كيف تعرف صدق النبوة ج1

كيف تعرف صدق النبوة ج1 | مرابط

الكاتب: صفحة براهين النبوة

1068 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

كثيرًا ما يردّد العلماء أن مدعي النبوة إما أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، أي أن كل ما يخطر في بالك من الصادقين فإن النبي الصادق أصدقهم، وكل ما يخطر في بالك من الكذابين فإن المتنبئ الكذاب أكذبهم. وهذا يقتضي عِظم التنافر والفرق بينهما؛ حيث الأول في أعلى ما قد يتصوره الإنسان من الصدق، والآخر في أسفل دركات الكذب، ومن التبس عليه حالهما حريٌ به أن يلتبس عليه صدق أو كذب من دونهما!

أود في هذه المقالة السريعة أن أُسلّط الضوء على بعض ما يكشف عن ذلك، أعني عِظم التنافر بينهما، فأقول:

 

أولًا: عِظم الدعوى

دعوى النبوة من أعظمِ الدعاوى على الإطلاق؛ فقول الشخص: أنا رئيس الدولة الفلانية أو أنا أملك قوةً خارقة أستطيع من خلالها الطيران في السماء أهون من أن يقول لك: خالق السماوات والأرض أرسلني إليك، فلئن كان من البديهي ألّا يسلّم الإنسان بما هو أهون من دعوى النبوة إلا بدليل، فالتحقق من صدق النبوة أشد وأولى، هذا من جهة طلب الدليل، أما من جهة إدراك الترابط بين الدليل والمدلول فهو ميسورٌ للكل مُدْرَكٌ لجميع أطياف المجتمع كما يُدْرِك الناس عدم الترابط بين الاستدلال بالقدرة على المشي لإثبات القدرة على الطيران! وإدراك عدم الترابط أيضًا بين دعوى النبوة والسّحر؛ إذ السحر مما يقدر عليه البشر وكثير منهم لم يدّع النبوة، ولئن خفي عليهم عدم الترابط في أول الأمر فلا بد من ظهوره مع الأيام.

 

ثانيًا: ضرورة الشرع

النبوة تتضمن أخبارًا وأوامر، ولولا ذلك لم يكن لادّعاء النبوة معنى، والكذب في ادِّعائها يُفضي إلى الكذب في أمورٍ كثيرةٍ؛ حيث ما يسنده إلى الربِّ تعالى غالبه- إن لم يكن كله- كذب، ومن كَذَب على الخالق تعالى وتجرأ على ذلك هان عليه الكذب في أموره كلها.

 

ثالثًا: ضرورة التميز

ما يُخبر به النبي ويأمر به غيرَه لا بد أن يكون مما لا يقدر على إدراكه البشر؛ إذ لو كان الذي جاء به مدركًا عند غيره لم يتحقق معنى الاصطفاء الذي هو لبُّ النبوة؛ فيكون حاله كمن يخبر غيره أن للإنسان رأس ولسان يتحدّث به، أو يخبر عن شيء مما يُتوصل إليه بالعقل والتجربة، وبالتالي اشتراك غيره معه، فينتفي اختصاصه بما زعم أنه اختص به!

 

رابعًا: ضرورة الدليل

لا يعني مما سبق أن الحديث عما لا تدركه عقول الناس كافٍ في ادّعائها؛ إذ الكل بإمكانه أن يُطلق العنان لخياله وما يجوِّزه ذهنه ثم يدعو غيره إليه؛ وحيث كان الأمرُ كذلك فلا بد أن يكون مع النبي الصادق ما يدل على صدقه؛ ليتميز به عمن يتكلّم في أمر الغيب بلا سلطان.

ومن جوّز على الله تعالى أن يُسوِّي في الدنيا بين النبي الصادق والمتنبئ الكذاب، لزمه نسبةُ النقص إليه سبحانه وتعالى؛ إذ التسوية بينهما تؤول إلى عدم إقامة الحجة على جنس الأخيار والأشرار، هذا من جهة حكمته، أما من جهة عدله سبحانه فإنه لا يسوّي بين النبي الصادق والمتنبئ الكذاب في الدنيا، ولا يساوي بين من صدّق رسله وأعرض عنهم في المآل الأخروي، فأما من جهة الدنيا فإن النبي- كما سبق بيانه- يأتي بجملةٍ من العلوم والأعمال اصطفاه الخالق بها ليبلغها خلْقه، وهي لا بد أن تتعارض مع ما يدعو إليه المتنبئ الكذاب من جهة مضمون ما يدعون إليه ومن جهة القصد والدافع لادّعاء النبوة؛ فإن النبي الصادق لا بد أن يأتي بما لا تدركه عقول البشر، والكاذب بشر، والدافع لادّعائها هو امتثال أمر ربّه لا غير ذلك، فلا يظهر- على تقدير عدم الدليل- صدق الصادق وكذب الكاذب في ادّعاء النبوة، وهذا أثقل ما يكون على الصادق؛ إذ علمه بصدق خبره دون القدرة على إثبات ذلك لغيره يقتضي تسويته- في حكم الناس- مع من يقول بضد قوله، فلا هو الذي استراح من هم التبليغ ولا هو الذي أُعطي ما يُثبت صدقه!

وأما من جهة المصدّقين والمكذبين فمعلومٌ أن الخالق سبحانه وتعالى لا يساوي بين الأخيار والأشرار، والأبرار والفجّار، لكون ذلك من الظلم الذي حكم العقل بانتفائه عنه ضرورةً، وحينئذٍ لو قُدّر اثنان: أحدهما صدّق رسل الله واتّبع ما جاءوا به والآخر كذّبهم وأعرض كبرًا وعتوًا لكان الأول من الأخيار والآخر من الفجّار. ومعلومٌ أن معرفة الإنسان للخير لا تستلزم بالضرورة اتّباعه، ومعرفته للشر لا تستلزم اجتنابه. ولكي يتميز الأول عن الثاني في المآل لا بد من تمييز النبي الصادق بما يقيم به الحجّة على الناس، ويُخضع طالب الحق.

يقول شيخ الإسلام:

«إذا كان قادرًا- أي الله تبارك وتعالى- على أن يهدي الإنسان الذي كان علقةً ومضغةً إلى أنواع العلوم بأنواعٍ من الطرقِ إنعامًا عليه، وفي ذلك من بيان قدرته وحكمته ورحمته ما فيه، فكيف لا يقدر أن يعرفه صدق من أرسله إليه؟ وهذا أعظم النعم عليه، والإحسان إليه، والتعريف بهذا دون تعريف الإنسان ما عرفه به من أنواع العلوم؛ فإنه إذا كان هداهم إلى أن يعلم بعضهم صدق رسول من أرسله إليه بشر مثله، بعلامات يأتي بها الرسول، وإن كان لم تتقدّم مواطأة وموافقة بين المُرسِل والمرسَل إليهم.

فمن هدى عباده إلى أن يرسلوا رسولًا بعلامةٍ، ويعلم المرسَل إليهم أنها علامة تدل على صدقه قطعًا، فكيف لا يقدر هو أن يرسل رسولًا، ويجعل معه علامةً يُعرّف بها عباده أنه قد أرسله. وهذا كمن جعل غيره قديرًا عليمًا حكيمًا فهو أولى أن يكون قديرًا عليمًا حكيمًا، فمن جعل الناس يعلمون صدق رسول يرسله بعض خلقه بعلامات يعلم بها المرسَل صدق رسوله، فمن هدى العباد إلى هذا، فهو أقدر على أن يعلِّمهم صدق رسوله بعلامات يعرفون بها صدقه، وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدّم بينهم وبينه مواطأة.» النبوات ٢/٦٥٤

ويقول:

«ونحن نعلم بالاضطرار... أنه لا يبعث أنبياء صادقين يبلغون رسالته ويأمر الناس باتّباعهم ويتوعد من كذبهم، فيقوم آخرون كذابون يدّعون مثل ذلك، وهو يسوي بين هؤلاء وهؤلاء في جميع ما يفرّق به بين الصادق والكاذب. بل قد علمنا من سنّته أنه لا يُسوّي في دلائل الصدق والكذب بين المحدّث الصادق والكاذب، والشاهد الصادق والكاذب، وبين الذي يعامل الناس بالصدق والكذب، وبين الذي يظهر الإسلام صدقًا، والذي يظهره نفاقًا وكذبًا، بل يميز هذا من هذا بالدلائل الكثيرة؛ كما يميز بين العادل والظالم، وبين الأمين والخائن؛ فإن هذا مقتضى سنته التي لا تتبدّل وحكمته التي هو منزه عن نقيضها وعدله سبحانه بتسويته بين المتماثلات وتفريقه بين المختلفات. فكيف يسوّي بين أفضل الناس وأكملهم صدقًا، وبين أكذب الناس وشرّهم كذبا فيما يعود إلى فساد العالم في العقول والأديان والأبضاع والأموال والدنيا والآخرة.» النبوات ١/٥٢٦- ٥٢٧

فمن ادّعى النبوة كذبًا فهو من أجهل الناس وأكذبهم؛ لأن دليله لا بد أن يكون مما يقدر عليه البشر، كمن يقول: أنا ملكُ الدولة الفلانية ودليلي أنني آكل وأشرب وأنام، فيُقال له: إذًا جاز للكل أن يدّعي ما ادّعيته لكون الكل يأكل ويشرب وينام، فلو كان دليلك مستلزمٌ لمدلولك لتحقق المدلول في كلِّ من تحقق فيهم دليلك!

فثبت عندئذٍ كذبه- بل وأحطّ درجات الكذب- لكونه ادّعى دعوى عظيمة جدًا بلا دليل، بل وتجرأ على الكذب في حقِّ خالقه، والمتجرئ على هذا لن يترفّع عنه في حق المخلوقين.

 


 

المصدر:

صفحة براهين النبوة

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إثبات-النبوة #براهين-النبوة
اقرأ أيضا
ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات

ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الجزء الأول


القدر مما تعبدنا الله به استسلاما له فلابد أن نعرف حكم القضاء والقدر وأن الإيمان بالقضاء والقدر واجب لنتعبد الله بالاستسلام لهذا القضاء والقدر وفي هذا المقال بجزئيه استعراض ماتع من الشيخ محمد صالح المنجد لفوائد وثمرات الإيمان بالقدر مثل حسن الظن بالله والتسليم لحكمه سبحانه

بقلم: محمد صالح المنجد
1315
فساد الدين | مرابط
اقتباسات وقطوف

فساد الدين


يقع فساد الدين من طريقين اثنين الأول يأتي من جهة الاعتقاد الخاطئ فهذا هو الأساس وبما أن الخلل قد أصابه فالطبع سيلزم عنه فساد في الدين والثاني هو العمل بما يخالف الحق مع العلم به وهنا مقتطف من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الأمر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2139
منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الأول


إن القرآن روح الإسلام ومادته وفي آياته المحكمة شرع دستوره وبسطت دعوته وقد تكفل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين وكتب لها الخلود أبد الآبدين والرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالاته كان قرآنا حيا يسعى بين الناس كان مثالا لما صوره القرآن من إيمان وإخبات وسعي وجهاد وحق وقوة وفقه وبيان فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأحكامه ونواحي حياته كلها تعد ركنا في الدين وشريعة للمؤمنين إن الله اختاره ليتحدث باسمه ويبلغ عنه فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي...

بقلم: محمد الغزالي
1487
مصير الديانات أمام التقدم العلمي الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

مصير الديانات أمام التقدم العلمي الجزء الثاني


بعدما وصلت الموجة العلمية كل العالم تقريبا والتحديثات قد طالت كل شيء في الحياة ظهرت بعض الأدعياء يقولون أن هذا العالم الجديد لا مكان للدين فيه بل ظهرت نظرية جديدة في الطرف المقابل مضمونها أن الأديان وإن كانت عريقة في القدم لكن تقدمها الزماني لا يكسبها صفة الثبات والخلود بل هو بالعكس يطبعها بطابع الشيخوخة والهرم وينذر بأن مصيرها إلى الاضمحلال والفناء وفي هذا المقال بجزئيه رد على هذه النظرية وتلك الأباطيل

بقلم: محمد عبد الله دراز
1774
العمارة في الحضارة الإسلامية ج2 | مرابط
تاريخ

العمارة في الحضارة الإسلامية ج2


أمر الإسلام بتعمير الأرض بالبناء عليها وحث عليه لحماية الإنسان من حر الشمس وبرد الشتاء وأمطاره وجعل اتخاذ المساكن نعمة من الله لمخلوقاته ولذلك وضع الإسلام لبناء المساكن والمدن والقرى الكثير من الآداب وشهدت بلادنا الإسلامية ازدهار العمران والبناء الذي تميز بطابع إسلامي خالص وفي هذه المقالات سيقف بنا الكاتب على ملامح العمران في كل العصور الإسلامية

بقلم: موقع قصة الإسلام
1994
فرية ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر: رد على عدنان إبراهيم ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات

فرية ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر: رد على عدنان إبراهيم ج1


ادعى الدكتور عدنان أن عثمان بن عفان رضي الله عنه ضرب عمار بن ياسر رضي الله عنه بقدمه في محاشه أي عورته حتى كان عمار لا يحتبس بوله واستدل على ذلك بما رواه ابن شيبة في تاريخ المدينة الجزء الثالث وطبعا نعلم جميعا ما لدى الدكتور عدنان من خلط وحقد يمرره بشكل ناعم في حلقاته وفي هذا المقال يناقش أبو عمر الباحث هذه الشبهة ويرد عليها

بقلم: أبو عمر الباحث
4657