الأعمال تشفع لصاحبها

الأعمال تشفع لصاحبها | مرابط

الكاتب: ابن القيم

416 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها - من الحياء والخوف، والاستعظام لها - ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة - من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها - ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها.

 

وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره. وأيضا فإنه يعفى للمحب، ولصاحب الإحسان العظيم، ما لا يعفى لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره.

 

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: انظر إلى موسى - صلوات الله وسلامه عليه - رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله، وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه ويدلله، لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر.

 

وانظر إلى يونس بن متى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى، غاضب ربه مرة، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى، وفرق بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع، كما قيل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

 

فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله، وتذكر به إذا وقع في الشدائد، قال تعالى عن ذي النون فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، وفرعون لما لم تكن له سابقة خير تشفع له وقال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال له جبريل آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.

 

وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن ما تذكرون من جلال الله - من التسبيح، والتكبير، والتحميد - يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يذكرن بصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن يكون له من يذكر به؟ ولهذا من رجحت حسناته على سيئاته أفلح ولم يعذب، ووهبت له سيئاته لأجل حسناته، ولأجل هذا يغفر لصاحب التوحيد ما لا يغفر لصاحب الإشراك، لأنه قد قام به مما يحبه الله ما اقتضى أن يغفر له، ويسامحه ما لا يسامح به المشرك، وكما كان توحيد العبد أعظم، كانت مغفرة الله له أتم، فمن لقيه لا يشرك به شيئا البتة غفر له ذنوبه كلها، كائنة ما كانت، ولم يعذب بها.

 

ولسنا نقول: إنه لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد، بل كثير منهم يدخل بذنوبه، ويعذب على مقدار جرمه، ثم يخرج منها، ولا تنافي بين الأمرين لمن أحاط علما بما قدمناه. ونزيد هاهنا إيضاحا لعظم هذا المقام من شدة الحاجة إليه: اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور - قوة، وضعفا - لا يحصيه إلا الله تعالى.

 

فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس.

ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري.

ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم.

وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.

 

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم، وبين أيديهم، على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا.

 


 

المصدر:

ابن القيم، مدارج السالكين، ص337

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مدارج-السالكين
اقرأ أيضا
من الذي اخترع لفظ الاختلاط ج2 | مرابط
فكر مقالات المرأة

من الذي اخترع لفظ الاختلاط ج2


يعتبر الاختلاط بين الجنسين من أكثر المناطق الشائكة التي يصطدم فيها المنهج الإسلامي مع المنهج العلماني بين القبول والرفض بين الإباحة والمنع ونحن في هذا المقال نقف على عدد من التساؤلات والنقاط هل لفظ الاختلاط دخيل على الإسلام هل صحيح أن المذاهب الفقهية الأربعة لم تعرف مسألة الاختلاط بين الرجال والنساء وهل فعلا المجتمع الغربي لا يعرف فكرة الفصل بين الجنسين وما هي ملامح أزمة الاختلاط في واقعنا المعاصر وغير ذلك من النقاط الهامة

بقلم: إبراهيم السكران
1314
الحلال والحرام في الرسم | مرابط
مقالات

الحلال والحرام في الرسم


مقال موجز فيه تفصيل وتوضيح للحلال والحرام فيما يخص الرسم والنحت وما يندرج تحت ذلك مثل التصاوير والدمى وغير ذلك.. فقد كثر اللغط في هذا الموضوع ولم يعد الناس يتحرون فيه ما يحل وما يحرم وبين يديكم هذا التفصيل للشيخ قاسم اكحيلات

بقلم: قاسم اكحيلات
349
ليس مثل الصحابة أحد | مرابط
اقتباسات وقطوف

ليس مثل الصحابة أحد


مقتطف بديع للإمام ابن قيم الجوزية من كتابه إعلام الموقعين يتحدث فيه عن مكانة الصحابة وكيف أن الواحد منهم كان يرى الرأي فينزل القرآن مؤيدا له في أكثر من حادثة ويضرب الكثير من الأمثلة على ذلك ثم يسأل بعد ذلك كيف لأحد منا أن يساويهم أو يدانيهم إنهم سادتنا وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرا من رأينالأنفسنا

بقلم: ابن القيم
1114
التوبة والندم | مرابط
اقتباسات وقطوف

التوبة والندم


مقتطف من كتاب التوبة لابن أبي الدنيا يعرض لنا بعض الأحاديث والآثار أو الأخبار فيما يخص التوبة وهل الندم يدخل في معنى التوبة أم لا وهل التوبة تخلص العبد من عقوبة الله عز وجل أم لا وهل التوبة تكفي للتخلص من آثار الذنوب

بقلم: ابن أبي الدنيا
636
نسبية الحق والإنسان المؤله | مرابط
اقتباسات وقطوف

نسبية الحق والإنسان المؤله


إن هذا المؤمن بنسبية الحق هو شخص مؤله لنفسه وذاته وما ادعاؤه لحب البشر واحترامه لهم ورحمته بهم إلا محاولة أخرى لتشبيه نفسه بالرب الرحيم العطوف كأنه في منافسة خفية مع ذلك الرب الأعلى الذي يؤمن به كثير من البشر تاركينه هو ذلك البشري الإله بلا عبادة ولا حمد برغم عطفه وحبه لهم

بقلم: عمرو عبد العزيز
639
زهد عائشة رضي الله عنه | مرابط
مقالات

زهد عائشة رضي الله عنه


حدثنا عبد الله حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رحمها الله قالت: ما شبعت بعد النبي صلى الله عليه وسلم من طعام إلا ولو شئت أن أبكي لبكيت وما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم حتى قبض

بقلم: أحمد بن حنبل
1108