استنباط أشراط الساعة
من المسائل المهمة التي ينبغي أن تكون حاضرة في ذهن الناظر في أشراط الساعة: أن الاستنباط في أشراط الساعة عند كثير ممن يصنف في ذلك جلهم يلتزمون تقييد أشراط الساعة بنصوص مقيدة من كلام الله عز وجل أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا تقوم الساعة حتى كذا، أو بين يدي الساعة كذا، أو أعدد كذا بين يدي الساعة، فيترقب كلمة القيامة وكلمة الساعة، ويجعل ذلك شرطًا من أشراط الساعة، وهذا فيما أرى فيه نظر، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة، فكل ما يأتي عن النبي عليه الصلاة والسلام من الأخبار الغيبية المستقبلية أنه يقينًا سيحدث هو من أشراط الساعة إذا دل عليه الدليل، كمسألة زوال عصر أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا لا أعلم من أشار إليه ممن صنف في هذا الباب إلا على سبيل الإجمال، كمسألة ذهاب الصالحين، يذهب الصالحون الأول فالأول، والصواب في ذلك أن ذهاب جيل الصحابة، وهو القرن الأول، هو من علامات الساعة، كما أن موت النبي عليه الصلاة والسلام من علامات الساعة وأشراطها.
وأشراط الساعة كيف تستنبط من السنة، ومن كلام الله عز وجل؟
تستنبط بأمور عدة:
الأمر الأول: أن يشار إلى أن هذا بين يدي الساعة أو يكون سابقًا لها، كما يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عوف بن مالك في الصحيح: ( أعدد ستًا بين يدي الساعة )، أو لا تقوم الساعة حتى كذا.
الأمر الثاني: من العلامات أيضًا فيما يشير إليه النبي عليه الصلاة والسلام أنه يقع كذا وكذا، ثم تقوم الساعة.
الأمر الثالث: من القرائن التي يستنبط فيها: أن يقرن وقوع أمر في سياق شرط من أشراط الساعة، ولو كان هذا لم يشر إليه في ذات الخبر، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أشار في خبر أن بعثته من أشراط الساعة، وموته من أشراط الساعة.
وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن مبعثه من أشراط الساعة في جملة من الأحاديث، كما رواه البخاري من حديث الفضيل عن أبي حازم عن سهل بن سعد عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بعثت أنا والساعة كهاتين. وأشار إلى السبابة والوسطى)، وقد جاء هذا عند الإمام مسلم من حديث شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بعثت أنا والساعة كهاتين )، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا من حديث جابر في الصحيح، وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من غير هذا الوجه، وفي هذا إشارة إلى أن مبعث النبي عليه الصلاة والسلام من علامات الساعة.
وجاء أن موته من علامات الساعة أيضًا، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البخاري من حديث بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أعدد ستًا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس )، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (موتي) هذا علامة من علامات الساعة، وجاء في خبر آخر ذكر موت النبي عليه الصلاة والسلام وقرن معه أشياء، وهذه الأشياء إذا نظرنا إلى السياق لا نستطيع أن نستنبط منها أنها من علامات الساعة، لكن لو نظرنا هنا للإشارة إلى الموت أنه من علامات الساعة فيعلم أن الذي يليه هو من علامات الساعة.
وقد روى الإمام مسلم من حديث مجمع عن سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبيه وهو أبو موسى الأشعري عليه رضوان الله تعالى قال: ( صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب، فقلنا: نجلس ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلينا في صلاة العشاء، فقال: ما زلتم مكانكم؟ قال: قلنا: يا رسول الله! ننتظر حتى تأتي. قال: أحسنتم أو أصبتم. فقال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وكثيرًا ما ينظر إليها، قال: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد )، وهذا فيه إشارة إلى أن ذهاب النجوم وكثرة الشهب وسقوطها أن هذا من علامات الساعة.
وقال عليه الصلاة والسلام: ( وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون )، وهذا قد ثبت أنه من علامات الساعة فيما تقدم في حديث عوف بن مالك ، قال: ( قال أعدد ستًا بين يدي الساعة: موتي )، فموت النبي عليه الصلاة والسلام من علامات الساعة.
ثم قال: ( فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )، فقوله: (ما الذي يوعدون؟) يعني: الذي يوعدون وهو قرب قيام الساعة، وبه يُعلم أن ذهاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقراض الجيل هذا من علامات الساعة، وهذا يؤخذ بنص آخر وهو حديث عوف بن مالك ، ولو أخذنا هذا الخبر على سبيل الاستقلال ما جعلنا هذا من أشراط الساعة.
وهذا يخالف ما ذكره أكثر الشراح في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى في صحيح الإمام مسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها قالت: ( كان الأعراب يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى أحدث القوم سنًا، فيقول عليه الصلاة والسلام: إن بقي هذا لم يدركه الهرم تقوم الساعة )، يعني: أن أصغر صحابي في الحضور هو هذا الصبي، ولن تقوم الساعة في المعتاد حتى يكبر هذا، ويأخذ عمره المعتاد، وفي الحديث: (أعمار أمتي بين الستين والسبعين)، فينقرض هذا الجيل، فإذا انقرض تكون حينئذٍ ظنت قيام الساعة وقربت، وقبل ذلك لا تقع.
وجل الشراح يقولون: إن مراد النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك هي القيامة المتعلقة بكل واحد منكم وهو الموت، والذي أرى والله أعلم أن المراد بذلك هو ذهاب جيل الصحابة، ويعضده ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عليه رضوان الله تعالى في البخاري في صلاة النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر، حينما انفتل من أصحابه .. إلى آخر الخبر المعروف، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( رأيتكم ليلتكم هذه، فإنه لا يبقى على ظهر مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد )، يشير إلى أصحابه أنهم ينقرضون ثم تقوم الساعة، وذلك أن الساعة لا تقوم وفي الأرض خير، وذلك أن الله عز وجل يبعث الريح، فتأخذ أرواح المؤمنين، ولكن خص النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة بخصيصة وهو أنهم يأخذون موتهم بقبض روح يمتازون عمن تقوم عليه الساعة وهم المؤمنون في آخر الزمن ممن تأخذ أرواحهم الريح، وهذا من القرائن التي يؤخذ منها أشراط الساعة.
الأمر الرابع: مما يؤخذ منه أيضًا أشراط الساعة في النصوص ما يأتي من كلمة: أول الفتن، أو أول الشر، ونحو ذلك، سواء في كلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في غيرهم، وهذا يأتي في ألفاظ حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى، ومن ذلك ما رواه الدينوري في كتابه "المجالسة" من حديث حجاج عن زيد بن وهب عن حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى، قال: (أول الفتن مقتل عثمان بن عفان عليه رضوان الله تعالى، والذي نفسي بيده لا يكون في قلب أحد مثقال ذرة من إيمان من حب مقتل عثمان إلا ويتبع المسيح الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه آمن به بقبره). وفي هذا إشارة إلى مسألة أول الفتن وربطها بالمسيح الدجال ، وفيه إشارة إلى أن أول الفتن ظهورًا التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام وأقواها هي فتنة مقتل عثمان التي كانت كانفراط العقد التي تبعها جملة من الفتن كقتال فئتين من المؤمنين، كما في حديث أبي هريرة وحديث حذيفة ، وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى الفتنة التي تقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( دعواهما واحدة ).
الأمر الخامس: أن كل ما كان إرهاصًا لشرط من أشراط الساعة فهو شرط للساعة أيضًا، وذلك أن أشراط الساعة لها شروط وإرهاصات، فهذا الإرهاص لشرط الساعة هو شرط للساعة أيضًا، ولازم لها، وهو لا يتحقق إلا بوجوده، فما كان إرهاصًا لهذا الشيء فهو من أشراطها.
الأمر السادس: ما يخبر به بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يخبر به النبي عليه الصلاة والسلام وقوعًا من غير تقييد: ليوشكن أن يكون كذا وكذا، أو ليقعن كذا وكذا، فإن هذا فيما يظهر لي أنه من أشراط الساعة أيضًا، وذلك أن أشراط الساعة يحصرها أمور: أولها بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وآخرها اختلف في تقييده في خلاف ضيق يأتي بيانه، على خلاف عند العلماء في أول أشراط الساعة الكبرى، مما يأتي بيانه لاختلاف الروايات في ذلك، وسنبين الراجح من المرجوح بإذن الله عز وجل في موضعه، وإذا علم ذلك علم أن ما يخبر به النبي عليه الصلاة والسلام مما يحدث هو من أشراط الساعة المتباين هل هو من الكبرى أو من الصغرى، بحسب الحال وبحسب الورود.
تقسيمات أشراط الساعة
ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن يشار إليها في هذا الباب قبل الولوج فيه في سياق أشراط الساعة أن العلماء يختلفون في تقسيماتهم لأشراط الساعة لاعتبارات كثيرة، منها:
التقسيم باعتبار الصغر والكبر
من العلماء يقسم أشراط الساعة إلى أشراط كبرى وصغرى، وهذا التقسيم على سبيل الاجتهاد المحض، وذلك أن فروع هذا التقسيم شروط الساعة الكبرى والصغرى هناك ما يتفق عليه ويقطع به أنه عظيم جليل القدر، وهناك ما يتنازع فيه، فيجعل العلماء من الكبرى هو ما نص عليها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عوف و أبي هريرة و حذيفة ، وكذلك الكبرى هي ما كانت تنفرط كالعقد في آخر الزمان، والصغرى تسبق ذلك.
ولكن يقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى جملة من الصغرى وتكون مع الكبرى ككثرة الفتن وكثرة القتل والهرج، وكثرة الجهل، فيذكرها العلماء في الصغرى وهي داخلة مع الكبرى.
التقسيم باعتبار الوقوع وعدمه
ومنهم من يقسمها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أشراط وقعت وانتهت، القسم الثاني: أشراط وقعت وما زالت تقع وتزداد، القسم الثالث: أشراط لم تقع بعد، وهي ما يطلق عليه أقسام أشراط الساعة الكبرى، وهذا التقسيم فيه تداخل بين الأول والثاني، وهي أيضًا تتداخل بين الثاني والثالث، وذلك أن من الثاني ما يدخل في الثالث فيكون وقع ويزيد، ومما يكون وقع وانتهى مما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام كما في مسألة الكذاب والمبير، والنار التي تخرج من بصرى، وفتح بيت المقدس، وموت النبي عليه الصلاة والسلام، ومبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وانقضاء عصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهور الفرق من الخوارج، والفتنة التي وقعت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.
ومن القسم الثاني الذي وقع وما زال يزداد، هو تقارب الزمن فيما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وفشو الجهل وفشو القلم في الناس وكثرة الجهل.
وثمة إشارة لطيفة في قول النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المواضع: ( ظهور الجهل )، ويأتي في بعض المواضع: ( ظهور القلم وفشو القلم )، وهذا فيه إشارة إلى أن وجود القلم والكتب في الناس أنه لا يدل على العلم، وأنه قد يدل على الجهل، وهذا مشاهد في أن الأمية قد انحصرت أو كادت أن تنحصر في الناس، والناس يكتبون ويقرءون، وأن هذا ليس بلازم للعلم؛ لأن العلم الحق هو معرفة العلم النافع، وليس معرفة العلم الضار الذي يضر الإنسان في عاجل أمره من دنياه، وآجله في آخرته، ونحن نشاهد كثيرًا من أرباب النظريات ممن يحدثون أحداثًا هي ضرر على البشرية، كالأسلحة الفتاكة، والابتكارات الطبية، والتي بسببها انتشرت الأوبئة والأمراض والأسقام في الناس والتي تظهر صراعًا بين جيل وجيل لم يكن يعرفه الناس قبل ذلك.
كذلك ما ظهر القلم في الناس حينما انتشرت الأفكار السيئة، وغطى ذلك على معرفة الحق من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه، وبه يُعلم أن الإنسان إذا استكثر من ذلك فليس بدليل على معرفته بالعلم الحق الذي يفصل به الإنسان، ويفرق فيه بين الخير وبين الشر.
التقسيم باعتبار تاريخ الوقوع
ومن الاعتبارات التي يقسم فيها العلماء أشراط الساعة: اعتبار الوقوع وتاريخ الوقوع، فتكون أشراط الساعة على نوعين: أشراط تسبق الساعة، وأشراط معها.
فالأشراط التي تسبق قيام الساعة هي ما لم تقع فيه الساعة، ويدخل في هذا جملة من أشراط الساعة الكبرى وجميع الصغرى، أما ما يكون مصاحبًا لقيام الساعة فيدخل في هذا ابتداء كخروج الشمس من مغربها، وهذا هي العلامة الأولى لانتهاء وانقضاء التوبة، وبدأ الهرج والمرج، وكذلك سقوط النجوم وانكدارها، وسقوط الشهب واضطراب الكواكب، وفيه إشارة إلى أمر الله عز وجل لاختلال عامل ما يسمى بالجاذبية التي جعلها الله عز وجل عاملًا في اتزان هذه الكواكب في دورانها بانتظام، وهذا يكون مصاحبًا لقيام الساعة.
وبه يُعلم أن من العلامات الفارقة بين العلامات المصاحبة لقيام الساعة، والعلامات السابقة لقيام الساعة: قبول التوبة، فما كان تقبل فيه التوبة حال نزول الشرط فإنه قبل قيام الساعة، وما لم تقبل فيه التوبة فهو أثناء قيام الساعة.
وبه يُعلم أيضًا أن كل شرط من أشراط الساعة دل الدليل على أن التوبة مقبولة فيه فهو سابق لطلوع الشمس من مغربها، وكل شرط من أشراط الساعة دل الدليل على عدم قبول التوبة فيه يُعلم أنه بعد طلوع الشمس من مغربها، وعليه يُعلم أن نزول المسيح عيسى ابن مريم وخروج الدجال هو قبل طلوع الشمس من مغربها، وذلك أن الإيمان ينفع حينئذٍ، وأن الاختلاف في الروايات الواردة في أن أول أشراط الساعة هي النار التي تخرج من اليمن، فتحسر الناس إلى الشام وهي أرض المحشر، أن كلمة "أول" يراد بها هي أشراط الساعة الأولى التي تسبق قيام الساعة، وذلك أن هذا النص فيه إشارة إلى هذا التقسيم، بالإشارة إلى الأولية، وهذا يرجح هذا التقسيم من جهة الإجمال، ويدخله جملة من التقسيمات.
وأرجح هذه التقسيمات فيما أرى هو هذا التقسيم: أن أشراط الساعة على قسمين: قسم سابق لقيام الساعة، وقسم في أثناء قيام الساعة، والسابق لقيام الساعة منه صغرى وكبرى، ومن كان بعد قيام الساعة أو مصاحب لها هو كبرى فحسب، ويأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى.
خطورة الكذب
ومن المسائل المهمة في هذا الباب والتي ينبغي معرفتها والعناية بها أيضًا: أن مرد هذا إلى الوحي من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الكذب في ذلك هو كذب على الله، وتجرؤ على الوحي من بابين: الباب الأول: هو متضمن للكذب العام في التشريع، ولو لم يلزم منه تعبد. الباب الثاني وهو أخطر: أن هذا أمر غيبي متعلق بعلم الغد، وعلم الغد ليس لأحد إلا لله، ومن افترى في ذلك فقد نازع الله عز وجل في حقه، فمن كذب في ذلك أو تساهل فيه فقد تساهل في حق من خصوصية الله عز وجل.
والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم في كتابه الصحيح من حديث داود بن أبي هند عن عامر بن شراحيل الشعبي عن مسروق قال: (كنت متكئًا عند عائشة عليها رضوان الله تعالى، قالت: يا أبا عائشة ! ألا تعلم من أعظم الفرية على الله؟ قلت: من؟ قالت: ثلاثة من قال بها فقد أعظم الفرية على الله، وذكرت منها عائشة عليها رضوان الله تعالى: من قال أنه يعلم ما يكون غدًا).
ومن أشراط الساعة التي يحدث بها الناس بلا علم أنه سيحدث كذا، وهو من اختراق خصوصية الله عز وجل، وقد أعظم الفرية على الله، وبه يُعلم أن هذا باب من كبائر الذنوب، بل هو من أكبر الكبائر، ومع أنه متضمن للكذب على الله ففيه منازعة الله عز وجل في خصوصيته، فإن الله عز وجل هو الذي يعلم ماذا تكسب النفس غدًا، فلا يعلم ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، فمن نازع الله عز وجل في حقه يكون حينئذٍ خطره أعظم من خطر من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوحي.
ومعلوم أن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أتى بكبيرة من كبائر الذنوب، بل قد ذهب بعض العلماء وهو قول لإمام الحرمين إلى أنه كافر خارج عن الإسلام، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كما الصحيحين وغيرهما من حديث جماعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: ( من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار )، فكيف بمن كذب في حق الله؛ لأن هذا الكذب هو كذب في حق الله محض، وليس في حق النبي عليه الصلاة والسلام فحسب؛ ولأن النبي عليه الصلاة والسلام لا علم لديه في هذا الأمر إلا ما علمه الله جل وعلا؛ ولهذا ينبغي للمرء أن يحترز في هذا الباب ما لا يحترز في غيره.
مبعث النبي
سبق أن ذكرنا تقسيمات أشراط الساعة، وأن تقسيمها على الأرجح فيما أرى على قسمين:
القسم الأول: أشراط الساعة السابقة لقيامها، وهي على نوعين: أشراط كبرى، وأشراط صغرى.
القسم الثاني: أشراط مصاحبة لقيام الساعة وتابعة لها، وأولها خروج الشمس من مغربها.
والنوع الثاني من القسم الأول وهي الأشراط الصغرى فأولها هو مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومبعث النبي عليه الصلاة والسلام هو من أشراط الساعة، فقد جاء في البخاري من حديث الفضيل عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بعثت أنا والساعة كهاتين. وأشار بأصبعه السبابة والوسطى)، وقد جاء هذا عند مسلم في الصحيح من حديث شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك بهذا اللفظ وبنحوه، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر عليه رضوان الله تعالى، فمبعث النبي عليه الصلاة والسلام هو من أشراط الساعة.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (كهاتين) يمكن تأويله على معنيين:
المعنى الأول: (كهاتين) أن هذا فيه إشارة إلى أصابع اليد، فإن السبابة لا يليها إلا الوسطى، أي: لا يلي مبعث النبي عليه الصلاة والسلام إلا التي تليها وهي الوسطى، فلا يفصل بينها إصبع أخرى كالخنصر والبنصر أو الإبهام.
المعنى الآخر: أن الفصل بين السبابة والوسطى هو مقدار يسير بينهما، وذلك لا يكون إلا للسبابة مع الوسطى، أي: أن المتبقي من الدنيا بالنسبة لعمرها كحال المتبقي من مبعثي وما من رأس السبابة إلى الإبهام، وهذا يحتمل هذا التفسير.
وقد رجح الأول أكثر الأئمة من المحققين كالحافظ ابن رجب وغيره من الأئمة، وهو الأظهر، والثاني أيضًا محتمل، وقد حمل هذا المعنى الثاني واستنبط عمر الدنيا.
وهل عمر الدنيا يمكن ضبطه أم لا؟ ضبطه بالتحديد محال، وظواهر النصوص وقواطعها من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر بين، ولكن تحييد جملة منها على سبيل التقريب ممكن.
وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام خبر موضوع أن (الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن الأمة ألف)، وقد بنى على ذلك بعض العلماء أن الأمة لا تتجاوز الألف، وقد صنف في ذلك السيوطي ردًا على من قال بهذا القول، ولكنه قد وقع فيما نفر منه، وهو تحديد الأمة بأنها لا تزيد عن ألف وخمسمائة، وأنه يرى أن قيام الساعة على مشارف الألف وخمسمائة، وإن كانت علامات الساعة الصغرى جلها قد ظهر، ولم يبق منها إلا نزر يسير كما يأتي الإشارة إليه، إلا أنه لا ينبغي القطع بذلك.
والجزم الذي يجزم به أن عمر أمة محمد لا يتجاوز ما بين مبعث موسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، أي: لا يزيد عمرها عن عمر بني إسرائيل، والدليل على ذلك ما رواه البخاري و مسلم من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ، وكذلك رواه أيوب عن نافع عن عبد الله بن عمر ، ورواه ليث عن نافع عن عبد الله بن عمر ، واللفظ لليث ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما أجلكم فيمن كان قبلكم كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من أول النهار إلى صلاة الظهر على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من صلاة العصر إلى صلاة المغرب على قيراطين؟ فعملتم أنتم، فقالوا: ما لنا أكثر عملًا وأقل أجرًا؟ فقال: هل نقصتكم من أجركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء ).
فاستنبط بعض العلماء من قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أجلكم) يعني: عمركم (فيمن كان قبلكم) مقارنة للأمم السابقة من النبي عليه الصلاة والسلام إلى أول البشرية، كهذا التقدير من أول النهار إلى صلاة العصر، هذه هي الأمة السابقة، وهي بنو إسرائيل، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( إنما أجلكم فيمن كان قبلكم ) تقييد من الأمم السابقة ببني إسرائيل وهم اليهود والنصارى، فجعل عمر اليهود والنصارى هو من أول النهار إلى صلاة العصر، والمتبقي هو من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وما بين ذلك وبين تلك المدة هو أقل من ذلك بكثير.
وعليه يُعلم أن ما بين مولد النبي عليه الصلاة والسلام ومولد عيسى هو سبعمائة وخمسين، وهذا ظاهر، ولكن ما بين عيسى وموسى يفتقر إلى دليل ظاهر بين، ولا دليل في ذلك، ولكن ما كان من هذا مرده إلى الوحي، ولكن يقطع في ذلك أن عمر الأمة يزيد على سبعمائة وخمسين، وهي الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما كان بعد ذلك فأمره مجهول، ولكن ما يذكره بعض بني إسرائيل من المدة بين موسى وعيسى فهي تخرصات، منهم من يقول: ألف، ومنهم من يقول: سبعمائة، ومنهم من يقول: خمسمائة، ومنهم من يزيد على ذلك، ومنهم من ينقص، ومنهم من يقول: ألفين، ونحو ذلك، وهي تخرصات.
ولكن المقطوع به أن عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تزيد عن عمر بني إسرائيل مجتمعة، وهذا نص صريح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إنما أجلكم )، وجاء أصرح منه في خبر آخر في الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام: ( إنما بقاؤكم )، وهذا دليل على أن بقاء الأمة لا يزيد عن بقاء بني إسرائيل وهم اليهود والنصارى، ويبقى هذا الأمر غيبي؛ لأن الله عز وجل اختص به الأمر عنده، وبه يُعلم الحكمة من بيان أشراط الساعة، وذلك أن الله عز وجل حينما بين أشراط الساعة فيستنبط منه أن معرفة وقت الساعة محال، ولو سعى إليه الإنسان لما تحصل، وهذا مقتضى معرفة الأشراط، ولو كان معنى الساعة ووقتها وزمنها معلومًا لما كان لمعرفة الأشراط شيء يراد من نصوص الشريعة، وإلا لبُينت الساعة بزمنها، وما تركت اتكالًا على بعض الأشراط.
وبه يُعلم أن كل من زعم أن قيام الساعة في سنة معينة، أو في يوم معين أنه معتدٍ على الله عز وجل، بل هو كذاب أشر، ولا يتجرأ على ذلك إلا عديم الإيمان، ومنتفي الإيمان بالكلية، ظاهر في النفاق، وأما من يتكلم على سبيل الإجمال أن الساعة قد قربت ودنت فإن هذا هو ظاهر نصوص الكتاب والسنة، وكذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ممن كان خبيرًا بسره وأمره عليه الصلاة والسلام.
موت النبي
الشرط الثاني من أشراط القسم الأول من النوع الأول وهو أشراط الساعة الصغرى التي هي قبل الساعة: موت النبي عليه الصلاة والسلام، والدليل على ذلك ما رواه البخاري في كتابه الصحيح من حديث بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس عن عوف بن مالك ، قال: ( أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك في قبة له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعدد ستًا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم )، والمراد بالموتان: هو الموت الذي يدب في الناس، فيهلك فيه خلق كثير، ( ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا تدع بيتًا من بيوت العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر )، يعني: الروم، وهي أوروبا وأمريكا، ( ثم يغدرون، ثم يأتونكم على ثمانين غاية، على كل غاية اثنا عشر ألفًا )، وبجمعها تخرج قرابة المليون شخص، وهذا لم يكن قطعًا.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (موتي) أن النبي عليه الصلاة والسلام لا تقوم الساعة وهو موجود، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام هو خير الخلق على الإطلاق، وسيد ولد آدم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام موته هو من علامات الساعة وأشراطها.
ويأتي بعد هذا أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا الحاشر يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب )، ففي قوله عليه الصلاة والسلام: ( أنا الحاشر يُحشر الناس على قدمي )، وفي رواية: ( على عقبي )، يعني: حينما أدبر يحشر الناس بعدي، فتأتي قيام الساعة، وقيل: المراد بذلك هو على قيام الساعة أن بين يدي الله عز وجل عند المحشر، وهذا مرجوح، والأرجح في ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام موته عليه الصلاة والسلام هو من علامات الساعة، فيحشر الناس بعده جيلًا بعد جيل إلى موضع المحشر وهي الشام كما يأتي بيانه بإذن الله تعالى.
ونكتفي بهذا القدر، وسنذكر بإذن الله عز وجل فيما سيأتي سرد أشراط الساعة، وبيان أدلتها، وبيان ما يدخل فيها من فروع مما يذكره بعض من صنف في هذا الباب على أنه على سبيل الاستقلال.
أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لمرضاته، وأن يأخذ بي وبكم منهجًا قويمًا، وصراطًا مستقيمًا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.