيسة

بقلم: د سفر عبد الرحمن الحوالي
2253
المراحل التي مرت بها الشيعة الرافضة | مرابط
تاريخ فكر مقالات

المراحل التي مرت بها الشيعة الرافضة


الرافضة من أشهر فرق الشيعة ومن أكثرهم غلوا وتطرفا من بين الفرق الأخرى التي تنتسب زورا إلى الإسلام والمقال الذي بين يدينا يوضح لنا الظروف والمراحل التي مرت بها هذه الفرقة وكيف كان بداية أمرها وكيف وصل بها الحال إلى هذه التسمية الجديدة وهذا الفراق بينها وبين الفرق الإسلامية

بقلم: د علي محمد الصلابي
2929
الوقت وقراءة القرآن | مرابط
اقتباسات وقطوف

الوقت وقراءة القرآن


تجد بعضنا حين ينشر المصحف بين يديه ليتلو شيئا من القرآن يدب إليه بعد هنيهة استطالة الزمن فلا يمضي ربع ساعة إلا وتراه تارة يعد الصفحات المتبقية على نهاية الجزء؟ وتارة ينظر إلى الساعة كم مضى وكم بقي؟ وتارة يفكر في أشغال يرى أنه أجلها وأنها عذر لقطع التلاوة أو أنه بحاجة لقسط من الراحة والنوم.

بقلم: إبراهيم السكران
297
مناظرة ابن عباس مع الخوارج | مرابط
مناظرات

مناظرة ابن عباس مع الخوارج


كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حريصا على رجوع الخوارج إلى جماعة المسلمين فربما أنهم انحازوا عن صفوص المسلمين لشبهة أو شيء أشكل عليهم ومن هنا قرر أن يرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنهما ليناظرهم ويجلي لهم الحق وهو ما حدث فعلا وفي هذا المقال نص المناظرة التي دارت بينه وبينهم والشبه التي ألقوها عليه ورده رضي الله عنه عليها

بقلم: النسائي
3583