هجرة وهجرة

هجرة وهجرة | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

2153 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الهجرة إلى الله

الهجرة إلى الله عزَّ وجلَّ من أسمى المعاني الإيمانية، ومن أعظم التضحيات التي يمكن أن يقدمها العبد إرضاءً لله سبحانه وتعالى، ومن ثَمَّ وعد اللهُ عز وجل الذين هاجروا بأعظم الثواب، وأرفع الدرجات، فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58]. وقال أيضًا {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41] وقال أيضًا: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].
 
وهذا الثواب العظيم سببه تلك التضحية الكبرى التي يقدمها العبد، الذي يترك بلده وداره وماله، وربما زوجه وأهله وأبناءه ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، ونصرة لدينه، ورفعًا لراية الإسلام.
 

الصحابة رضوان الله عليهم

 

أبو بكر رضي الله عنه

وقد ضرب لنا الصحابة رضوان الله عليهم المُثُل العليا في ذلك الميدان؛ إذ تركوا مكة وهاجروا بدينهم إلى المدينة، وصاغوا أروع القصص في التضحية؛ فهذا أبو بكر يهاجر مع رسول الله تاركًا أهله، ومنفقًا ماله في سبيل الله تعالى؛ فيروي ابن إسحاق عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها، قَالَتْ: "لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلّهُ وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتّةُ آلاَفٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدّي أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاَللّهِ إنِّي لاَ أَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِه. قَالَتْ: قُلْت: كَلاَّ يَا أَبَتِ، إنّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: فَأَخَذْت أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي كُوّةٍ فِي الْبَيْتِ الّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْت عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمّ أَخَذْت بِيَدِهِ، فَقُلْت: يَا أَبَتِ، ضَعْ يَدَك عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلاَغٌ لَكُمْ. وَلاَ وَاَللّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ أُسَكِّنَ الشّيْخَ بِذَلِكَ[1].
 

صهيب رضي الله عنه

وهذا صهيب الرومي يروي قصة هجرته فيقول: قال رسول الله: "أُرِيتُ دار هجرتكم سبخة[2] بين ظهراني حرة، فإمّا أن تكون هَجَرَا أو تكون يثرب". قال: وخرج رسول الله إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت بالخروج معه، فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم ولا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه، ولم أكن شاكيًا، فقاموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بريدًا ليردوني، فقلت لهم: هل لكم أن أعطيكم أواقي[3] من ذهب وتخلون سبيلي، وتفون لي؟ فتبعتهم إلى مكة، فقلت لهم: احفروا تحت أسكفة[4] الباب؛ فإن تحتها الأواق، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين، وخرجت حتى قدمت على رسول الله قبل أن يتحول منها - يعني قباء -، فلما رآني قال: "يا أبا يحيى، ربح البيع" ثلاثًا. فقلت: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام[5].
 
كانت الهجرة إذن سبيلًا عظيمًا من سبل الجهاد لنشر الإسلام، ومصطلح الهجرة لذلك مصطلح عزيز غالٍ، له مكانة سامية عند جميع المسلمين.
 

الهجرة الأخرى

وقد عاد مصطلح الهجرة للظهور في عالم المسلمين مرة أخرى في السنين القليلة الماضية، ولكن في هذه المرة لم يكن المقصود بالهجرة إعلاء الدين بدرجة خالصة، إنما قد يهاجر من بلد مسلم إلى بلد مسلم آخر سعيًا وراء رزقه، وقد تكون هذه الهجرة إلى المدينة المنورة ذاتها كما كانت أيام الهجرة الأولى، لكنها ليست خالصةً كما كانت؛ فالهدف الأول فيها طلب المال، وهو ليس حرامًا إِنْ أتى من حلال، ولكن لا يجب على المرء أن يخدع نفسه بأنه ذهب إلى هناك في سبيل الله، ودليل ذلك أنه لو أُتيح له فرصة عمل بأجر أعلى أو ظروف أفضل في مكان آخر؛ فإنه سيترك المدينة المنورة إلى غيرها من المدن.. ومن هنا فإننا لا نستطيع إسقاط الآيات والأحاديث التي وردت في فضل الهجرة على هذه المواقف إلا إذا كانت الهجرة من البلد للفرار بالدين أساسًا، وإن كان الراتب أقل والظروف أصعب.
 
وأشق من ذلك ما نراه أحيانًا من هجرة بعض المسلمين إلى بلاد الغرب للإقامة الدائمة فيها طلبًا للرزق وارتقاءً بالمستوى المادي، أو سعيًا وراء العلم، أو الحرية الشخصية، أو للزواج من أجنبية.
 

فهجرته إلى ما هاجر إليه

وكل ما مضى من أسباب قد يكون لا غبار عليه، ولا حُرمة فيه، وقد يدخل في باب الجواز، ولكن لا يدخل في باب الهجرة التي قصدها الشرع، ويدل على ذلك قول رسول الله: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"[6].
 
وهذا اللفظ "فهجرته إلى ما هاجر إليه" يدل على أن الهجرة للدنيا أو التزوج ليس حرامًا، "وَإِنَّمَا أَشْعَرَ السِّيَاق بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ طَلَبَ الْمَرْأَة بِصُورَةِ الْهِجْرَة الْخَالِصَة، فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهَا مَضْمُومَة إِلَى الْهِجْرَة فَإِنَّهُ يُثَاب عَلَى قَصْد الْهِجْرَة لَكِنْ دُون ثَوَاب مَنْ أَخْلَصَ، وَكَذَا مَنْ طَلَبَ التَّزْوِيج فَقَطْ لاَ عَلَى صُورَة الْهِجْرَة إِلَى اللَّه؛ لأَنَّهُ مِنَ الْأَمْر الْمُبَاح الَّذِي قَدْ يُثَاب فَاعِله إِذَا قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَة كَالإِعْفَافِ"[7].
 
ولكن طلب هذه الدنيا ينبغي ألا يتم بصورة تخالف العهود والنظم الخاصة بكل دولة، كما يحدث من بعض الشباب الذين ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم، ولم يجدوا لهم عملًا كريمًا، ولم يبحث لهم المسئولون عن سبيل يعولون منه أسرهم، ويكوِّنون مستقبلهم، فحاولوا التسلل لبلاد أخرى دون موافقة سلطات هذه البلاد، وهذا فيه مخالفة لنظم تلك الدول، والشرع الإسلامي يحترم ما تضعه الدول من أنظمة ما دامت لا تخالف الشرع؛ لذا ينبغي على هؤلاء الشباب البحث عن سبيل ليس به مخالفة.
 
إننا نعرف مدى ما أصاب هؤلاء الشباب والرجال من ضيقٍ في العيش، يتحمل مسئوليته المسئولون الذين لم يقوموا بواجبهم في خدمة شعوبهم، بل ربما شاركوا في التضييق على هذه الشعوب رعاية لمصالحهم الخاصة، وتلك جريمة يتحملون وزرها أمام رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن على من يغامرون بمخالفة قوانين الدول الأخرى، وربما تعرَّضوا للسجن أو الترحيل إن وصلوا إليها سالمين على أفضل الأحوال، أو للموت في الطريق غرقًا في البحر، أقول: على هؤلاء أن يسلكوا طريقًا أخرى لطلب الرزق، ولا ييئسوا؛ فاللهُ هو الرزاق ذو القوة المتين. نسأل الله U الصلاح للمسلمين جميعًا في الدنيا، والجنة في الآخرة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ابن هشام: السيرة النبوية 488/1
  2. السبخة: الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر
  3. الأواقي: جمع أوقية، وهي أربعون درهمًا
  4. الأسكفة: عتبة تكون تحت الباب
  5. الحاكم في المستدرك: 176/13، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه (أي البخاري ومسلم)
  6. أبو داود: السنن 437/6
  7. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، باب بدء الوحي 2/1

 

المصدر:

  1. راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، الجزء الأول، ص173
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الهجرة
اقرأ أيضا
الداعية الجوكر | مرابط
مقالات

الداعية الجوكر


ظهر الجوكر في المسلمين بحلة جديدة فهو الذي يقيم الحلقة ويخلطها بالدعوة فلا يتخول الناس بها من باب ساعة وساعة بل هي الأصل فلا يأنف من تقليد المغنيين ولا التغني بأغاني الفساق ولا يستوحش من القيام بالحركات الدنية وكل خوارم المروءة من أخذ الصور مع الفسقة ومجالستهم ليس لنصحهم وإنما للحديث عن اختلاف الرأي

بقلم: قاسم اكحيلات
517
عبقرية اللغة العربية | مرابط
لسانيات

عبقرية اللغة العربية


يحضرني عبقرية الفقهاء قديما في اختيار مصطلحاتهم في الفقه وفي العلوم..كيف ربطوا من خلالها بين العلم والدين ببراعة شديدة؟! وكيف وسعت العربية الفذة هذا الأمر؟! تأمل مثلا استعمالهم لفظ المكلف للتعبير عن المخاطب في الكلام.. فأي فعل لا ينفك عنه معنى الافتقار والعبودية.. يمكن أن تفهم ذلك أكثر من ملاحظة استعمال القانون مثلا للفظ العاقل للتعبير عن المخاطب.

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
248
بدايات حركة السفور وتحرير المرأة | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

بدايات حركة السفور وتحرير المرأة


فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات وصرت مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر

بقلم: محمد جلال كشك
590
ليست السنة كلها تشريعا ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

ليست السنة كلها تشريعا ج2


إن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية يمكن قبوله كإجراء فني اصطلاحي لفرز طبائع التصرفات النبوية وما يتصل بها من أحكام لكن المشكلة هو في تحقيق طبيعة الحدود الفاصلة بينهما وتحريك تلك الحدود ليخرج بعض ما كان محلا للتشريع عن أن يكون كذلك فليس صحيحا أن تخرج تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم من إطار الشريعة بذريعة صدور الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بتعدد أدواره الحياتية وإنما المحكم في تحديد ما يدخل في إطار التشريع منها وما يخرج هو الشريعة نفسها والتي كشفت عن هذه المسألة بدقة ووضوح

بقلم: عبد الله العجيري وفهد بن صالح العجلان
702
من أخلاق الكبار: أحمد بن حنبل | مرابط
تفريغات

من أخلاق الكبار: أحمد بن حنبل


الإمام أحمد بعدما أوذي هذا الأذى لم يفتح ملفات من الأحقاد وسجلات من العداوة فلان هو المتسبب وفلان هو الذي سعى في الموضوع وفلان خذلني وفلان قصر في حقي وفلان لم يسع في خلاصي من أسر هؤلاء وفلان ما زارني بعد السجن وفلان صدرت منه بعض الكلمات التي لربما يفهم منها أنه كان مباركا لهذا العمل راضيا به لم يفتح شيئا من هذا إطلاقا ولم ينقل لنا التاريخ عن الإمام أحمد - رحمه الله - على طول ترجمته كلمة واحدة تدل على أنه وقف عند نفسه.

بقلم: خالد السبت
372
الحياة العريضة | مرابط
مقالات

الحياة العريضة


إن كثيرا من الناس إذا ذكرت عنده البركة انصرف ذهنه إلى بركة المال والولد ويغفل عن البركة في العمر فمن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة

بقلم: د. طلال الحسان
313