الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج3

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج3 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

1995 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الأصل السادس: أن الكمال الإلهي يستحيل على المخلوق الإحاطة به:

 

ومعنى هذا الأصل: أن المؤمنين مع إيمانهم بثبوت الكمال المطلق لله، فإنهم في الوقت نفسه يؤمنون بأنه يتعذر عليهم الإحاطة بما ثبت لخالقهم من كمال وجلال. وإيمانهم بهذه الحقيقة ليس قضية عاطفية أو تسليمية مجردة، وإنما هو قائم على أصول وجودية وعقلية يقينية، توجب عليهم الإقرار بالعجز عن العلم بكمال الله وقدرته، ومن تلك الأصول:
 
 
الأول: أن الناس لم يدركوا ذات الله تعالى، ولم يعرفوا حقيقتها، فكيف يمكنهم أن يعرفوا ما يتعلق بها من الكمال والجلال؟ فمن المعلوم في العقل أن العلم بالصفات تابع للعلم بالذات، فإذا كنا لا نعلم حقيقة ذات الله فإننا بالضرورة لا نستطيع أن نعلم حقيقة صفات الله وكنهها (1)

 

الثاني: أن الناس لم يستطيعوا إدراك تفاصيل الكون، وعجزوا عن الإحاطة بمكوناته المتسعة، وقد تواترت مقالات العلماء التجريبيين وغيرهم في الإقرار بأن الكون ما زال مليئًا بالأسرار والألغاز، وأن الإنسان مع تطوره الكبير لم يدرك إلا قدرًا ضئيلًا جدًا منه (2)

 

فإذا عجز الناس عن الإحاطة بالكون الذي هو فعل من أفعال الله، فكيف يمكنهم أن يحيطوا علما بالخالق وبكماله وجلاله؟ فعجزهم عن البلوغ إلى ذلك أشد وأبعد وأظهر في بدائه العقول.

 

الثالث: أن الشخص لا يستطيع أن يحيط بكل العلوم الإنسانية، ولا يقدر على إدراكها، وإنما يعتمد في كثير من تفاصيل حياته على التسليم لأقوال الخبراء والعلماء، ويأخذ بذلك وهو مطمئن النفس ساكن القلب، ويعد العقلاء سلوكه هذا متوافقًا مع العقل، ومتسقًا مع الفطرة والواقع الإنساني.

 

ولو ان شخصًا قصد إلى الخروج عن هذا النهج، وقرر أن لا يأخذ بشيء في حياته إلا إذ علم بنفسه تفاصيل كل ما يتعلق به، لكان خارجا عن نهج العقلاء، داخلًا في مسالك الجنون والسفسطة.

 

فإذا كان هذا هو حال المخلوق مع علم المخلوقين أمثاله، فكيف يمكن أن يكون حاله مع علم الله وكماله وحكمته؟ فإنه لا محالة سيكون أكثر عجزًا عن إدراك تفاصيله، وأبعد عن الإحاطة بحكمته، وسيكون تطلبه لذلك أكثر جنونًا وأعمق في أودية السفسطة السحيقة (3)

 

إن مثل من يعترض على علم الله وحكمته في الون ويتطلق العلم بها كمثل رجل قرر أن لا يسلم بأخذ شيء في حياته إلا بعد أن يعلم بكل تفاصيله المتعلقة به، فمرض، فلما ذهب به أبناؤه إلى الطبيب، قال له: لن آخذ بأي وصفة طبية تذكرها لي حتى أعلم بكل التفاصيل التي انطلقت منها في وصفك لها، فذكر له الطبيب أن طلبه هذا غير مقبول في العقل ومناف لطبيعة العلم الإنساني الخاضع للتخصصات، فرفض الانصياع لقوله وخرج من عنده، فلما قرب أبناؤه له السيارة، رفض أن يركبها حتى يعلم بكل التفاصيل التي شكلت على وفقها، فذكر له أبناؤه أن هذا غير معقول؛ لكون ذلك يتطلب وقتًا وجهدًا لا يمكن توفره في ساعتهم.

 

فرفض قبول تبريرهم وذهب إلى بيته ماشيًا، فلما أراد الدخول توقف، وقال: لا يمكن أن أدخل البيت حتى أعلم بكل التفاصيل التي بني على وفقها، فذكر له أبناؤه أن ذلك متعذر في حالتهم التي هم عليها، فرفض قبول قولهم وجلس تحت الشجرة،  فلما قدم له أبناؤه الطعام والشراب، رفض أن يأكل شيئًا حتى يعلم بكل التفاصيل المتعلقة بذلك الطعام والشراب، فذكر له أبناؤه أن تحصيل ذلك متعذر في حالتهم، فرفض قبول تبريرهم وبقي جائعًا.

 

لا جرم أن هذا الرجل خارج عن مسالك العقلاء، وغارق في متاهات الجنون والغباء، ولن تكون نهاية حياته إلا إلى الفساد والفناء.

 

ومقتضى هذا التقرير أنه لا يصح في العقل ولا في المنطق أن يعترض الإنسان على أفعال الله وتدبيره للكون، ولا يحق له أن يجعل نفسه مضادًا لله تعالى، وإنما غاية ما يمكن فعله أن يتساءل عن أفعال الله، فإن عجز عن فهمها وإدراك حكمتها فإنه يجب عليه التسليم والإذعان لخالقه سبحانه.

 

وقد تفنن علماء الإسلام في مناقشة هذه القضية وتجليتها للعقل، ومن أولئك: ابن القيم، حيث يقول:

 

"لعلك أن تقول: ما حكمة هذا النبات المبثوث في الصحاري والقفار والجبال التي لا أنيس بها أو ساكن، وتظن أنه فضلة لا حاجة إليها ولا فائدة في خلقه. وهذا مقدار عقلك ونهاية علمك، فكم لباريه وخالقه فيه من حكمة وآية، من طعم وحش وطير ودواب، مساكنها حيث لا تراها، تحت الأرض وفوقها، فذلك بمنزلة مائدة نصبها الله لهذه الطيور والدواب، تتناول منها كفايتها ويبقى الباقي، كما يبقى الرزق الواسع الفاضل عن الضيف لسعة رب الطعام وغناه التام وكثرة إنعامه" (4)

 

فهذه الأصول الستة هي من أهم الأصول الكلية الإيمانية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله والتصديق بكماله المطلق، ويستند إليها خضوع المؤمن لربه وخالقه، وبظهورها ينجلي بأن الإيمان بالله تعالى ليس تصديقًا قلبيًا مجردًا، ولا هو مجرد عاطفة نفسية، وإنما هو رؤية حياتية واضحة متكاملة، قائمة على أصول وجودية وعقلية وفطرية قطعية بينة.

 

ولا يحق لأي أحد يعترض على إيمان المؤمنين بربهم أن يغفل عن تلك الأصول، أو يتعامى عنها، ويجب على كل مؤمن يقصد إلى محاورة الناقدين للأديان استحضارها وإظهارها، وبيان مستنداتها في كل مراحل الحوار ومشاهده، فظهورها كفيل بحل المشكلات الكثيرة التي يوردها الناقدون، وفك الشبهات العديدة التي يتمسكون بها

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية 128/6
  2. انظر: الفصل الثاني، من الباب الثاني، عند الحديث عن نقد النزعة العلموية (من كتاب ظاهرة نقد الدين لسلطان العميري)
  3. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية 128/6 وحقيقة التأويل، المعلمي، ضمن آثاره الكاملة 26/6
  4. مفتاح دار السعادة 323/1

 

المصدر:

  1. د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ص15
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان #إثبات-وجود-الله
اقرأ أيضا
مختصر قصة التتار الجزء الخامس | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة التتار الجزء الخامس


سلسلة مقالات مختصرة تضع أمامنا قصة التتار وكيف بدأت هجماتهم على بلاد المسلمين وكيف تغيرت الأوضاع في بلادنا الإسلامية إثر هذه الهجمات فانهار المدن وانفتحت البوابات وظهرت شخصيات قيادية وقفت في وجه هذا الإعصار التتري الرهيب سنقف على الكثير من الفوائد والعبر والمواقف الفارقة وسنعرف تاريخ أمتنا وما مرت به من محن فالمستقبل لا يصنعه من يجهل الماضي

بقلم: موقع قصة الإسلام
1312
الأمن نعمة من نعم الله | مرابط
تفريغات

الأمن نعمة من نعم الله


إن الأمن نعمة وأي نعمة فقد امتن الله بها على قريش إذ كانت تعيش في الجزيرة العربية حيث السلب والنهب واعتداء القبيلة على القبيلة الأخرى وفي وسط الجزيرة العربية كانت مكة واحة أمن ولذلك قال سبحانه: لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف قريش:1-4

بقلم: عمر الأشقر
619
عن يوم عرفة | مرابط
تعزيز اليقين

عن يوم عرفة


في هذا اليوم أطل الدعاء والمناجاة اليوم اشك همك وبثك إلى الله أزح الهموم عن كاهليك وفوض أمرك إليه وكن على يقين من الإجابة إما أن يعطيك ما سألت أو يعطيك ما هو خير لك منه والله يعلم وأنتم لا تعلمون وتوسل إلى بابه بكلمة التوحيد كلمة لا يكذبها العمل فعلق قلبك به وحده ولا تطلب غير وجهه ولا تقصد سوى بابه ولا تعدل برضاه شيئا ..

بقلم: كريم حلمي
371
كلمة جامعة عن أهمية المحافظة على صلاة الفجر | مرابط
تفريغات

كلمة جامعة عن أهمية المحافظة على صلاة الفجر


في صلاة الفجر تقابلون صفوة المجتمع صلاة الفجر مقياس لمستوى الأمة وقيمتها فالأمة التي تفرط في الفجر في جماعة أمة لا تستحق القيام بل تستحق الاستبدال وعلى الجانب الآخر الأمة التي تحرص على صلاة الفجر في جماعة أمة اقترب ميعاد تمكينها في الأرض

بقلم: د راغب السرجاني
756
علمانية الحكم الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات العالمانية

علمانية الحكم الجزء الأول


امتدت العلمانية إلى كل مجالات الحياة تقريبا بداية من الحكم مرورا بالاقتصاد وصولا إلى الأخلاق والشعور بل وحتى عالم الفن والأدب والكتابة اجتاحته العلمانية كذلك وفي هذا المقال يفصل لنا الكاتب سفر الحوالي علمانية الحكم وبداياتها في القرون الوسطى في ظل تمتع الكنيسة بسلطاتها الكبيرة رغم ذلك كان الحكم علمانيا حتى لو كان ظاهريا تحت مظلة الكنيسة

بقلم: د سفر عبد الرحمن الحوالي
2098
ماذا تركت لأجلي؟ | مرابط
مقالات

ماذا تركت لأجلي؟


ويقول الشاب التائب: لأجلك ربي تركت رفقاء الطيش وطريق الهوى وآثرت طريق العفاف والهدى وصبرت على مقاومة كل وسائل الجذب والإغراء حتى صرت بين الشباب غريبا في مظهري ومخبري. وتقول أمة الله: لأجلك ربي تركت التبرج والزينة التي أحب وخالفت بيئتي المتحررة التي فيها نشأت ونالني فيك السخرية والأذى.

بقلم: د. جمال الباشا
346