الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج3

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج3 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

2073 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

الأصل السادس: أن الكمال الإلهي يستحيل على المخلوق الإحاطة به:

 

ومعنى هذا الأصل: أن المؤمنين مع إيمانهم بثبوت الكمال المطلق لله، فإنهم في الوقت نفسه يؤمنون بأنه يتعذر عليهم الإحاطة بما ثبت لخالقهم من كمال وجلال. وإيمانهم بهذه الحقيقة ليس قضية عاطفية أو تسليمية مجردة، وإنما هو قائم على أصول وجودية وعقلية يقينية، توجب عليهم الإقرار بالعجز عن العلم بكمال الله وقدرته، ومن تلك الأصول:
 
 
الأول: أن الناس لم يدركوا ذات الله تعالى، ولم يعرفوا حقيقتها، فكيف يمكنهم أن يعرفوا ما يتعلق بها من الكمال والجلال؟ فمن المعلوم في العقل أن العلم بالصفات تابع للعلم بالذات، فإذا كنا لا نعلم حقيقة ذات الله فإننا بالضرورة لا نستطيع أن نعلم حقيقة صفات الله وكنهها (1)

 

الثاني: أن الناس لم يستطيعوا إدراك تفاصيل الكون، وعجزوا عن الإحاطة بمكوناته المتسعة، وقد تواترت مقالات العلماء التجريبيين وغيرهم في الإقرار بأن الكون ما زال مليئًا بالأسرار والألغاز، وأن الإنسان مع تطوره الكبير لم يدرك إلا قدرًا ضئيلًا جدًا منه (2)

 

فإذا عجز الناس عن الإحاطة بالكون الذي هو فعل من أفعال الله، فكيف يمكنهم أن يحيطوا علما بالخالق وبكماله وجلاله؟ فعجزهم عن البلوغ إلى ذلك أشد وأبعد وأظهر في بدائه العقول.

 

الثالث: أن الشخص لا يستطيع أن يحيط بكل العلوم الإنسانية، ولا يقدر على إدراكها، وإنما يعتمد في كثير من تفاصيل حياته على التسليم لأقوال الخبراء والعلماء، ويأخذ بذلك وهو مطمئن النفس ساكن القلب، ويعد العقلاء سلوكه هذا متوافقًا مع العقل، ومتسقًا مع الفطرة والواقع الإنساني.

 

ولو ان شخصًا قصد إلى الخروج عن هذا النهج، وقرر أن لا يأخذ بشيء في حياته إلا إذ علم بنفسه تفاصيل كل ما يتعلق به، لكان خارجا عن نهج العقلاء، داخلًا في مسالك الجنون والسفسطة.

 

فإذا كان هذا هو حال المخلوق مع علم المخلوقين أمثاله، فكيف يمكن أن يكون حاله مع علم الله وكماله وحكمته؟ فإنه لا محالة سيكون أكثر عجزًا عن إدراك تفاصيله، وأبعد عن الإحاطة بحكمته، وسيكون تطلبه لذلك أكثر جنونًا وأعمق في أودية السفسطة السحيقة (3)

 

إن مثل من يعترض على علم الله وحكمته في الون ويتطلق العلم بها كمثل رجل قرر أن لا يسلم بأخذ شيء في حياته إلا بعد أن يعلم بكل تفاصيله المتعلقة به، فمرض، فلما ذهب به أبناؤه إلى الطبيب، قال له: لن آخذ بأي وصفة طبية تذكرها لي حتى أعلم بكل التفاصيل التي انطلقت منها في وصفك لها، فذكر له الطبيب أن طلبه هذا غير مقبول في العقل ومناف لطبيعة العلم الإنساني الخاضع للتخصصات، فرفض الانصياع لقوله وخرج من عنده، فلما قرب أبناؤه له السيارة، رفض أن يركبها حتى يعلم بكل التفاصيل التي شكلت على وفقها، فذكر له أبناؤه أن هذا غير معقول؛ لكون ذلك يتطلب وقتًا وجهدًا لا يمكن توفره في ساعتهم.

 

فرفض قبول تبريرهم وذهب إلى بيته ماشيًا، فلما أراد الدخول توقف، وقال: لا يمكن أن أدخل البيت حتى أعلم بكل التفاصيل التي بني على وفقها، فذكر له أبناؤه أن ذلك متعذر في حالتهم التي هم عليها، فرفض قبول قولهم وجلس تحت الشجرة،  فلما قدم له أبناؤه الطعام والشراب، رفض أن يأكل شيئًا حتى يعلم بكل التفاصيل المتعلقة بذلك الطعام والشراب، فذكر له أبناؤه أن تحصيل ذلك متعذر في حالتهم، فرفض قبول تبريرهم وبقي جائعًا.

 

لا جرم أن هذا الرجل خارج عن مسالك العقلاء، وغارق في متاهات الجنون والغباء، ولن تكون نهاية حياته إلا إلى الفساد والفناء.

 

ومقتضى هذا التقرير أنه لا يصح في العقل ولا في المنطق أن يعترض الإنسان على أفعال الله وتدبيره للكون، ولا يحق له أن يجعل نفسه مضادًا لله تعالى، وإنما غاية ما يمكن فعله أن يتساءل عن أفعال الله، فإن عجز عن فهمها وإدراك حكمتها فإنه يجب عليه التسليم والإذعان لخالقه سبحانه.

 

وقد تفنن علماء الإسلام في مناقشة هذه القضية وتجليتها للعقل، ومن أولئك: ابن القيم، حيث يقول:

 

"لعلك أن تقول: ما حكمة هذا النبات المبثوث في الصحاري والقفار والجبال التي لا أنيس بها أو ساكن، وتظن أنه فضلة لا حاجة إليها ولا فائدة في خلقه. وهذا مقدار عقلك ونهاية علمك، فكم لباريه وخالقه فيه من حكمة وآية، من طعم وحش وطير ودواب، مساكنها حيث لا تراها، تحت الأرض وفوقها، فذلك بمنزلة مائدة نصبها الله لهذه الطيور والدواب، تتناول منها كفايتها ويبقى الباقي، كما يبقى الرزق الواسع الفاضل عن الضيف لسعة رب الطعام وغناه التام وكثرة إنعامه" (4)

 

فهذه الأصول الستة هي من أهم الأصول الكلية الإيمانية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله والتصديق بكماله المطلق، ويستند إليها خضوع المؤمن لربه وخالقه، وبظهورها ينجلي بأن الإيمان بالله تعالى ليس تصديقًا قلبيًا مجردًا، ولا هو مجرد عاطفة نفسية، وإنما هو رؤية حياتية واضحة متكاملة، قائمة على أصول وجودية وعقلية وفطرية قطعية بينة.

 

ولا يحق لأي أحد يعترض على إيمان المؤمنين بربهم أن يغفل عن تلك الأصول، أو يتعامى عنها، ويجب على كل مؤمن يقصد إلى محاورة الناقدين للأديان استحضارها وإظهارها، وبيان مستنداتها في كل مراحل الحوار ومشاهده، فظهورها كفيل بحل المشكلات الكثيرة التي يوردها الناقدون، وفك الشبهات العديدة التي يتمسكون بها

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية 128/6
  2. انظر: الفصل الثاني، من الباب الثاني، عند الحديث عن نقد النزعة العلموية (من كتاب ظاهرة نقد الدين لسلطان العميري)
  3. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية 128/6 وحقيقة التأويل، المعلمي، ضمن آثاره الكاملة 26/6
  4. مفتاح دار السعادة 323/1

 

المصدر:

  1. د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ص15
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان #إثبات-وجود-الله
اقرأ أيضا
السينما بين الواقع والأحلام | مرابط
فكر مقالات

السينما بين الواقع والأحلام


يقولون أن السينما غير مفروضة على أحد ومن شاء فليذهب ومن شاء امتنع وحقيقة وقفت متعجبا كثيرا عند هذا الكلام كيف سرت إلى نفوس بعض الشباب مثل هذا الفيروس الذي أرسلته التيارات المنحرفة فعبث بمدركات التفكير لدى بعض الشباب الذين هم من أبعد الناس عن التلوث بأي اتجاه فكري منحرف من البدهيات في التصور الإسلامي أن المحرمات ليس فيها من شاء ومن شاء فالمحرم لا بد من منعه وإنكاره نعم بإمكان الشخص أن يقول إنه غير محرم ويبين حجته أما أن تكون حجته لتسويغ الفعل أن من شاء ومن شاء فهذا تفكير غير مستقيم مع القيم...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2621
طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج3 | مرابط
تفريغات

طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج3


من أساليب أهل البدع في إثبات بدعهم وما أحدثوه في الدين هو تحريف آيات الكتاب وأحاديث السنة إما بلي أعناقها لإثبات مقصودهم وأهوائهم أو بتفسيرها بما يسمى عندهم بالتفسير الباطني أو تحريف الأحاديث بذكر زيادات لم تصح وغير ذلك وقد تصدى أهل العلم لهذه التحريفات بفضل الله فقاموا بتفنيد هذه الشبه وفضح أهل البدع بكل ما أوتوه من قوة وبيان

بقلم: أبو إسحاق الحويني
964
سلطة الغموض | مرابط
فكر مقالات

سلطة الغموض


هذا مقتطف من كتاب مآلات الخطاب المدني بعنوان: سلطة الغموض والكتاب من تأليف إبراهيم السكران ويتحدث عن أن كثيرا من الشباب المنبهر بأطروحات غلاة المدنية إذا دخلت معه في حوار حول أعماق قناعاته اكتشفت أنه مأخوذ بلغة الخطاب وغموضه المبهر أكثر من حقائقه وبرهنته وسلطة الغموض على شريحة من القراء هي في الحقيقة ظاهرة معرفية قديمة لا يمكن إنكارها

بقلم: إبراهيم السكران
994
السعادة الحقيقية | مرابط
تفريغات

السعادة الحقيقية


أغلب الناس وكل واحد منهم سوف يقول: أريد أن أعيش سعيدا مرتاحا مطمئنا أبحث عن شيء يسمى السعادة والراحة كل الناس يلهث ويتعب وراءها وينصب من أجلها من أجل أن يعيش سعيدا في هذه الحياة الدنيا. انظر إلى من يجمع الأموال: الملايين .. العمارات .. العقارات .. والأرصدة لا يعدها ولا يستطيع حسابها هل حصل على السعادة؟!

بقلم: نبيل العوضي
565
غيرة الأب | مرابط
اقتباسات وقطوف

غيرة الأب


الرجال أغير على البنات من النساء فلا تستوي غيرة الرجل على ابنته وغيرة الأم أبدا وكم من أم تساعد ابنتها على ما تهواه ويحملها على ذلك ضعف عقلها وسرعة انخداعها

بقلم: ابن القيم
283
إضاءات حول الأعراس وما يجري فيها | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

إضاءات حول الأعراس وما يجري فيها


واجب الشكر على كل رجل وامرأة وفقهما الله في مثل هذه الظروف إلى الزواج ولم الشمل يقتضي التذلل التام والانخلاع عن الحول والقوة وإظهار الفرح المشروع برحمة الله وعدم ارتكاب أي مخالفة مقصودة تعرض هذه الحياة الجديدة والزيجة لخطر مقت الله تعالى.

بقلم: محمد حشمت
505