محاكم التفتيش

محاكم التفتيش | مرابط

الكاتب: راغب السرجاني

3564 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هدف الإسبان إلى تنصير المسلمين بإشراف السلطات الكنسية، وبأشد وسائل العنف، ولم تكن العهود التي قُطعت للمسلمين لتحول دون النزعة الصليبية، التي أسبغت على السياسة الإسبانية الغادرة ثوب الدين والورع، ولما رفض المسلمون عقائد النصارى ودينهم المنحرف، وامتنعوا عنه وكافحوه، اعتبرهم نصارى الإسبان ثوارًا وعملاء لجهات خارجية في المغرب والقاهرة والقسطنطينية، وبدأ القتل فيهم، وجاهد المسلمون ببسالة في غرناطة والبيازين والبشرات، فمُزِّقُوا بلا رأفة ولا شفقة ولا رحمة[1].
 
 لم يقف الأمر عند حدِّ التهجير والتنصير، وإنما أعقب ذلك أن قام الكردينال الإسباني كمينس -وكان صليبيًّا حاقدًا- بحرق ثمانين ألف كتاب جُمعت من غرناطة وأرباضها في يوم واحد[2]. ثم أنشأ الإسبان بعد ذلك ما سُمِّي في التاريخ بمحاكم التفتيش؛ وذلك للبحث عن المسلمين الذين ادَّعوا النصرانية وأخفوا الإسلام.

 

إبادة المسلمين في الأندلس

 

كان الصليبيون الحاقدون إذا وجدوا رجلاً يدَّعي النصرانية ويُخفي إسلامه، كأن يجدوا في بيته مصحفًا، أو يجدوه يُصَلِّي، أو كان لا يشرب خمرًا، أقاموا عليه الحدود المغلظة، فكانوا يلقون بهم في السجون، ويعذبونهم عذابًا لا يخطر على بال بشر، فكانوا يملأون بطونهم بالماء حتى الاختناق، وكانوا يضعون في أجسادهم أسياخًا محمية، وكانوا يسحقون عظامهم بآلات ضاغطة، وكانوا يمزقون الأرجل، ويفسخون الفك، وكان لهم توابيت مغلقة بها مسامير حديدية ضخمة تنغرس في جسم المعذب تدريجيًا، وأيضًا أحواض يُقَيَّد فيها الرجل، ثم يسقط عليه الماء قطرة قطرة حتى يملأ الحوض ويموت، وكانوا -أيضًا- يقومون بدفنهم أحياء، ويجلدونهم بسياط من حديد شائك، وكانوا يقطعون اللسان بآلات خاصة.
 
كل هذه الآلات الفتاكة وغيرها شاهدها جنود نابليون حين فتحوا إسبانيا بعد ذلك، وقد صوَّروها في كتاباتهم، وعبَّروا عن شناعتها بأنهم كانوا يُصابون بالغثيان والقيء، بل والإغماء من مجرد تخيل أن هذه الآلات كان يُعذَّب بها بشر، وقد كان يُعذَّب بها مسلمون، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله! [3].
 
ومما يُذكر.. أن هناك عذابًا اختص به النساء العنيدات اللائي كن يشتمن رجال المحكمة؛ وهو تعرية المرأة إلا ما يستر عورتها، وكانوا يضعون المرأة في مقبرة مهجورة ويُجلسونها على قبر من القبور، يضعون رأسها بين ركبتيها ويشدون وثاقها، وهي على هذه الحالة السيئة، ولا يمكنها الحراك، وكانوا يربطونها إلى القبر بسلاسل حديدية، ويرخون شعرها فيجللها، وتظهر لمن يراها عن كثب كأنما هي جنِّـيَّة، لا سيما إذا ما أرخى الليل سدوله، وتُترك المسكينة على هذه الحال إلى أن تجنَّ، أو تموت جوعًا ورعبًا[4].
 
لقد قام النصارى بإجبار المسلمين على الدخول في دينهم، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبقَ فيها من يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. إلا مَنْ يقولها في قلبه وفي خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين! وكم فيها من الضعفاء والمعذورين! لم يقدروا على الهجرة واللحاق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل نارًا، ودموعهم تسيل سيلاً غزيرًا، وينظرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم، ومَنْ فعل ذلك عوقب بأشدِّ العقاب، فيا لها من فجيعة ما أمرَّها! ومصيبة ما أعظمها! وطامة ما أكبرها![5].

 

إحراق المسلمين في الأندلس من قبل محاكم التفتيش

 

لقد كانت محاكم التفتيش والتحقيق مضرب المثل في الظلم والقهر والتعذيب، كانت تلك المحاكم والدواوين تلاحق المسلمين؛ حتى تظفر بهم بأساليب بشعة تقشعر لها القلوب والأبدان، فإذا عُلم أن رجلاً اغتسل يوم الجمعة يصدر في حقه حكم بالموت، وإذا وجدوا رجلاً لابسًا للزينة يوم العيد عرفوا أنه مسلم فيصدر في حقه الإعدام، لقد تابع النصارى الصليبيون المسلمين؛ حتى إنهم كانوا يكشفون عورة من يشكون أنه مسلم فإذا وجدوه مختونًا، أو كان أحد عائلته كذلك؛ فيعلم أنه الموت ونهايته هو وأسرته[6].
 
وكان دستور ديوان التحقيق (الاسم الرسمي لمحاكم التفتيش) يجيز محاكمة الموتى والغائبين، وتصدر الأحكام في حقهم، وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، فتصادر أموالهم، وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو نبش قبورهم وتستخرج رفاتهم؛ لتحرق في موكب «الأوتودافي»، وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده، فيقضى بحرمانهم من تولي الوظائف العامة وامتهان بعض المهن الخاصة[7].
 
وبعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس، أرسل نابليون حملته إلى إسبانيا وأصدر مرسومًا سنة (1808م) بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الإسبانية.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. على الصلابي: دولة الموحدين، ص209
  2. شوقي أبو خليل: مصرع غرناطة، ص98، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/316
  3. شوقي أبو خليل: مصرع غرناطة، ص109-113
  4. علي مظهر: محاكم التفتيش، ص98
  5. مجهول: نبذة العصر، ص130، 131
  6. الصلابي: دولة الموحدين، ص211
  7. انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/338

 

المصدر:

  1. https://www.islamstory.com/ar/artical/20461/%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%AA%D9%8A%D8%B4
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#محاكم-التفتيش
اقرأ أيضا
الوسواس القهري في باب العقيدة | مرابط
مقالات

الوسواس القهري في باب العقيدة


الوساوس القهري هو: تصورات كفرية على شكل أفكار قهرية تقفز فجأة إلى عقلك فهي أفكار لا تحتمل تجعل صاحبها يظن أنه قد هلك.. وبين يديكم 12 قاعدة لابد أن يحفظها المبتلى بالوسواس القهري في العقيدة بقلم الدكتور هيثم طلعت

بقلم: هيثم طلعت
617
المبتدعة يعتقدون البدع دينا | مرابط
تفريغات

المبتدعة يعتقدون البدع دينا


المبتدع يعتقد أن البدعة دين لذلك فنحن نحجر على الطرق الصوفية بكل قوة فهي ضاربة في ظهور المسلمين منذ ظهرت الدولة الفاطمية إنهم يتكئون على هؤلاء المخرفين في تحقيق مآربهم بالشبه التي لا يعتمد عليها إطلاقا دعوه يتكلم إن المجلة هذه تستمر وهي تحرف عقائد المسلمين وتستهدف الأخيار الأبرار من المسلمين

بقلم: أبو إسحق الحويني
713
الدائرتان: بين العلم الشرعي والعلم الطبيعي | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات الإلحاد

الدائرتان: بين العلم الشرعي والعلم الطبيعي


إننا نقبل العلم الطبيعي كوسيلة بحث ولا نقبله كفلسفة شاملة ننظر من خلالها للحياة worldview ﻷن تبني هذه النظرة يجعلك متبعا للمذهب الطبيعي متبعا لفلسفة تنظر بها للعالم وتفسره من خلالها وأنت في اتباعك هذه الفلسفة لا تبني اتباعك على طريقة العلم الطبيعي والتجريب بل تبني اتباعك على طريقة فلسفية

بقلم: د. حسام الدين حامد
327
الحكمة من تأخير تحريم الربا | مرابط
مقالات

الحكمة من تأخير تحريم الربا


أخر الله نزول تحريم الربا لتعلق الناس به وشدة تمسكهم بأرزاقهم فأجل نزول التحريم حتى يقوى إيمانهم ليسهل عليهم الترك فقد روى ابن جرير من حديث سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: آخر ما نزل من القرآن آية الربا وإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يفسرها فدعوا الربا والريبة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
406
كيف تتفاضل الأعمال؟ | مرابط
مقالات

كيف تتفاضل الأعمال؟


إن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.

بقلم: ابن القيم
221
الميزان العقلي ومنطق اليونان | مرابط
اقتباسات وقطوف

الميزان العقلي ومنطق اليونان


مقتطف فيه رد شيخ الإسلام ابن تيمية على كلام الغزالي الذي جانب الشرع في تفسير معنى الميزان الوارد في القرآن الكريم والسماء رفعها ووضع الميزان وذلك في كتابه المسمى القسطاس المستقيم حيث أرجع موازين القرآن إلى ثلاثة أصول: ميزان التعادل وميزان التلازم وميزان التعاند وهذا هو عين المنطق اليوناني

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2213