الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج2

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج2 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

2337 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الأصل الرابع: أن الإيمان بالله ضرورة أخلاقية اجتماعية:

 
 
ومعنى هذا الأصل: أن الناس لا يمكن أن يقيموا لأنفسهم نظاما أخلاقيا صالحًا لضبط السلوك الإنساني وتسيير حياتهم في الأرض إلا مع الإيمان بوجود الله.
 
فلا أحد من العقلاء يعارض في أن الأخلاق مكوّن ضروري من مكونات الحياة الإنسانية، وأنه لا يمكن أن تقوم الحياة ولا تستقيم مسيرتها إلا بالأخلاق الصالحة، فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يملك نظاما كاملًا واضحًا عن الأخلاق، بل إن أقوى ما يتميز به الإنسان عن البهيمية مبدأ طلب الصلاح والبحث عن الكمال والاستقامة، وذلك كله إنما يكون بالأفعال الأخلاقية.
 
والمنظومة الأخلاقية هي القوة الروحية الكبرى التي استطاعت أن تعلو بالإنسان عن مرتبة البهيمية إلى مستوى أعلى وأرقى في التعامل والتصرف في الحياة، فكل التصرفات الإنسانية الحياتية مبنية على الأخلاق، فالبيع والشراء، والصدقة والزواج، والصداقة والاشتراك في العمل، وتداول الأخبار وتناقلها، والأخذ والإعطاء، وغيرها، مرتبطة بطبيعة الأخلاق التي تهيمن على حياة الإنسانية، فلا حياة للإنسان بلا أخلاق، ومتى ما اختفت الأخلاق من حياة الإنسان أو اضطرب نظامها، فإن ذلك مؤذن بفساد الحياة الإنسانية كلها.
 
وإذا ثبت أن النظام الأخلاقي أمر ضروري في حياة الإنسان، ومكوّن جوهري من مكوناته، فإن هذا النظام لا يمكن أن يكون إلا مع الإيمان بوجود الله، وقد خصصنا لبيان ذلك مبحثًا خاصًا في هذا بالبحث سيأتي إن شاء الله.
 
وحاصل ما فيه أن المبادئ الأخلاقية لا بد أن تكون متصفة بالإطلاق والثبات، بحيث تكون معتبرة في كل زمان ومكان، ولا يصح دخول النسبية فيها؛ ﻷن دخول النسبية فيها يؤدي إلى ضياع الصواب والخطأ، وينتهي إلى المساواة بين الصالح والفاسد، ويغلق الأبواب أمام كل دعوات الإصلاح وحركات التطوير الأخلاقي للشعوب، ويفتح الأبواب مشرعة أمام المفسدين ليفعلوا ما شاؤوا، بحجة أن لكل فرد أو مجتمع أخلاقًا تخصه، بل إنها تؤدي إلى مستويات متردية من الأخلاق، فمع النسبية لا يجد المرء مسوغًا لمنع أقبح فعل يمكن أن يقع في الوجود.
 
وإذا ثبت أن الأخلاق لا بد أن تقوم على مبادئ مطلقة وقوانين ثابتة، وأن قيامها على النسبية يؤدي بها إلى الفساد، فإن الوصول إلى المبادئ المطلقة لا يمكن أن يكون إلا مع الإيمان بالله تعالى؛ ولا يمكن للعقل الإنساني المنكر لوجود الله أن يصل إليها البتة؛ ﻷن البلوغ إلى الإطلاق والثبات الشامل لكل زمان ومكان يشترط فيه شرطان: الأول تمام العلم بكل شيء، والثاني تمام التجرد من كل الأهواء والأغراض والتحزبات، والعقل الإنساني لا يمكنه أن يتصف بذلك؛ لكون الإنسان قاصرًا في علمه وتجرده، فلا بد أن يعتمد على غيره في البلوغ إلى مرحلة الإطلاق.
 
فإذا أنكر الملحد وجود الله، فقد أغلق كل الطرق الموصلة إليه، فلا يمكنه في الحالة هذه أن يؤمن بالمبادئ المطلقة، وأما المؤمن بوجود الله وخلقه للكون، فإن الأمر في حاله بين، فهو يؤمن بأن الله مطلق في علمه وكامل في عدله، وبالتالي فإنه سبحانه هو أساس الإطلاق في الكون ومصدر العدل فيه.

 

الأصل الخامس: أن الله تعالى متصف بالكمال المطلق:

 

ومعنى هذا الأصل: أن المؤمن كما أنه يؤمن بأن الله موجود، وأنه الخالق للكون، فإنه يؤمن مع ذلك بأن الله متصف بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، المؤمن يعلم أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له أقصى ما يمكن من الكمال (1)
 
فحياة الله كاملة من كل وجه، وكمالها يستلزم نفي الموت عنه والنوم والسّنة، وعلم الله كامل من كل وجه، وكماله يستلزم نفي الجهل عنه والنسيان والغفلة، وقدرة الله كاملة من كل وجه، وكمالها يستلزم نفي العجز والضعف عنه وهكذا الحال في كل صفات الكمال الإلهي.
 
ومن مجموع هذه الكمالات يتحقق الكمال المطلق لله تعالى، فالكمال المطلق عبارة عن اجتماع صفات الكمال كلها في ذات واحدة، وانتفاء صفات النقص عنها، فهو إذن نتيجة اجتماع أنواع الكمالات وانتفاء جنس النقص.
 
وهناك تلازم ضروري بين الإيمان بوجود الله وبين الإيمان بثبوت الكمال المطلق له، فكل من آمن بوجود الله فإنه يلزمه أن يؤمن بالكمال المطلق له، وشعور المؤمن بثبوت الكمال المطلق لله لا يختلق عن شعوره بوجود الله وربوبيته للكون، فهما متلازمان في عقله وفطرته، يقول ابن تيمية:

 

"هذا المعنى -ثبوت كمال الله- مستقر في فطر الناس، بل هم مفطورون عليه، فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق، فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء" (2)

 

وكل من آمن بالله وبربوبيته للكون ثم لم يؤمن بثبوت الكمال له، فإنه سيكون متناقضا لا محالة؛ لكونه فصل بين متلازمات ضرورية.

 

وأما الأصول التي تدل على ثبوت الكمال المطلق لله، فهي متعددة الجوانب والاتجاهات، تتضافر فيما بينها في الدلالة والبيان:
 
ومنها: أن كمال الله تعالى من ذاته لا من أحد سواه، فإنه سبحانه مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه، فما له من الكمال لا يمكن إذن أن يكون من غيره، وإنما هو من ذاته فقط، وما كان من ذاته فهو ملازم له، فذاته قديمة الوجود، فكماله لا بد أن يكون قديم الوجود لا ينفك عن ذاته (3)
 
ومنها: أن الله تعالى خالق الوجود كله بضخامته وتنوعه واتساعه، والخلق يستلزم كمال الحياة؛ إذ يستحيل وجود الخلق العظيم بدون الحياة، ويستلزم أيضًا كمال العلم؛ إذ يستحيل وجود هذا الخلق العظيم المتقن الجاري على سنن مستقيمة مع الجهل أو نقص العلم.
 
ويستلزم أيضًا كمال الإرادة؛ إذ يستحيل وجود هذا الكون العظيم في وقت محدد وصيغة محددة ونظام محدد مع عدم الإرادة والقصد، ويستلزم أيضًا كمال القدرة؛ إذ يستحيل انتقال الكون العظيم من العدم إلى الوجود بغير قدرة وقوة توجب ذلك، ويستلزم كمال الحكمة؛ إذ يستحيل أن يكون ما نشهده في الكون من خير وجمال ودقة وانتظام ووضع لكل شيء في موضعه من غير أن يكون ذلك ناتجا عن حكمة بالغة.
 
واجتماع هذه الصفات في ذات يستلزم ثبوت سائر الكمالات؛ ﻷنها أصول الكمال وأساسه، وفي بيان هذا المعنى يقول ابن القيم:

 

"وخلقه تعالى لهم متضمن لكمال قدرته وإرادته وعلمه وحكمته وحياته، وذلك يستلزم لسائر صفات كماله ونعوت جلاله" (4)

 

وقد دل القرآن في نصوص كثيرة على ثبوت الكمال المطلق لله تعالى بطرق متعددة، ومن ذلك: إثبات المثل الأعلى لله تعالى "كما في قوله تعالى "ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم" والمراد بالمثل الأعلى: الصفات العليا، والكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه (5)
 
ومن ذلك إثبات الحمد لله تعالى في آيات كثيرة جدًا، ومن أعظم أسباب استحقاق الله الحمد ثبوت الكمال له، فالله تعالى يحمد على ما اتصف به سبحانه من الكمال والجلال والجمال، كما يحمد على ما أنعم به من النعم والخيرات (6)
 
ومع إيمان المؤمنين بثبوت الكمال المطلق لله تعالى، فإنهم يؤمنون أيضًا بأن الكمال الذي يجب لله تعالى هو الكمال الممكن الوجود، وأما الممتنع فليس من الكمال الاتصاف به؛ ﻷنه في الحقيقة ليس بشيء، ولا يمكن تحققه في الواقع، فعدم وجوده ليس نقصًا، فلا يكون انتفاؤه منافيا للكمال (7)
 
وكذلك يؤمنون بأن كمال أفعال الله متعلق بحكمته البالغة التي لا يعملها إلا هو، فانتفاء بعض الأفعال في وقت من الأوقات، أو في حال من الأحوال، لعدم تعلق الحكمة بها ليس نقصًا، بل هو اكلمال عينه، ﻹمعلوم في العقل أن مجرد فعل من الأفعال لا يكون محققًا للكمال، وإنما لا بد من توافقه مع طبيعة الحال والواقع وانسجامه مع الحكمة (8)، وفي توضيح هذه الحقيقة يقول ابن القيم:

 

"القدرة إن لم يكن معها حكمة بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظر في العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته، وبقصدها بفعله، كان فعله فسادا، كصاحب شهوات الغي والظلم، الذي يفعل ما يريده من شهوات الغي في بطنه وفرجه ومن ظلم الناس، فإن هذا وإن كان له قوة وعزة، لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونة على شره وفساده
 
وكذلك العلم كماله أن يقترن به الحكمة، وإلا فالعالم الذي لا يريد ما تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه سيفه غاو، وعلمه عون له على الشر والفساد، هذا إذا كان عالما قادرا مريدا له إرادة من غير حكمة، وإن قدر أنه لا إرادة له فهذا أولا ممتنع من الحي، فإن وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إرادة ممتنع، كوجود إرادة بدون شعور.
 
والمقصود أن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح، وإنما يحصل ذلك بالحكمة معهما، واسمه سبحانه "الحكيم" يتضمن حكمته في خلقه وأمره في إرادته الدينية الكونية، وهو حكيم في كل ما خلقه وأمر به" (9)

 

ومقتضى هذا التقرير أن المؤمن لا ينظر إلى الكمال الإلهي إلا بمنظار التضافر بين صفات الكمال كلها، بخلاف غيره من الناقدين للأديان، فإنهم لم يدركوا هذه الحقيقة، فأخذوا ينظرون إلى الكمال الإلهي بنظرة التفرقة والانفصال بين صفات الكمال، فوقعوا في مشكلات معرفية كبيرة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 71/6
  2. المرجع السابق 71/6
  3. انظر: المرجع السابق 77/6
  4. الفوائد
  5. انظر: معالم التنزيل، البغوي (73/3)، وزاد المسير، ابن الجوزي (459/4)، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير (575/2)
  6. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية (84/6)
  7. انظر: المرجع السابق (107/6)
  8. انظر: المرجع السابق (107/1)
  9. طريق الهجرتين (233/1)

 

المصدر:

  1. د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ص15
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان #إثبات-وجود-الله
اقرأ أيضا
مجاراة الموضة والعالم الافتراضي | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

مجاراة الموضة والعالم الافتراضي


والحقيقة أن المجتمع اليوم هو مجتمع افتراضي أو قل: يتجه نحو شكل المجتمع الافتراضي لا روابط بين أفراده إلا تلك الروابط التي أنشأتها الشبكة الاجتماعية الافتراضية الزرقاء فهي الآن تعد وسيلة الاتصال الأساسية بين البشر

بقلم: محمد علي فرح
513
أنت الجماعة ولو كنت وحدك | مرابط
مقالات

أنت الجماعة ولو كنت وحدك


وما عرف المختلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه إلا واحدا منهم فهم الشاذون وقد شذ الناس كلهم زمن احمد بن حنبل إلا نفرا يسيرا فكانوا هم الجماعة وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون.

بقلم: ابن القيم
514
سأستعمر مصر | مرابط
اقتباسات وقطوف

سأستعمر مصر


سأستعمر مصر كانت هذه هي العبارة التي نزلت كالصاعقة على الجميع عندما تحدث بها نابليون بونابرت وكأنها تكشف نواياه الحقيقية وأطماعه الداخلية في مصر ولكنه يحاول أن يزينها ويحيطها ببعض الحرص على التطوير والتنمية وهذا مقتطف رائع للشيخ محمد جلال كشك من كتاب ودخلت الخيل الأزهر

بقلم: محمد جلال كشك
2288
دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الأول


نعلم أن سهام منكري السنة تتوجه في الغالب إلى السنة النبوية ذاتها سواء في متنها أو سندها أو حتى حجيتها من الأساس فهم لا يؤمنون بأنها وحي من عند الله وفي المقابل يدعون الإيمان بالقرآن وما جاء فيه ومن هنا ندرك أهمية الوقوف على حجية السنة النبوية من نصوص القرآن الكريم وفي هذا المقال يقدم لنا الكاتب أحمد يوسف السيد أدلة قرآنية تثبت أن السنة النبوية هي وحي من عند الله

بقلم: أحمد يوسف السيد
2333
ضبط مسائل الخلاف | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضبط مسائل الخلاف


من أعظم الإشكاليات التي تتجلى في زماننا: الاحتجاج بالخلاف فترى المسلم يقف أمام المسألة المختلف فيها فيحكم هواه ويميل إلى الرأي الذي يؤيد شهوته أو يؤيد هوى في داخله ولا يستند في سبيل ذلك إلى أي دليل ولا يفكر في الرجوع إلى الله والرسول كما أمرنا تعالى وهذا مقتطف للإمام الشاطبي رحمه الله يتحدث فيه عن هذه الإشكالية في عصره ويؤصلها بشكل دقيق

بقلم: الشاطبي
2138
شبهة: بين إباحة الزواج من الكتابية ومنع الترحم عليها | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: بين إباحة الزواج من الكتابية ومنع الترحم عليها


يعني لا يظنن ظان أن إباحة الزواج من الكتابيات يعني أن دينهن مرضي عند الله تعالى. بل كل من كفر بالإيمان من توحيد الله تعالى والإيمان بجميع رسله ومنهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وجميع كتبه ومنها القرآن...كل من كفر بهذا الإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين...لاحظ: فقد حبط عمله فلا أجر له عليه في الآخرة وهو في الآخرة من الخاسرين وليس من المرحومين كما يقول المبطلون!!

بقلم: د. إياد قنيبي
332