وقال الشيخ الإمام أبو بكر الطرطوشي أيضا - رحمه الله - في كتابه المسمى بكتاب النهي عن الأغاني: وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله، ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا ثم ازداد الأمر إدبارا حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين، وفقنا الله، وإياهم استزلهم الشيطان، واستهوى عقولهم في حب الأغاني، واللهو، وسماع الطقطقة، واعتقدته من الدين الذي يقربهم من الله تعالى، وجاهرت به جماعة المسلمين، وشاقت به سبيل المؤمنين، وخالفت العلماء والفقهاء وحملة الدين {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء: ١١٥]
وقد سئل مالك - رحمه الله - عما رخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، ونهى عن الغناء، واستماعه، وأما أبو حنيفة - رحمه الله - فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب، وكل ذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي لا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم أيضا بين أهل البصرة خلافا في كراهية ذلك، والمنع منه، وأما الشافعي - رضي الله عنه - فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهم مكروه، ويشبه الباطل، والمحال، أما سماعه من المرأة التي ليست بمحرم له فإن أصحاب الشافعي مجمعون على أنه لا يجوز بحال سواء كانت مكشوفة أو من وراء حجاب، وسواء كانت حرة أو مملوكة قال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته.
وغلظ القول فيه قال: هو دياثة فمن فعل ذلك كان ديوثا، وكان الشافعي يكره الطقطقة بالقضيب، ويقول وضعته الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن القرآن، وأما العود، والطنبور، وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق، وقال: - صلى الله عليه وسلم - «من فارق الجماعة قيد شبر مات ميتة الجاهلية».
وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين؛ لأنهم جعلوا الغناء دينا، وطاعة، ورأت إعلانه في المساجد، والجوامع، وقد كان أولى الناس بالاحتياط لدينهم هذه الطائفة فإنهم متلبسون بالدين، ومدعون الورع والزهد حتى توافق بواطنهم ظواهرهم، وقد قال الله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} [لقمان: ٦] الآية قال: الحسن ومجاهد والنخعي: هو الغناء، وقال ابن مسعود: لهو الحديث الغناء، والاستماع إليه، وقوله تعالى {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} [الإسراء: ٦٤] قال مجاهد: بالغناء، والمزامير {وأجلب عليهم بخيلك ورجلك} [الإسراء: ٦٤] قال أكثر المفسرين: كل راكب وماش في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجله
المصدر:
المدخل لابن الحاج