أنواع الاختلاف

أنواع الاختلاف | مرابط

الكاتب: شيخ الإسلام ابن تيمية

1171 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أما أنواعه: فهو في الأصل قسمان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد.

 

اختلاف التنوع

واختلاف التنوع على وجوه: منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «كلاكما محسن».

ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل.

ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف؛ ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيثارها، ونحو ذلك، وهذا عين المحرم ومن لم يبلغ هذا المبلغ؛ فتجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى قول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.

ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جدا.

ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين.

ثم الجهل أو الظلم: يحمل على ذم إحدهما أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم.

 

اختلاف التضاد

وأما اختلاف التضاد فهو: القولان المتنافيان: إما في الأصول وإما في الفروع، عند الجمهور الذين يقولون: " المصيب واحد "، وإلا فمن قال: " كل مجتهد مصيب " فعنده: هو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان؛ لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقا ما، فيرد الحق في الأصل هذا كله، حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم.

وأما أهل البدعة: فالأمر فيهم ظاهر وكما رأيته لكثير من الفقهاء، أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت الاختلاف كثيرا بين بعض المتفقهة، وبعض المتصوفة، وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة.

ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة: من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحه تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور.

وهذا القسم - الذي سميناه: اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك إذا لم يحصل بغي كما في قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5].

وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار فقطع قوم وترك آخرون.

وكما في قوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79] فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم.

وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة - لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة.

وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».. ونظائره كثيرة.

وإذا جعلت هذا قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة أقسام.

وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله: فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى كما في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] إلى قوله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253].

فقوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253] حمد لإحدى الطائفتين - وهم المؤمنون - وذم للآخرى، وكذلك قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج: 19] إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الحج: 23] مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: " أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة والذين بارزوهم من قريش وهم: عتبة وشيبة والوليد.

وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول وكذلك آل إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك.

وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213] ؛ لأن البغي: مجاوزة الحد.

وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة.


وقريب من هذا الباب: ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية، كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة.

لكن هذا الاختلاف على الأنبياء: هو - والله أعلم - مخالفة الأنبياء كما يقول: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه

 


 

المصدر:

شيخ الإسلام ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ص148


 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الاختلاف
اقرأ أيضا
أين الثوابت والمتغيرات | مرابط
فكر مقالات

أين الثوابت والمتغيرات


حين نستعرض تفسيرات المعاصرين للثوابت والمتغيرات في الشريعة الإسلامية نجدها ترجع لثلاث تفسيرات رئيسية تفسير الثوابت بالقطعيات والمتغيرات بالظنيات أو تفسير الثوابت بالمجمع عليه والمتغيرات بالمختلف فيه أو تفسير الثوابت بالأصول والمتغيرات بالفروع ويكمن الإشكال في الأحكام التي تترتب على هذا التقسيم وفي التصورات التي تبنى على هذه التفسيرات فسؤال: أين الثوابت والمتغيرات ليس مشكلا كسؤال ما الذي سيترتب على تفسير الثوابت والمتغيرات

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2443
لماذا لا يثق الليبراليون بالليبراليات: الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

لماذا لا يثق الليبراليون بالليبراليات: الجزء الأول


يستطيع الليبرالي أن يعيش ازدواجية عنيفة بين شخصيته التي يظهر بها أمام أضواء الإعلام وفي سطور مؤلفاته أو مقالاته وشخصيته الحقيقية التي تظهر عندما تنطفئ هذه الأضواء وعندما يعم الظلام ويجف مداد القلم هنا تظهر هذه الازدواجية لترى الانحلال الأخلاقي والنظرة الشهوانية الجنسية للمرأة التي تقبع داخله بينما ينادي ليل نهار بحرية المرأة والتعامل معها على أنها إنسان له حقوق وكرامة قبل كل شيء وفي هذا المقال سترى الكثير من الشهادات بألسنة الليبراليين أنفسهم لتدرك وهم الليبرالية

بقلم: إبراهيم السكران
2125
السفر للخارج للتعليم | مرابط
مقالات

السفر للخارج للتعليم


في الحقيقة لا يوجد مانع بين التعليم وبين الآخرة ولكن إذا كان هناك تعارض بين التعليم الدنيوي والصلاح والاستقامة فطبيعي سنقدم الاستقامة والصلاح. وإذا كان ظني بأولادي حسن وهم على دين وخلق فالعاقل لا يرمي بهم في موطن يبيح الزنا والخمر والربا ولحم الخنزير واللواط وغيره ثم أقول بفضل الله أولادي متربيين تربية كويسة!!

بقلم: محمد سعد الأزهري
453
صلاة الفجر بين الصادقين والمنافقين | مرابط
تفريغات

صلاة الفجر بين الصادقين والمنافقين


سنتكلم عن اختبار من الاختبارات الصعبة جدا فليس أي شخص ممكن ينجح فيه لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل هذا الاختبار مقياسا واضحا بين المؤمن والمنافق فهو اختبار خطير والذي سيسقط في هذا الاختبار سيكون منافقا بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختبار هذا يا إخواني ويا أخواتي هو اختبار صلاة الفجر صلاة الفجر في جماعة للرجال وصلاة الفجر في أول وقتها للنساء

بقلم: د راغب السرجاني
923
الخوف من البلاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الخوف من البلاء


والحقيقة أن من خالط الإيمان بشاشة قلبه فإنه سوف يجني أولى ثمرات إيمانه في الدنيا بتذوق طعم الحياة بنكهة مختلفة لأن نظرته للأشياء من حوله ستكون أكثر شمولا للزمان والمكان والأحوال فينشأ عن ذلك طمأنينة النفس وسكينة القلب وهدأة البال فلا يجزع عند البلاء مع الجازعين ولا يتسخط عند المصيبة مع المتسخطين لأنه موقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه

بقلم: د. جمال الباشا
431
بين الدوام وصلاة الفجر | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين الدوام وصلاة الفجر


ومن الطريف حقا أن مثل هذا المعتاد على إخراج الفجر عن وقتها مع الالتزام ببداية الدوام الصباحي ينظر لنفسه على أنه شخص ناجح ومنضبط في حياته بل ربما أسدى بعض النصائح لبعض اليافعين حوله: كيف ينجحون في حياتهم بالانضباط والالتزام بالمواعيد والجدية في الحياة ولا يرف له جفن على صلاة الفجر التي ينقرها كل ضحى!

بقلم: إبراهيم السكران
341