الصين والمسلمون ودورة التاريخ

الصين والمسلمون ودورة التاريخ | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

2239 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

من المسلَّمات في الدراسات التاريخية، وفي الواقع البشري أن للتاريخ دوراتٍ، تتداول فيها الأمم قيادة البشرية، وهذا التداول الذي يتم بإرادة إلهية يدفع الله به الفساد عن الناس؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. كما قد ينتج عن هذا التداول والتدافع أضرارٌ للبعض، فهناك -دائمًا- قويٌّ منتصرٌ يجني ثمار جهده، كما أن هناك ضعيفًا خاسرًا يقع تحت سلطان القوي.

 

شهادة التاريخ على سنة التداول

 

وقد كان التاريخ -دائمًا- شاهدًا على هذا التداول، فكان شاهدًا على نفوذ وجبروت المصريين القدماء ثم نهايتهم على أيدي البطالمة. كما شهد التاريخ عُلُوَّ الرومان وطغيانهم، وتجبرهم في الأرض ومعاناة الناس من قسوتهم وجبروتهم. كذلك شهد التاريخ نفس الأمر بالنسبة للدولة الفارسية حتى جاء الإسلام والمسلمون فأزالوا الطغيان الرومي والفارسي، وأشرق نور العدل على البشرية، وعرف البشر معنى المساواة، وتذوقوا معاني جديدة لم يتذوقوها من قبلُ، وطرقت أسماعَهم ألفاظٌ لم يألفوها كالرحمة والعدل والحرية والشورى.
 
وظل المسلمون في المقدمة حتى تخلوا عن المنهج الرباني، فكان لزامًا أن تُطَبَّق عليهم السُّنَّة الإلهيَّة في التداول والتدافع، فكان أن سقطت الخلافة الإسلامية العثمانية وتمزقت، وتفرَّق المسلمون أياديَ سَبَأ، وورثت بريطانيا وفرنسا ميراث الخلافة الإسلامية، وأصبحتا القوتين العظميين، حتى من قبل سقوط الخلافة بعشرات السنين، وذلك إبَّان ضعفها.
 
وجرت هذه السُّنة -سُنة التداول بين الأمم- على بريطانيا وفرنسا كما جرت على غيرهما من المسلمين وغير المسلمين، فجاءت الحرب العالمية الثانية، وظهر الوارثان الجديدان: أمريكا والاتحاد السوفيتي، فعاثا في الأرض فسادًا، وملآها رعبًا، ولم يتعلَّما من كل تجارب التاريخ، فجرت السُّنة على الاتحاد السوفيتي وسقط، وجاء دور الولايات المتحدة التي كلَّما مرت السنون تهاوتْ، وكلَّما شعرت بالأرض تميد تحت قدميها، حاولت التغطية على ضعفها بمزيد من التجبر والطغيان.

 

التهاوي الأمريكي والأخطبوط الصيني

 

إنه من بَدَهِيات القول أن أمريكا تتهاوى وتترنح، والسنة الإلهية في التداول واقعة عليها لا محالة، ولكنْ مَنِ العملاق الذي يبدو في الصورة الآن ينمو ويكبر ويتحدى، ويزيد من إمكانياته، وقوته ليحتل الصورة كاملة عقب سقوط الولايات المتحدة الوشيك؟
 
العملاق الصيني الاقتصادي.. إنه الصين.. نعم لقد أعدَّت الصين نفسها جيدًا، حتى تقوم بذلك الدور، وتستعصي على محاولات أمريكا إقصاءها، لقد مدَّ الأخطبوط الصيني أذرعه في مختلف بلاد العالم عن طريق منتجاته المتنوعة حتى أضحت الصين من أقوى دول العالم اقتصاديًّا، بل هي الأولى من حيث النمو بمعدلات غير مسبوقة.
 
ولكن الصين لم تكتفِ بالقوة الاقتصادية الكاسحة، فهي تسعى للعب الدور الأول عالميًّا، وتريد أن تكون القطب الأعظم إن لم يكن الأوحد؛ لذا كان من الطبيعي أن تسعى لتنمية وتضخيم قواها العسكرية، وهذا ما كان!
 
فقد قرأنا منذ أيامٍ أنَّ الصين قد زادت ميزانيتها العسكرية لهذا العام بنسبة 18% تقريبًا، ليصبح حجم الإنفاق العسكري الصيني 45 مليار دولار في العام الجاري، وهذه الزيادة تعني أن الصين تخطو خطواتها الأخيرة نحو استغلال ترنُّح الولايات المتحدة الأمريكية، وقرب سقوطها؛ لتحتل مكان الصدارة والرِّيادة في المستقبل القريب.

 

الخمول الإسلامي واستمرار المعاناة

 

هذه هي الصورة بالنسبة إلى الصين، فما حقيقة الصورة بالنسبة لنا نحن المسلمين؟
 
إن حالة الخمول التي يعيشها الكثير من المسلمين تعني أننا قد نكون بصدد استمرار المعاناة والمهانة والضغوط في المرحلة القادمة؛ لأننا لم نقم بما يجب علينا أن نقوم به، لم نقم بما قامت به الصين من إعدادٍ للقوة بمختلف أنواعها، ولم نرجع في ذات الوقت إلى مصدر قوتنا وعزتنا: الإسلام دين الله U، وتعاليمه وأخلاقه التي تدعو إلى قيادة البشرية وإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة رَبِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الدنيا والآخرة، كما تدعو المسلمين إلى الإمساك بأَزِمَّة التقدم في كل المجالات. فنحن ما زلنا نُرَاوِح مكاننا، ولو شئنا لكُنَّا الآن في المكانة السامقة، ندقُّ بأيدينا أبواب المستقبل، وننتزع مقعد القيادة من قوى الشرق والغرب عن جدارة واستحقاق.. فهل نفعل؟!!

 


 

المصدر:

د. راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، ص56

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الصين
اقرأ أيضا
القوامة وظلم الزوجة | مرابط
أباطيل وشبهات النسوية المرأة

القوامة وظلم الزوجة


إن نظرة بسيطة تتفحص عالمنا -الذي ما فتيء ينادي ويصرخ بالمساواة العمياء بين الرجل والمرأة- لتكشف لنا عن حقيقة تميز الرجل في مختلف بلدان الداعين إلى المساواة لذلك أسأل القارئ الكريم: كم نسبة الوزيرات إلى الوزراء في دول العالم الذي ينادي بالمساواة بين الجنسين وكم نسبة الملوك والرؤساء من النساء في تلك البلاد وكم نسبة نساء الدولة والبرلمان وقادة الأخزاب إلى الرجال في هذه الدولة

بقلم: منقذ محمود السقار
2104
دلالة التواتر على حجية السنة النبوية | مرابط
تعزيز اليقين إنفوجرافيك

دلالة التواتر على حجية السنة النبوية


إن إثبات صحة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا في شأن لزوم اتباع سنته يتطلب علما خاصا بالرواة والأسانيد وقوانين علم الحديث غير أن هناك أمورا كثيرة ثبتت عنه بنقل متواتر لا يتطلب ذلك العلم الخاص ولا يختلف كل من ينسب نفسه إلى شيء من العلم بالشرع في أنها ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم وفيها ما يبلغ أعلى ما يمكن أن يبلغه التواتر عند عموم البشر مما لا ينازع فيه أحد إلا السفسطائيون وأشباههم كالمنازعة في وجود شخص المسيح عليه السلام وفي وجود فراعنة مصر في التاريخ ونحو ذلك

بقلم: أحمد يوسف السيد
1625
الميزان العقلي ومنطق اليونان | مرابط
اقتباسات وقطوف

الميزان العقلي ومنطق اليونان


مقتطف فيه رد شيخ الإسلام ابن تيمية على كلام الغزالي الذي جانب الشرع في تفسير معنى الميزان الوارد في القرآن الكريم والسماء رفعها ووضع الميزان وذلك في كتابه المسمى القسطاس المستقيم حيث أرجع موازين القرآن إلى ثلاثة أصول: ميزان التعادل وميزان التلازم وميزان التعاند وهذا هو عين المنطق اليوناني

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2299
أعظم الظلم في ميزان الوحي | مرابط
مقالات

أعظم الظلم في ميزان الوحي


قال تعالى: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ۚ إنا من المجرمين منتقمون السجدة : 22 وهذا المعنى تشهد الفطر والعقول السليمة بحسنه فالرب تعالى له أعظم الحق لكماله وإنعامه فجحد حقه والإعراض عن آياته أعظم ظلم وجرم فالله تعالى أرسل لهذا الظالم من ذكره بآيات ربه الذي يريد سبحانه تربيته وتكميل نعمته على أيدي رسله تأمره وتذكره مصالحه الدينية والدنيوية وتنهاه عن مضاره الدينية والدنيوية التي تقتضي أن يقابلها بالإيمان والتسليم والانقياد والشكر..

بقلم: د. طارق عنقاوي
407
صناعة الخطوات | مرابط
فكر

صناعة الخطوات


ليست المشكلة فقط في تهوين الحرام والعلاقة المحرمة.. بل في صناعة خطوات شيطانية مقترحة لكل زوج أو زوجة شعرا بالظلم!! كم من زوج أو زوجة شعرا بالإهمال أو الظلم من الطرف الآخر لكنهم لم يفكرا ولو للحظة بالخيانة!! اليوم يفتحون أذهانهم على هذا البدليل المفسد للدنيا والآخرة!!

بقلم: د. أيمن خليل البلوي
439
قضايا يدور حولها الجدل: الحرية | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

قضايا يدور حولها الجدل: الحرية


إن رسالة الرسل كان فيها من معاني الحرية ما هو أكثر من ذلك وهي تخليص الإنسان من معاني العبودية الخفية التي لا يشعر بها كالخضوع للمال وعبادته أو للشهوة وعبادتها وفي هذا المقال يقف بنا المؤلف على مفهوم الحرية لفحص ما أثارته من الجدل وتوضيح معناها السليم

بقلم: أحمد يوسف السيد
1897