استمداد المذاهب من خارج أهلها

استمداد المذاهب من خارج أهلها | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

1541 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمدلله وبعد،،

 

الفقهاء العابرون للحدود

يتصور البعض أن المذاهب الفقهية أسوار مغلقة أقرب إلى القنوات المتجاورة التي تسير بجنب بعضها لكنها لا تتمازج، أي أنها كانت تجتهد وتفكر وتنتج داخل فضائها الفقهي الخاص فقط، وهذا غير دقيق، فهناك فقهاء يمكن تسميتهم (الفقهاء العابرين للحدود) وهم فقهاء أثروا على مذاهب أخرى تأثيرًا جوهريًا أوجزئيًا.

وحين كنت أطالع كتب المذاهب الفقهية الثلاث (الحنفية والمالكية والشافعية) وللأسف ليس لي خبرة دقيقة ومنظمة بها، بل كثيرًا ما تمر بي اصطلاحات في كتب المذاهب الأخرى ولا تتبين لي، وخصوصًا المالكية فما أكثر اختصاراتهم، لكنني كنت أراجع بعض المسائل فقط، فكان يدهشني حجم الحضور لأعلام مميزين خارج مذاهبهم.
 

أبو حامد الغزالي

أكثر شخص شدني حضوره خارج مذهبه ولم أجد ذلك لعالم آخر في كل التراث الإسلامي، وأستبعد أن يوجد له مثيل، فهو حضور مكثف وغزير وكأنه واحد من أهل المذهب نفسه، إنما هو (أبو حامد الغزالي)، فالغزالي حاضر في المذاهب الأخرى صراحة أو ضمنًا بشكل مثير للاستغراب جدًا، وهو بحاجة لدراسة لسبب استئثاره بهذا التأثير الأممي في عالم الفقه؟!

وخصوصًا تأثير الغزالي على الفقه المالكي، حتى أنني مرة حين رأيت كثرة ورود الغزالي في كتب المالكية استربت في الأمر، وقلت لعل هذا رجل من المالكية اسمه الغزالي! وراجعت المسألة ووجدته أبو حامد فعلًا! ومن أكثر من أدخل الغزالي على المالكية ابن شاس رحمه الله.
 
حتى قال ابن عرفة في أحد مسائل الشهادات (لا أعرف هذه المسألة لأحد من أهل المذهب، إنما ذكرها الغزالي فأضافها ابن شاس للمذهب)، وينص ابن عرفة كثيرًا فيقول "نص عليها الغزالي".

ولاحظت متأخري الحنفية ينقلون كثيرًا من إحياء علوم الدين للغزالي، والمالكية ينقلون كثيرًا من الوجيز للغزالي، وربما أن السبب هو اختلاف نمط الاحتياجات، فالحنفية يحتاجون للجانب الأخلاقي الذي عرضه أبو حامد، والمالكية يحتاجون للفروع التي فرعها أبو حامد، إذ لم يكن متقدمو المالكية مولعون بالتفريع كما كان الحنفية فلديهم اكتفاء من هذا الجانب.
 
وحتى في أصول الفقه، فالكتاب المشهور للحنابلة هو (روضة الناظر) وهو مختصر من المستصفى، وابن رشد المالكي صاحب بداية المجتهد لخص المستصفى أيضًا!
ويبدو لي لو بحث أحد الباحثين مصادر الأحاديث الضعيفة التي دخلت على كتب المذاهب الفقهية، فلن أستبعد أن يكتشف أنه بسبب الإحياء، فالإحياء للغزالي هو بوابة الأحاديث الضعيفة على أمة محمد، غفر الله له، وكلما تذكرت كتاب العراقي (المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار) أخذت أتعجب من شدة جلد العلماء السابقين، نحن اليوم مع كل الإمكانيات البحثية نتعب في تخريج الحديث وجمع طرقه وتحقيق صحته، بل الواحد منا إذا حقق مائة أو مائتي حديث شعر بالزهو، وهذا العراقي يلاحق أحاديث الإحياء الغزيرة والتي أكثرها ليس في دواوين الإسلام المعروفة، فلله در العراقي!

وأكثر متأخري الحنفية ماتريدية، وكتابهم الرئيسي هو (المسايرة) وقد تأثر فيها بالغزالي حتى قال ابن عابدين (المسايرة هي رسالة في علم الكلام ساير بها عقيدة الغزالي).

فالغزالي أعظم شخصية إسلامية مؤثرة في العصر الوسيط !
 

العز بن عبد السلام

والشاطبي متأثر بالقرافي، والقرافي متأثر بالعز بن عبد السلام الشافعي تأثيرًا جوهريًا شديدًا، وقد كنت أقرأ في الفروق للقرافي مواضع تعجبني جدًا، ثم أكتشف أنها بنصها في قواعد الأحكام للعز ابن عبد السلام، وقد أشار لذلك الشاطبي مرةً في الاعتصام فقال (ومما يورد في هذا الموضع أن العلماء قسموا البدع بأقسام أحكام الشريعة الخمسة، ولم يعدوها قسما واحدا مذموما، فجعلوا منها ما هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم، وبسط ذلك القرافي بسطًا شافيًا، وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عز الدين بن عبد السلام).
 

ابن المنذر وابن عبد البر

وأما المغني لابن قدامة فمادته الجوهرية من ابن المنذر وابن عبد البر، وخصوصًا مذاهب الصحابة والتابعين، ومذاهب أئمة الأمصار، بل كثيرًا ماينقل ابن قدامة أقوال ابي حنيفة ليس من كتب الحنفية بل من كتب فقهاء أهل الحديث كابن المنذر وابن عبد البر، وهذا هو سبب عدم دقة المغني في نقل مذهب الحنفية على وجه الخصوص، فتجد دومًا للحنفية تفصيلات دقيقة في مسائلهم لا تجدها واضحة حين يناقشهم ابن قدامة في المغني، بل تجده كثيرًا ما يسوق قول ابي حنيفة بنفس صياغة ابن المنذر وابن عبد البر له.
 
والحقيقة أن ابن عبد البر لم يكن موردًا أساسيًا لابن قدامة فقط، بل إن ابن رشد صاحب بداية المجتهد، إنما كتابه مجرد "تنظيم عقلي" لمادة الاستذكار لابن عبد البر، ولولا ابن عبد البر لما راح ابن رشد ولا جاء، وقد صرح بذلك ابن رشد في نفس الكتاب، فحين أنهى كتاب الطهارة ختمه بهذه الجملة (وأكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو كتاب الاستذكار، وأنا قد أبحت لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه).
 
وفي بقية الكتاب لا يصرح ابن رشد باسم ابن عبد البر إلا حين يورد تصحيحه أو تضعيفه للمرويات، فانظر لحسن أثر "أهل الحديث" على الناس، ولذلك فقد صدق ابن تيمية حين فسر خفة انحرافات الفلاسفة مثل ابن ملكا وابن رشد (مقارنة بابن سينا والفارابي) بكونهم نشؤوا بين أهل الحديث وانتفعوا بهم.
 
وأتعجب ممن يكيل الإطراء لكتاب "بداية المجتهد"، وينسى أن مادة الكتاب كله هو من جهد ابن عبد البر، بل حتى ابن حزم الموسوعي تراه في كتبه يقول كتبت لابن عبد البر وأخبرني ابن عبد البر، بل في رسالة لابن حزم تحدث فيها عن علوم أهل الأندلس تحدث بفخامة لا توصف عن عظمة كتاب التمهيد لابن عبد البر، وأنه لا يوجد مثله في الكلام على فقه الحديث، وهكذا كان يبجله ابن تيمية أيضًا.
 

ابن تيمية

ومن أطرف الأخبار في هذا الباب، ويستحق أن يفرد في باب من العلم خاص وهو (باب ما نقل فيه أهل المذهب مذهبهم عن غيرهم) حيث وجدت موضعًا طريفًا في رد المحتار لابن عابدين قرر فيه المذهب الحنفي لا بناءً على نص للحنفية، بل بناء على نص لابن تيمية في حكاية المذهب الحنفي، حيث يقول ابن عابدين عن مسألة الساب:
(فقد أفاد –أي ابن تيمية- أنه يجوز عندنا قتله إذا تكرر منه ذلك وأظهره، وقوله "وإن أسلم بعد أخذه" لم أر من صرح به عندنا، لكنه نقله عن مذهبنا وهو ثبت فيقبل).
 
وهذا موقف طريف جدًا، فابن عابدين معروف في التشدد والتدقيق في حكاية المذهب، وأعظم من ذلك شدة الاطلاع على كتب الحنفية واستيعابها، ولا أظن في متأخري الحنفية من يضارع ابن عابدين في استيعاب كتب الحنفية والتدقيق فيها، لكن لعظم ثقته في نقل أبي العباس، فقد جعله من المذهب حتى وإن لم يجده عن أئمتهم!

أعتقد أن الإخوان مرت بهم ملاحظات طريفة حول التلاقح المذهبي، وتأثر المذاهب ببعضها، وظاهرة الفقهاء العابرين للحدود، وسيكون ضم هذه الفوائد لبعضها، وتصحيحها وتنقيح التعميمات الخاطئة فيها، ينتج مادة جميلة بإذن الله.

 

والله أعلم.

 


 

المصدر:

http://saaid.net/Doat/alsakran/23.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#فقه #المذاهب-الفقهية
اقرأ أيضا
دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة


الاتصاف بالكمال المطلق إنما يدل في هذا الباب على استحقاق صاحبه للعبادة أما دلالته على توحيد العبادة واستحقاق الله عز وجل أن يفرد بها فمن حيث إن من لم يبلغ هذا الكمال ولم يتصف به لزمه الاتصاف بضده مما ينافي التعبد فطرة وعقلا وعلى هذا فكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الجلال والكمال الثابتة للرب -تبارك وتعالى- فإنها أدلة على استحقاقه لأن يفرد بالعبادة إذ لم يشاركه أحد في شيء من ذلك الكمال الإلهي

بقلم: سعود بن عبد العزيز العريفي
2172
صفات الخوارج في السنة النبوية | مرابط
مقالات

صفات الخوارج في السنة النبوية


الخوارج من الكلمات التي كثر تردادها في الآونة الأخيرة وإطلاقها على بعض الجماعات والتنظيمات بحق وباطل فكان لا بد من وقفة نتبين بها صفات الخوارج كما وردت في السنة النبوية حتى ننزل كل قوم منزلتهم اللائقة بهم حسب قربهم من هذه الأوصاف وبعدهم عنها ولم يأت في السنة النبوية تحذير من فرقة بعينها من فرق هذه الأمة إلا الخوارج فقد ورد فيها أكثر من عشرين حديثا بسند صحيح أو حسن وما ذلك إلا لضررهم الجسيم على الأمة والتباس أمرهم على الناس واغترارهم بهم إذ ظاهرهم الصلاح والتقوى ولأن مذهبهم ليس قاصرا على الآ...

بقلم: الشيخ عمار الصياصنة
1215
نابليون والمهمة الحضارية: سأستعمر مصر الجزء الثاني | مرابط
تاريخ مقالات

نابليون والمهمة الحضارية: سأستعمر مصر الجزء الثاني


الحملة الفرنسية التي حملت الكثير من التناقضات وكشفت الوجه الحقيقي والقبيح لفرنسا كحركة استعمارية تقوم على السلب والنهب والعداء الصريح للإسلام رغم ذلك أحاطها المؤرخون وغلفها الكتاب بكتلة من مساحيق التجميل حتى تبدو خلاف ما هي عليه وكما يقول المؤلف: رغم كل البيانات والمنشورات والتحليلات التي صاحبت وأعقبت الحملة الفرنسية إلى يومنا هذا فإن نابليون كان صريحا وواضحا في تحديد مهمته في مصر عندما قال: سأستعمر مصر

بقلم: محمد جلال كشك
2216
استحضار أرواح الموتى | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

استحضار أرواح الموتى


بلغ من افتتان الغرب بالمنهج التجريبي في المعرفة أنهم طمحوا إلى إخضاع عالم الغيب للتجريب وكان من أبرز ما ظهر في هذا الميدان إدخال عالم الروح في ميدان التجريب وابتدعوا لذلك علما سموه الروحية أو spiritualism وفي هذا المقال توضيح لهذه الدعوة وبيان مآلاتها والرد عليها

بقلم: محمد محمد حسين
2562
المجتمع المختلط | مرابط
مقالات المرأة

المجتمع المختلط


كثر كلام الناس في هذه الأيام في الصحف وفي دور العلم وأقسام الفلسفة ومعاهد تخريج المدرسين والإخصائيين الاجتماعيين منها خاصة - عن الكبت الجنسي ومضاره وشاع بين كثير ممن ينتحلون الدراسات النفسية والفرويدية منها خاصة أن السبيل إلى تلافي الأضرار المتولدة عن هذا الكبت هي اختلاط الذكور بالإناث وتخفف النساء من الحجاب ومن الثياب وهو تخفف لا يعرف الداعون إليه مدى ينتهي عنده ولعله ينتهي إلى ما انتهى إليه الأمر في مدن العراة التي نكست فيها المدنية فارتدت إلى الهمجية الأولى!

بقلم: محمد محمد حسين
278
الحياء في الإنسان | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحياء في الإنسان


وأما الحياء من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استحيوا من الله عز وجل حق الحياء فقيل: يا رسول الله فكيف نستحي من الله عز وجل حق الحياء قال: من حفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى وترك زينة الدنيا وذكر الموت والبلى فقد استحى من الله عز وجل حق الحياء

بقلم: الماوردي
681