مخططات التنمية التجارية
خلال العقد الأخير تعرضت أكثر بقاع الأرض قداسة؛ مكة المكرمة إلى موجات من التغيير والتحديث أثارت جدلًا واسعًا بين المسلمين في كل أنحاء العالم. في العقد الماضي فقط كانت مكة المكرمة، مهد الإسلام، هدفًا لبعض مخططات التنمية التجارية الأكبر والأسرع في العالم، أكثر من مائة مبنى قيد البناء حول المسجد الحرام، مما سيحول جذريًا المناظر الطبيعية والتاريخية والمعمارية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المدينة النامية بتسارع غير مسبوق.
أحياء كاملة تعرضت لتغيرات جذرية ونزح سكانها الأصليون إلى ضواحي مكة المكرمة أو بعض المدن المجاورة، قلاع يعود تاريخها إلى قرون مضت، الشوارع ذات النسق التقليدي، الأسواق الشعبية، حتى المكتبات والمدارس والمقاهي القديمة في هذه المنطقة المركزية لمكة المكرمة قد دُمّرت بالكامل. لم يعد هناك دلائل وفيرة من الماضي لإثراء الذاكرة الجمعية والشعبية لهذه المدينة الفريدة.
مشاريع إعادة التعمير
تراثها المادي الملموس يتضاءل بانتظام متسارع، ويُستبدل بملامح منفصلة عن سياقها الروحاني المقدس، هذا النهج العشوائي لمشاريع إعادة التعمير في أقدس بقاع العقيدة الإسلامية يكشف عن القوى المفرطة لرأس المال البترولي والمقاولين والمطوّرين من القطاع الخاص، وجهاز الدولة.. كما يكشف عن الآثار الرئيسية عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية والبيئية.
كما أثارت هذه التغيرات أيضًا جدلا بين المهتمين بالنطاقات التاريخية ذات القيمة، وكيفية تنميتها واستمرار الحفاظ على طبيعتها وتاريخها وهويتها ومقوماتها الإنسانية. فقد سوّقت الحكومة السعودية مشروعها بقيمته الخيالية من مليارات الدولارات لتطوير مكة المكرمة، وقنّنت بصرامة جميع الإجراءات والتأثيرات التي تترتب عليه، كضرورة حتمية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج المسلمين، وتحسين خدمات الحج والعمرة (بشير، 2010).
وفي نفس الإطار، يفتخر محافظ مكة الأمير (خالد الفيصل) بخطة حكومته لدفع مكة المكرمة إلى القرن الحادي والعشرين، وتحويل هذه الوجهة الدينية إلى مدينة نموذجية للتنمية والتحديث. والهدف هو جعل مكة المكرمة المدينة الأكثر جمالا في العالم، الجمال نسبي في الواقع، وتحقيقه يثير التساؤل عندما يكون على حساب الشعوب والجماعات الإنسانية بهدم المنازل والمعالم التاريخية والدينية.
التراث التاريخي للبلاد يتلاشى
وقد انعكست هذه التخوفات على أعداد متزايدة من المواطنين، لا سيما أولئك الذين يعيشون في المدينتين المقدستين (مكة المكرمة والمدينة المنورة)، بدوا قلقين على التراث التاريخي للبلاد، وهو يُسحق تحت حركة بناء متسارعة يبدو جليًّا أن الربح هو هدفها الرئيسي. لاسيما وأن تلك الحركة دائمًا ما كانت مدعومة برجال الدين والعلماء السعوديين الذين ساهموا بتفسيرات خاصة تبرر عدم المحافظة على تراث المدينة المقدسة، خاصة ذلك التراث المرتبط بحقبات معينة من تاريخها الطويل لا تتوافق مع مرجعياتهم الشرعية.
فوضى مكانية وروحانية
حوّلت عملية إعادة إنتاج مكة المكرمة التي رفعت شعار "المدينة الجميلة والحديثة" وسط المدينة إلى نطاق مكاني غريب للعديد من سكانها البالغ عددهم ما يتجاوز 1.7 مليون. تسببت هذه العملية أيضًا في كثير من الالتباس والارتباط البصري والذهني، بل والروحاني لملايين الناس الذين يقومون بزيارة البقاع المقدسة كل سنة. تشييد المشاريع التي تستغل كل شبر من الأرض في هذه المنطقة المركزية والمزدحمة ومحاولة تحقيق أقصى عدد من الغرف الفندقية والشقق والمطاعم والأسواق التجارية الحصرية، أدت إلى نوع جديد من الفوضى المكانية التي يمكن أن توصف بالقمعية أو التمييزية في أحسن الأحوال.
شعور الاغتراب
بل إن كثيرًا من نقاد مخطط تطوير المدينة من السعوديين عبروا عن مشاعر مماثلة من الاغتراب والفقدان والهزيمة والحيرة كما يناقش بشير (2010). مكة المكرمة، المكان الذي أكد فيه نبي الإسلام محمد، صلى الله عليه وسلم، على أن المسلمين جميعًا على قدم المساواة، قد أصبحت ملعبًا للأغنياء النافذين ماليا وسلطويا وتشريعيا، لقد اغتصبت الرأسمالية القاسية الباردة روحانية المدينة ومبرر وجودها. والأكثر خطوة أن السياق السياسي والاجتماعي في المملكة العربية السعودية، شأنه شأن سائر الأنظمة الأحادية الملكية اللاديمقراطية، لا يوجد فيها، إلا بصورة محدودة للغاية، من يملك الجرأة على الاعتراض أو القدرة على وقف هذا التخريب الثقافي.
المصدر:
- د. علي عبد الرءوف، من مكة إلى لاس فيجاس، ص83