مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي

مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

1491 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

تقديم المصلحة على النص

تعتبر مقولة نجم الدين الطوفي الشهيرة: (تقديم المصلحة على النص) من أشهر المقالات الفقهية والفكرية فىِ هذا العصر؛ لأنه تم توظيفها بمهارة لتكون بساطًا يسير عليه أي تحريف معاصر يرغب في تخطي بعض النصوص الشرعية، ومع الجهود العلمية الحثيثة في توضيح هذه القضية وبيان الشذوذ والخلل فيها إلا أن المقالة الطوفية ما تزال حاضرة في أي مشهد ثقافي يرغب في حذف بعض أحكام الشريعة.

نريد أن نقف مع القضية فى سؤالين جوهريين:

ما قصة هذه المقالة؟
وما علاقة التحريف المعاصر للشريعة بنظرية الطوفي؟

 

بداية القصة

تبدأ القصة: من أن نجم الدين الطوفي -رحمه اللَّه- وهو من فقهاء وأصوليي الحنابلة المبرزين (ت 716 هـ) لما جاء في كتابه (شرح الأربعين النووية) إلى حديث "لا ضرر ولا ضرار" قرَّر فيه أن الضرر والفساد منفي عن الشريعة وأن النصوص الشرعية دالة على اعتبار المصالح، وجعل هذا الحديث يدلُّ بعمومه على نفي الفساد؛ فإن جاء في النصوص ما يوهم فسادًا فإن كان النص قطعيًا معارضًا للمصلحة من كل وجه فلا اعتبار للمصلحة، وإن كان النص ظنيًا ووجد دليل آخر يسنده فلا اعتبار للمصلحة أيضًا، وإن كان لم يسند بدليل فإن أمكن الجمع بين النص والمصلحة فحسن، وإن لم يكن فإن كان في العبادات والمقدرات فلا اعتبار للمصلحة، وإلا قدِّمت المصلحة على عموم النصِّ من باب البيان والتخصيص لعمومها لا من باب الافتيات عليها (1).

 

فخلاصة الأمر في نظرية الطوفي أنها تقوم على خمس قواعد جوهرية:

1 - المصالح لا تقدَّم على النصوص القطعية.

2 - المصالح لا تقدم على النصوص الشرعية المتعلقة بالعبادات والمقدرات.

3 - المصالح المقصودة هي المصالح الشرعية التي جاءت الدلائل الشرعية باعتبارها.

4 - أنه لا يُلجأ إلى تقديم المصالح إلا بعد تعذر الجمع بين المصلحة والنص.

5 - أن تقديم المصالح هو من باب تخصيص العموم وليس من الافتيات أو الردِّ الكلي للنص الشرعي.

 

تخصيص النص

فحقيقة الأمر أن تقرير الطوفي لم يكن بعيدًا عن تقرير عموم الأصوليين في الموضوع في المبحث الأصولي الشهير (تخصيص النص)؛ حيث يقرر الأصوليون أن عموم النص قد يكون ضعيفًا أو محتملًا لبعض الأفراد فيتم تخصيصه بناءً على نص آخر أو قياس أو مصلحة ضرورية أو حاجية ملائمة للشريعة، مع اختلاف بينهم في مدى إعمال هذه القاعدة وفي المسميات الأصولية التي يطلقونها على هذا الباب، فحقيقته في النهاية أنه من تخصيص النص بالنص، ومن إعمال النصوص جميعًا، ومن منهجية دفع التعارض عن النصوص (2).

فالطوفي لم يخرج عن قاعدة الأصوليين هذه، لكن تعبيره عن رأيه الفقهي بهذه الطريقة (تقديم المصلحة على النص) لم يكن موفَّقًا، ولا مهذَّبًا مع الدليل الشرعي، وقد كان سببًا لأن يتخذ مسمارًا تشق به كلُّ قطعيات الشريعة، وأصبح الطوفي بعدها منبرًا يعلو عليه كلُّ محرِّف تائه ليصرخ في وجه الشريعة باسم الطوفي، فرحمه اللَّه وعفا عنه.

كما أن الطوفي لم يمثل للمصلحة التي تقدَّم على النص، وهو ما يؤكد أنه لا يقصد المصلحة العقلية المحضة التي يقصدها أصحاب القراءات الجديدة للنص الشرعي، بل يقصد المصلحة الشرعية التي جاءت الشريعة باعتبارها، وفي الحقيقة أنه لا يُتَصوَّر وجود تعارُض بين المصلحة والنص؛ فالنص لا يمكن أن يأتي بما يعارض المصلحة، ولا تأتي النصوص إلا بأكمل المصالح وأنفعها، فمقصود الطوفي هو ما يظن أنه نص وليس كذلك؛ وإلا فالنص إذا ثبت لا يمكن أن يخالف المصلحة؛ وإنما تحصل المعارضة مع نص غير صحيح أو صريح أو مع مصلحة موهومة غير حقيقية.

 

وهذا يدعونا إلى السؤال الثاني:

هل طريقة بعض المعاصرين في تحريف الشريعة باسم المصلحة لها علاقة بنظرية الطوفي؟

الواقع أنه ثَمَّ فروق جوهرية بين مقولة الطوفي وبين من يستند إليه من المعاصرين:

1 - الاختلاف الجوهري في فهم المصالح: فنظرة الطوفي إلى المصالح تعتمد على الميزان الشرعي في تعريف وتحديد المصلحة؛ فالمصالح تعمُّ ما ينفع الناس في الدنيا والآخرة، وشاملة لا فيه حفظ الدين والدنيا، ويندرج فيها كلُّ ما جاءت الشريعة به من الأصول والأحكام. هذه صورة المصالح عند الطوفي وعند غيره من العلماء، لكن المشهد يتغير تمامًا عند المتذرعين بالطوفي؛ فالمصالح عندهم مصالح دنيوية بحتة فقط، لا ترى أي اعتبار يذكر للمصالح الأخروية، لا يكادون يفهمون شيئًا اسمه مصلحة الدين؛ لأن الدين شأن ذاتي فردي لا علاقة له بالنظام، ينفون كثيرًا من الأحكام الشرعية فلا يرون فيها أي مصلحة لأنها تنافي الثقافة العَلمانية السائدة.

إذن، فلفظ المصلحة متفَق بين الطرفين، لكن معناه يختلف جذريًا بين من ينطلق من مفهوم إسلامي للمصلحة وبين من ينطلق من مفهوم علماني لها؛ ولهذا تجد أن الطوفي وغيره يرون أن الجهاد وقتل المرتد ومنع المحرمات هو من أعظم المصالح لما فيه من حفظ مصلحة الدين، وهو الشيء المزعج لدى كثير من المعاصرين لأنهم يرونها أحكامًا تنافي المصلحة.

2 - الاختلاف الجوهري في فهم النصوص: فالطوفي وغيره لا يتحدثون عن نصوص قطعية ذات دلالة واضحة فيقدمون النصوص عليها، فهم أهل تعظيم للشريعة وحرماتها، فهم بعيدون جدًا عن هذا الطريق الذي يريد الحداثيون تعبيده باسم الطوفي، فالنص القطعي لا يجوز لأي مسلم تخطِّيه، لكن إشكالية كثير من الحداثيين أن النصوص كلَّها محل إشكال، فكلها لا تدل على قطع ولا يستمد منها يقين، وإذا سمعوا كلمة (قطعي) قالوا مباشرة: (من يمتلك الحقيقة؟)!

3 - الاختلاف الجوهري في تمييز الأبواب الشرعية: فأبواب العبادات والمقدرات خارجة تمامًا عن الموضوع؛ لأننا علمنا -قطعًا- أنَّها مراد اللَّه فلن يجرؤ مسلم على مناقضة اللَّه في حكمه ولا حكمته، فلا إمكانية لأي مصلحة حقيقة لأن تكون مخالفة لها، فلا يمكن تخطِّي بعض أحكام العبادات أو الحدود أو المواريث أو الديات أو تفاصيل الجنايات أو الكفارات أو العِدَد أو الطلاق أو شروط النكاح؛ لأنها جاءت مقدَّرة محددة فلا إمكانية لأي مصالح فيها، لأن المصلحة فيها قطعية في اتباع مراد اللَّه.

4 - الاختلاف الجوهري في منهجية النظر في النصوص: فالطوفي وغيره من أهل العلم يقصدون الجمع بين النصوص، وإعمال كافة الأدلة. قد يخطئ بعضهم في بعض أحكامه، لكن المنهج الكلي العام هو الجمع بين النصوص وإعمالها جميعًا، بينما تقوم الطريقة الحداثية ومن تأثر بها على إعمال المصالح الدنيوية المحضة، ومواكبة العصر، ومسايرة التطور، ثم وجدوا أثناء ذلك نصوصًا وأدلة لا تنتج ما يريدون، فاضطروا إلى تأويلها وتحريفها حتى لا تكون عائقًا عن الحداثة والتقدم، بل إن بعضهم لم يلتفت إليها أصلًا إلا لما رأى أن الناس منجذبون إلى هذه النصوص، فعُلِم أن مجرد الإعراض عن النصوص لا يكفي، فلا بد من عودة إليها لتخليص العقل المسلم من الانجذاب نحوها، فشتان بين من ينظر في النصوص ليهتدي بها ويسير وراءها ممن يفكِّر خارجها ولا يأتي إليها إلا لمهمة التخلُّص منها.

فنهاية الأمر في تقديم المصلحة على النص هو أن تكون النصوص عبئًا لا فائدة منها؛ فالإنسان يتبع مصالحه أينما كانت، فإن وافق المصلحة عمل بالنص اتباعًا للمصلحة، وإن خالفه عمل بالمصلحة، فكان وجود النص عبئًا وتلبيسًا وإشغالًا للناس لا غير، وهو نتيجة طبيعية لمن ينظر للمصلحة بمعيار يختلف عن معيار الشريعة، فالنصوص إنما جاءت بما فيه مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، فافتراض التعارض بينها وبين المصلحة افتراض مغلوط وسؤال خاطئ؛ لأنه يفترض أن النصَّ شيء يختلف عن المصلحة، بينما النصوص في الحقيقة لا تأتي إلا بأكمل المصالح وأشرفها؛ فالتعارض لا يكون بين المصلحة والنص، بل بين مصالح الشريعة التي جاءت بها النصوص والمصالح الكاذبة التي تأتي بها أهواء النفوس.

ومع كل هذا ستبقى مقولة (تقديم المصلحة على النص) حاضرة في مشهد التحريف والعبث المعاصر، وسيبقى الطوفي -رحمه اللَّه- حاضرًا على لسان وقلم كل عابث، وما كان يدور في خلدِ أحد أن عبارة قيلت قبل سبعة قرون ستكون ذريعة وسترًا شرعيًا لأرتال العبث الفكري المعاصر، وهذا نموذج لخطورة زلة العالم التي تجعلنا نستشعر عظمة فقه عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حين قال (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن والأئمة المضلون) (3).

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: التعيين شرح الأربعين، للطوفي، ص 236 - 241.
  2. حَمْل كلام الطوفي على جادة عموم الأصوليين في الموضوع هو ما توصل إليه بعض الباحثين المعاصرين كالباحث أيمن جبريل الأيوبي في رسالته القيمة (مقاصد الشريعة في تخصيص النص بالمصلحة) حيث جمع كلام الطوفي بعضه إلى بعض فحكم بناء عليه أن الطوفي غير خارج عن المنهجية الأصولية، غير أن في تقرير الطوفي من العبارات المشتبهة والمجملة والملبسة ما دفع بأكثرية المعاصرين إلى مخالفة هذا الرأي وحمل كلامه على تقديم المصلحة العقلية على النص أو تقديمها على النص القطعي أو نحو هذا مما يعد فيه الطوفي شاذًا عن الطريق الأصولي، ومن هؤلاء -على سبيل المثال- مصطفى زيد في المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي، محمد سعيد رمضان البوطي في ضوابط المصلحة في الشريعة الاسلامية، أحمد الريسوني في نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، وغيرهم كثير.
  3. أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: 2/ 162.

 

المصدر:

فهد بن صالح العجلان، معركة النص، ص123

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
تحديد المنهجية في انتقاء الكتب | مرابط
تفريغات

تحديد المنهجية في انتقاء الكتب


ما هو السبيل إلى الانتفاع بالكتب وهي كثيرة لأنك إذا دخلت في الكتب على غير منهج تفارق عليك أمرك فأفضل وسيلة بعدما تأخذ قدرا من العلم وهذا كلام موجه إلى من انتهى من الفرض العيني ويريد أن يتخصص يعني كلامنا ليس للذين يطلبون الفرض العيني فأفضل وسيلة أن تأتي لكل فن من الفنون بأفضل كتاب وأشده تحريرا وتبدأ تخدم هذا الكتاب وتقرؤه بتمعن فافترض مثلا أنك تبنيت كتابا فقهيا فتأخذ -على سبيل المثال- نيل الأوطار أو سبل السلام -وله متن أيضا- على أساس أنه من أقصر الكتب وأفضلها

بقلم: أبو إسحق الحويني
585
فتنة النساء.. إصدار خاص | مرابط
المرأة

فتنة النساء.. إصدار خاص


بدأت أؤمن أن فتنة النساء بالنسبة للرجال ليست مقتصرة أبدا على الانجذاب الفطري لها بشكل محرم إذا لم تكن زوجة أو بشكل يؤدي إلى محرم إذا كانت زوجته ولكن يؤدي التعلق بها إلى حرام آخر في اكتساب المال أو عقوق الوالدين وغير ذلك.

بقلم: معتز عبد الرحمن
324
كيف تصبح قارئا عظيما للكتب | مرابط
فكر مقالات

كيف تصبح قارئا عظيما للكتب


هذه عشر خطوات لتطوير مهاراتك في القراءة حتى تكون من المتمكنين فيها ولتصبح من القراء الكبار اخترتها لك - عزيزي القارئ - من بين عشرات المقالات باللغة الإنجليزية المنشورة في هذا الموضوع وقمت بترجمتها بتصرف وهي للمدرب المتخصص في التنمية وتطوير المهارات السيد جيم إلين

بقلم: الشيخ الدكتور سلطان الدويفن
551
المجتمع الديموقراطي | مرابط
اقتباسات وقطوف الديمقراطية

المجتمع الديموقراطي


إذا وقفنا على مفهوم المجتمع الديموقراطي سنجد أكثر من تعريف ويبدو أن هناك طرفين أساسيين يتجاذبان تعريف هذا المجتمع الأول هو الغارق في المثالية المطلقة التي لا تعرف للواقع طريقا والثاني هو الواقعي المستمد من حياة الأنظمة الحاكمة وبين يديكم مقتطف للكاتب نعوم تشومسكي يوضح فيه هذين التعريفين

بقلم: نعوم تشومسكي
655
أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع


وتنوع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع الشريعة الواحدة فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو دين واحد مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة كما أمر المسلمون بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة ويحرم استقبال الصخرة فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته فهكذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت ثم نسخ ذلك وشرع الجمعة فكان الاجتماع يوم السبت واجبا إذ ذاك ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة وحرم الاجتماع يوم ا...

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
770
صراع الهوى والإيمان | مرابط
اقتباسات وقطوف

صراع الهوى والإيمان


المؤمن يتصارع إيمانه وهواه فقد يطيف به الشيطان فيغفله عن قوة إيمانه فيغلبه هواه فيصرعه وهو حال مباشرة المعصية ينازع نفسه فلا تصفو له لذتها ثم لا يكاد جنبه يقع على الأرض حتى يتذكر فيستعيد قوة إيمانه فيثب يعض أنامله أسفا وحزنا على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه عازما على أن لا يعود لمثل تلك الغفلة.

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
247