إدمان التشتت
هناك موقف غريب يحدث مع الكثير منا.. أن تكون منشغلًا بقراءة مقال أو مشاهدة فيديو يعجبك، ومع ذلك تجد نفسك قد توقفت عن القراءة أو المشاهدة وقمت بإلقاء نظرة على أي شيء آخر؛ ربما الواتساب أو الفيسبوك مثلًا.. عادة ما تعود مرة أخرى لإكمال القراءة أو المشاهدة، ﻷنه كما قلنا أنت معجب بالمحتوى وترغب في إكماله! لكن يبقى السؤال هنا: إن كنت لم تشعر بالملل أصلًا، فما الذي جعلك تتوقف وتصرف انتباهك لأمر آخر؟
مؤلف كتاب The Shallows يقارن بين الإنترنت والكتب كوسائل لاكتساب المعرفة فيقول.. هيكلة الكتاب من حيث أنه عادة ما يغطي موضوع واحد بعمق، وأنه مرتب بشكل تسلسلي بحيث كل فكرة تنقلك لفكرة أعمق وأكثر تفصيلًا؛ هذه الهيكلة تدفعك وتساعدك على التركيز والتعمق في موضوع الكتاب.
بينما على الإنترنت الوضع مختلف.. إن كنت تقرأ مقالة على الإنترنت حتى لو كانت هذه المقالة عن التركيز؛ ستجد أن الصفحة التي تقرأ فيها مليئة بعشرات الروابط والأزرار التي تدعوك للضغط عليها للقيام بشيء آخر غير الاستمرار في قراءة المقالة!
المخ البشري فضولي جدًا ويحب التعرض لأشياء جديدة باستمرار.. وكل رابط موجود في الصفحة يعدك بشيء جديد مختلف عن الذي تقرأه أو تشاهده. الإنترنت لا تساعدك على التركيز والتعمق في شيء واحد.. بل العكس؛ تشجعلك على التشتت والتنقل السريع بين الصفحات.
أي أن الكتاب كأداة يدفعك للتعمق في موضوع واحد.. بينما الإنترنت تبقيك على السطح في مواضيع متفرقة.. قبل أن تبدأ في التعمق في أي شيء ستكون قد انتقلت لشيء آخر جديد. لو شبهنا الأمر ببحر.. فالكتاب يشجعك على الغوص في العمق. بينما الإنترنت تجعلك تتنقل في الأماكن الضحلة السطحية للمعرفة.
حتى عملية القراءة نفسها تختلف ما بين الإنترنت وبين الكتاب.. كثير مما نقرأه على الإنترنت قد يكون بلا قيمة أو قد لا تكون متأكدا بعد من كون ما تقرأه هذا سيفيدك أم لا، فكثير منا -بدون قصد- تعود على نوع من القراءة السريعة اسمه skimming مثل قراءة الجرائد.. حيث تقفز عيناك بين العبارات والفقرات وأحيانا تكتفي بالعناوين فقط، وبالتالي تركيزك وفهمك لما تقرأه يكون أقل.. مستوى فهمك وتركيزك يكون سطحي أو ضحل كما يصف الكتاب
لكن ما المشكلة في القفز والتنقل السريع؟
أي معرفة تطلع عليها تُحفظ أولًا فيما يسمى بالذاكرة قصيرة الأمد Short-term memory وبعدها تنتقل ببطء للذاكرة طويلة الأمد.. المعرفة المحفوظة في الذاكرة طويلة الأمد هي التي تبقى معك ويمكنك الاعتماد عليها لاحقًا في عملك وحياتك
مؤلف الكتاب يقول أن التركيز أو الانتباه هو الوسيلة التي تنقل بها المعرفة من الذاكرة قصيرة الأمد إلى الذاكرة طويلة الأمد.. التنقل السريع بين الموضوعات المختلفة لا يعطي الوقت الكافي لمخنا لنقل ما تعلمه للذاكرة طويلة الأمد وبالتالي تخسر الكثير مما تقرأ وتشاهد على الإنترنت
لو نظرت لأكبر الشركات التي تستخدم مواقعها وشبكاتها يوميًا مثل جوجل وفيسبوك وتويتر.. ستلاحظ مشكلة كبيرة جدًا، وهي أن المصدر الأساسي للربح في كل هذه الشركات هو الإعلانات.. وهذا يعني أن تلك الشركات لديها دافع قوي لجعلك تشاهد أكبر قدر من الإعلانات. فكلما عرضوا إعلانات أكثر للمستخدمين كلما كانت أرباحهم أكبر. ولذلك كثيرًا ما يوصف نشاط هذه الشركات باقتصاد جذب الانتباه Attention Economy
جوجل وفيسبوك ربما يقدمون لك خدماتهم بدون مقابل مادي مباشر.. لكن هذا لا يعني أنهم يقدمونها مجانًا وإنما يقدمونها مقابل جزء من تركيزك وانتباهك! هناك صراع محتدم بين كل تلك الشركات والمواقع للاستحواذ على تركيزك ووقتك لعرض أكبر قدر من الإعلانات.
إن كنت تقضي ساعة من يومك تقريبًا على يوتيوب.. فمن مصلحة يوتيوب أن تشاهد في تلك الساعة 20 أو 30 فيديو.. ﻷن هذا يقابله عرض عدد أكبر من الإعلانات وبالتالي ربح أكبر للشركة، فستجد الموقع يغريك دائمًا بمقاطع فيديو مقترحة في كل مكان.
ورغم كل ما قلناه على يوتيوب، إلا أنه أفضل حالا من باقي الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك وانستجرام وتويتر. فلو كانت الattention span، أي فترة الانتباه، على يوتيوب تقدر بالدقائق، فهي على فيسبوك وانسترجام تقدر بالثواني! لو تأملت أي شخص أثناء استخدامه لهذه الشبكات.. ستجد أنه يحرك أصابعه عالشاشة كل عدة ثواني لكي يرى منشور جديد أو صورة جديدة.. هو فعليا لا يركز مع كل منشور ثوى ثواني معدودة!
أضف إلى هذا أن تلك المنشورات عادة ما تكون متنوعة جدًا.. ما بين ما هو ساخر، ديني، سياسي، رياضي، وهكذا.. نحن فعليا نجعل مخنا يقفز كل عدة ثواني بين موضوعات مختلفة تماما. ربما تسأل ما هي المشكلة في كل ما ذكرناه.. سواء عن الإنترنت عامة أو عن مواقع التواصل الاجتماعية
إدمان القشور
أول مشكلة: هي أن معظم المحتوى الذي نطلع عليه على السوشيال ميديا محتوى سطحي.. ولا أقصد هنا أنه كله تافه.. لكن حتى المحتوى المفيد عادة ما يُعرض لك منه هو قشور لا تبني أي معرفة حقيقية.. وإن كانت للأسف تعطي البعض وهم المعرفة.
التنقل السريع
ثاني مشكلة: هي أن التنقل السريع بين أفكار وموضوعات متنوعة يُصعّب على مخك الاحتفاظ بالمعرفة التي تطلع عليها.. أي أنه حتى عندما تصل لمحتوى مفيد متعمق.. مخك لن يمكنه الاستفادة منه بشكل مناسب.
التشتت وعدم التركيز
ثالث وأخطر مشكلة: هي أننا مع استخدامنا للإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بهذا الشكل يوميًا، فنحن -بدون قصد- ندرب مخنا تدريب مكثف على التشتت وعدم التركيز.
نحن نقوي الدوائر العصبية لعادة التشتت وطلب الجديد بشكل مستمر.. وللأسف التشتت وضعف التركيز هذا ليس مقتصرا فقط على الوقت الذي تستخدم فيه الإنترنت ومواقع التواصل.. التشتت وعدم القدرة على التركيز يظلان معك عندما تعود إلى عملك ودراستك
بدون قدرة على التركيز لفترة معقولة.. سيكون من الصعب جدًا عليك أن تتعمق في أي موضوع أو عمل مهم.. صعب أن تتميز في عملك أو في دراستك.. صعب أن تحقق طموحاتك من أهداف ومشاريع شخصية.
لهذا أرى أنه بالرغم من أن إضاعة الوقت على الإنترنت مشكلة كبيرة.. إلا أنها ليست أكبر من مشكلة إدمان التشتت وضعف التركيز. ﻷنك حتى لو ضيعت نصف اليوم على الإنترنت وكان لا زال بإمكانك التركيز في عملك أو دراستك خلال باقي اليوم فغالبا ستتمكن من تحقيق قدر جيد من الإنجاز.. لكن بكل أسف هذا لا يحدث. فعند عودتك لعملك أو دراستك لن تستطيع التركيز لفترات طويلة بشكل يسمح لك بالإنجاز وإحراز تقدم ملحوظ.. سرعان ما ستشعر بالملل وتشعر بالحاجة لتلبية طلب المخ في التعرض لشيء مخلتف وجديد.. فتعود مرة أخرى للإنترنت أو الموبايل. ولو منعت نفسك من الرجوع للإنترنت ومواقع التواصل.. ستشعر بالرغبة في عمل أي شيء آخر لا يتطلب تركيزًا.. فتنهض من مكانك لتبحث عن شخص تتحدث معه أو تبحث عن شيء لتأكله أو أي شيء مختلف
الحقيقة أن إدمان التشتت يتخطى حاجز الشعور بالملل.. فمخك أصبح يدمن التشتت حبا في التشتت نفسه وليس فقط هروبًا من الملل! وهذا هو سبب الموقف الغريب الذي شرحته لك في أول الفكرة وهو أنك حتى لو كنت تقرأ أو تشاهد محتىو يعجبك ولا تشعر بأي ملل، فإنك تجد نفسك تتوقف رغم ذلك عن القراءة أو المشاهدة وتذهب لفعل أي شيء آخر ولو لعدة ثواني.. وكأن مخك كان يحتاج جرعة تشتت ليس إلا
المؤلف يقول أن بحثه في موضوع الكتاب بدأ أصلًا عندما لاحظ أن قدرته على التركيز أصبحت ضعيفة جدًا، وبعدما كان يعمل بتركيز لساعة أو اثنتين متواصلتين، أصبحت فترات تركيزه دقائق معدودة! فبدأ يبحث على الإنترنت عن سبب ضعف تركيزه ليقوده بحثه في النهاية إلى أن استخدامه للإنترنت نفسه هو السبب والعامل الرئيسي.